مع سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي، تحول الجنوب الليبي الممتد بين الحدود الجزائرية غربًا والحدود المصرية شرقًا، خارج نطاق السيطرة بشكل كامل، وذلك في ظل غياب الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، وصار ساحة مفتوحة أمام نشاط عصابات الإجرام وتهريب السلع والبشر والسلاح، كذلك تحوّل مرتعا للجماعات والتنظيمات المسلحة، من عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي إلى حركات التمرد السودانية.

إقليم فزان أحد أهم المناطق الاستراتجية في ليبيا

يعيش بجنوب ليبيا قرابة 400 ألف نسمة، 97% منهم من القبائل العربية، و3الباقية من مكوني الطوارق والتبو، ولجنوب ليبيا حدود طويلة مع دولتي تشاد والنيجر.

ويتركز مكون التبو في مناطق ” مرزق، القطرون، أم الأرانب، وجزء بسيط في مدينة سبها كبريات مدن الجنوب” بينما يعيش الطوارق في “أوباري، غات، مكنوسة، العوينات، تقرطين. بينما تنتشر القبائل العربية في ” الشاطئ، سبها، سمنو، زيغن، البونيس، أوباري، مرزق، القطرون، غات، تمسه، زويلة، راغن، أم الأرانب.

وشهدت مدن الجنوب الليبي خلال السنوات الأخيرة صراعا مسلحا بين عدد من القبائل التى لها حضور كبير و تتقدمه قبيلة أولاد سليمان التى أعلنت دعمها للقوات المسلحة الليبية وقبائل التبو التى تدعمها عدد من قبائل التبو فى تشاد والنيجر.

 ويعد الجنوب ممرا لتهريب الأسلحة والهجرة غير الشرعية وتجارة البشر وهو ما يهدد أمن واستقرار القارة العجوز، ما دفع فرنسا لتكثيف اتصالاتها خلال الفترة الأخيرة مع القبائل التى تسيطر على مدنه سيما سبها التى تعد أحد أبرز مدنه. 

وتبسط قبائل التبو سيطرتها على منطقة سبها من جهة المدخل الجنوب الشرقى وحتى حدود تشاد والنيجر، وتسيطر قبيلة أولاد سليمان على جزء كبير من المدينة باعتبارها القوة الأبرز فيها إلى جانب وورفلة والمحاميد والقذاذفة.

أكبر منفذ لتوريد الهجرة غير الشرعية:

أصبح جنوب ليبيا المنفذ الأكبر لتوريد الهجرة غير الشرعية لأوروبا، إذ تعمل عصابات منظمة من مختلف مكوناته الاجتماعية “العرب، التبو، والطوارق” على جلب المهاجرين غير الشرعيين من دول إفريقية، وتوصلهم إلى منافذ بحرية عدة "بطرابلس، وزوارة، وتاجوراء".

وتختلف العلاقة بين المهربين والجماعات المسلحة تبعًا للموقع، ففي الجنوب يبدو أن المهربين يستفيدون من روابطهم المحلية العرقية والقبلية والعائلية، لضمان التنقل بالمناطق “المألوفة لهم”. وبمجرد وصولهم إلى مناطق توجد بها عوائق، ينقلون المهاجرين إلى مهربين آخرين، مع تأمين الاتصالات اللازمة. وتنفذ جماعات من قبائل “التبو” و”الطوارق” عمليات تهريب بهذه الطريقة اللامركزية.

وفي الجنوب الغربي، يبدو أن مدينة “سبها” هي أكثر نقاط الانتقال شيوعًا بين المهربين، الذين يتعاملون مع تدفقات المهاجرين عبر الحدود من الدول المجاورة، وينتقلون ويسهلون حركة المهاجرين إلى الساحل.

وفي شمالي سبها، والمدن الساحلية الشمالية خاصة، كثيرًا ما تشارك الجماعات المسلحة مباشرة في التهريب، فمن الصعب إدارة عمليات في هذه المناطق دون دفع “إتاوات” لتلك الجماعات. وفي هذه المواقع، تتحكم الجماعات المسلحة في المناطق القريبة من الساحل، وتحمي نقاط انطلاق القوارب.

وتمثل مدينة “الزاوية” (شمال غرب)، وهي إحدى النقاط الأساسية للمهاجرين إلى أوروبا، مثالًا على ذلك النفوذ، ونافذة على طريقة عمل اقتصاد الحرب.

ويقع فرع إدارة مكافحة الهجرة غير الشرعية في “الزاوية” تحت سيطرة ميليشيا تدعى “لواء النصر”، ويقع مقر الميليشيا في مركز الاحتجاز الحكومي نفسه. وورد أن قائد خفر السواحل بـ”الزاوية”، عبد الرحمن ميلاد، على صلة وثيقة بأحد قادة “لواء النصر”، ويدعى محمد الخُشلاف.

وعلى مدى السنوات الماضية عبر حوالي 600.000 شخص البحر من ليبيا إلى إيطاليا عبر المتوسط، وقد وصل معظم هؤلاء المهاجرين إلى ليبيا عبر أغاديس، بعد أن عبروا أراضي النيجر بمعدل 100.000 شخص في السنة في المتوسط منذ العام 2000، حسب الباحثين في معهد كلينجيندايل هولندا للعلاقات الدولية. 

وبعد العام 2011، ارتفعت أعداد العابرين بحدة، وبلغت ذروتها عندما وصلت إلى 330.000 مسافر في العام 2016. أما الآن، فإن عدد الذي يشقون طريقهم نحو الشمال من أغاديس ربما يكون قد انخفض إلى أقل من 1.000 شخص في الشهر.

كما أصبحت تجارة السلاح رائجة بجنوب ليبيا حيث تذهب هذه الأسلحة إلى عدة دول إفريقية ومجموعات مسلحة متشددة، وعرقية بمالي وتشاد والنيجر، إضافة إلى تجارة الرقيق والمخدرات وتهريب السلع التموينية والوقود من ليبيا إلى هذه الدول، وجلب التبغ والمخدرات إليها.

تهريب السلاح:

منذ سنوات، تصنف ليبيا خاصة الأراضي الجنوبية منها، بكونها سوقًا ونقطة عبور للأسلحة من غربي أفريقيا إلى شرقها، كما تأكد استخدام مخازن أسلحة بكثافة في العنف الذي مارسه “الطوارق” والجماعات المسلحة في مالي، العام 2012.

ودعمت هذه المخزونات الجهات المسلحة في جميع أنحاء منطقة الساحل بمعدات عسكرية، تضمنت أسلحة صغيرة وأنظمة دفاع جوي محمولة على الكتف.

وتم الكشف عن أسلحة مهربة من ليبيا في ساحة الحرب السورية، إذ يعتقد بوصول أسلحة إلى تنظيم “داعش”.

ينقل متمردو (إقليم) دارفور (غربي السودان) أسلحة ثقيلة، كالأسلحة المضادة للطائرات والمدافع المضادة للدبابات، من ليبيا إلى دارفور.

ومن المرجح أن جهود منع التهريب لعبت دورًا في الحد من هذه التدفقات، منذ 2014، لكن ذلك جاء بالتزامن مع تزايد الطلب المحلي على الأسلحة في ليبيا، بجانب ارتفاع وتيرة الصراع الداخلي.

منذ 2011، تم استخدام أساليب معقدة، تضم شبكات إجرامية دولية ودولًا أجنبية (من بينها تركيا وقطر)، لنقل الأسلحة، خاصة عالية التقنية، إلى العناصر الليبية، ما يعد انتهاكًا لحظر الأسلحة، الذي تفرضه الأمم المتحدة.

و يظل انتشار السلاح في جل المدن الليبية، وخاصة جنوب ليبيا، أحد أهم التحديات التي تواجه المؤسسات الحكومية في فرض الأمن والاستقرار وحماية المواطن.

تهريب الوقود أكبر المنافذ إلى تشاد والنيجر:


في يناير/كانون الثاني 2017، أفاد مكتب التحقيقات الخاص بالمدعي العام الليبي بأن تهريب الوقود كلف البلاد خمسة مليارات دينار (3.6 مليار دولار)، دون تحديد فترة زمنية، في حين أفاد تقرير رسمي، بأن الدولة الليبية تسلمت حوالي 15 بالمائة فقط من الدخل المتوقع من الضرائب على منتجات الوقود المكرر الموزَّع محليًا، بين يناير/كانون الثاني ونوفمبر/تشرين الثاني 2017.

ويعتقد مكتب التدقيق الليبي أن حوالي 30 بالمائة من الوقود المدعوم يتم تهريبه، ويرجح أن الدولة خسرت نحو 1.8 مليار دولار سنويًا على مدى السنوات الخمس الماضية.

ويتم تهريب الوقود بثلاث طرق رئيسة: التهريب البري عبر الحدود لكميات صغيرة، وتحويل إمدادات الوقود داخل البلاد بشكل غير قانوني، ليتم بيعها بأسعار السوق السوداء (الموازية)، بدلًا من الأسعار المدعومة، والتهريب البحري لكميات كبيرة. والأكثر شيوعًا هو عبور مجموعة صغيرة نسبيًا من المهرّبين الحدود التونسية، باستخدام سيارات معدلة وعربات صغيرة مزودة بخزانات وقود كبيرة الحجم أو سلسلة من الدِلاء البلاستيكية الصغيرة.

وكشف تقرير لجنة مجلس الأمن الدولي المعنية بالشأن الليبي، معلومات عن عمليات التصدير غير المشروعة للمنتجات النفطية المكررة تتم عن طريق البر في ليبيا.

وأوضح التقرير المؤقت لفريق الخبراء المعني بليبيا المنشأ عملا بالقرار 1973"2011"، أن عمليات التصدير غير المشروعة للمنتجات النفطية المكررة، تجرى براً في جميع أنحاء ليبيا على مستويات مختلفة، مبيناً أنه ورغم أنه لا توجد أرقام في هذا الشأن، فإن شبكات التهريب متمرسة بشكل أكبر في غرب البلد وجنوبه. وأضاف التقرير، أن الوقود ينقل في غرب ليبيا من الزاوية إلى زوارة وغيرها من القرى المجاورة، ومن هناك يعبر براً إلى تونس, مشيرا إلى أن المهربين يقومون من زوارة بعبور الحدود بصورة غير قانونية على طول مسارات تقع جنوب رأس جدير وعلى مقربة من العسة، حيث تزاول شبكات التهريب الأخرى أيضا أنشطتها غير المشروعة في منطقتي وزان، والذهبية الحدوديتين.

وتقدّر لجنة أزمة الوقود و الغاز تكلفة الكميات المهربة من البنزين البالغة 21.66 مليون لتر بحوالي 16.245 مليون دينار ليبي بسعر 0.75 درهم للتر، فيما تبلغ تكلفة الديزل البالغة 5.65 مليون لتر حوالي 5.650 مليون دينار ليبي.وأوضحت لجنة أزمة الوقود والغاز أن هذه الكمية تم تهريبها إلى دول تشاد والنيجر، كما نشرت اللجنة أسماء الـ27 محطة وقود بالجنوب التي تم إيقاف تزويدها بالوقود استعدادًا لسحب الترخيص، وذلك بعد أيام من حديث رئيس لجنة أزمة الوقود والغاز ميلاد الهجرسي بأن اللجنة تلقت معلومات تؤكد وجود عمليات تهريب وفساد من أجل خلق أزمة.

ورغم إعطاء الجنوب أولوية في تسيير شحنات الوقود ومنتظمة للرفع من معاناة المواطنون، فإن عمليات التهريب حالة دون تخفيف هذه الأعباء، إذ وجّه مصطفى صنع الله رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، سابق شركة البريقة لتسويق النفط بإعطاء الأولوية المطلقة في تسيير شحنات عاجلة ومنتظمة للرفع من معاناة أهالي الجنوب.

وكانت الأوضاع الأمنية بالمنطقة الجنوبية وداخل مدينة سبها قد أعاقت عمليات التوزيع مما يتعذر معه على شركة البريقة توسيع رقعة التوزيع. وفي هذا الإطار ناشدت المؤسسة الوطنية للنفط جميع الأطراف والقبائل بالتعاون لإيصال الوقود إلى جميع المناطق دون استثناء.

وفي خضم الأزمة تحدث المجلس البلدي صبراتة من تزايد وتيرة عمليات تهريب الوقود خلال الفترة الأخيرة، متهمًا مجموعات مسلحة لم يسمها بحماية تلك العمليات، معربًا في الوقت نفسه عن عن استيائه الشديد من كثرة عمليات تهريب الوقود حتى باتت تجارة رائجة يمارسها تجار الأزمات والمهربون بشكل يومي.

واعترف المجلس البلدي بأن كافة التدابير والإجراءات التي اتخذها بشأن مكافحة ومحاربة التهريب «لم تف بالغرض ولم تسهم في إيقاف هذه الظاهرة التي أثقلت كاهل الاقتصاد الليبي وتسببت في نقص وانقطاع الوقود بأنواعه وغلاء سعره في بلدية صبراتة، وتسببت أيضًا في غلق أغلب محطات الوقود الرسمية في البلدية وكثرة طوابير السيارات على المحطات التي تعمل بصورة متقطعة».

وأشار إلى أن هذه الظاهرة تزايدت في الأونة الأخيرة خاصة خلال الفترة الليلية وفي الصباح، وبحماية من مجموعات مسلحة في ظل عجز الجهات الأمنية عن مكافحتها ومحاسبة ومعاقبة المتورطين فيها، منوهًا بأنه عجز على إيجاد حل لإيقاف عمليات تهريب الوقود.

الجنوب سوق مزايدات بين السياسيين:

يرى بعض المحللين أن بُعد الجنوب الليبي رغم أهميته الاقتصادية لليبيا عن الساحل والعاصمة الليبية طرابلس، والمنافذ البحرية جعله سوقا للمزيدات بين السياسيين، في الوقت الذي لم تقم فيه الدولة بأي خطط أو برامج تنموية تخرجه من حالته المتمثلة في شبه انهيار أغلب البنى التحتية، فالجنوب وبحسب اعتقاد بعض المراقبين غير مؤثر على مجريات القرار بالعاصمة طرابلس.

كما يواجه الجنوب أزمة ديمغرافية على المدى القريب والبعيد، فبحسب مصادر من الجنوب، هناك العديد من التبو والطوارق من أصول إفريقية قام نظام القذافي السابق بمنحهم الجنسية الليبية، حتى يكونوا سنده في حربه التي خاضها ضد ثوار فبراير/شباط.

إلا أن هذه المجموعات واجهت مشكلة في صرف مرتبات منتسبيها والانتساب للمدارس والحصول على حقوق المواطنة الأخرى بسبب عدم قدرتهم الحصول على الرقم الوطني الذي أضحى عاملا مهما للتحقق من الجنسية الليبية بموجب أوراق ثبوتية صحيحة.

فمن حين إلى آخر تقوم هذه المجموعات بإثارة القلاقل وإغلاق بعض الحقول النفطية بالجنوب، كما أصبحت سوقا سهل الحصول عليه بالنسبة للكتائب المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة.

وتحاول فرنسا ذات التاريخ الاستعماري بالجنوب استمالة قبائله العربية والعرقية، والدخول إليه باعتباره منفذا هاما من الناحية الاقتصادية ومدخلا أكثر أهمية بالنسبة لها للعمق الإفريقي. 

ومن جانبهم يؤكد أغلب سكان جنوب ليبيا أن فزاعة الجماعات المتشددة التي تستعملها فرنسا كحجة لها للسيطرة على جنوب ليبيا لا تتمتع بالوجاهة الكافية أو الأدلة الدامغة، رغم اعترافهم بوجود بعض المجموعات المتشددة، إلا أنهم يصرون على أن هذه الجماعات لا تشكل “وكر أفاع” كما حاول وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان تصوير ذلك في أكثر من مناسبة، فالأمر لا يعدو حربا على ومن أجل التهريب حسب اعتقادهم.