كان المشهد صادمًا، وسرياليًا، في ذلك اليوم الثقيل من عام مثخن بجراح الحرب. المشهد المأساوي لزعيم ميليشاوي يلهث في اتجاه مطار طرابلس سائرا مع مقاتليه عبر أحد أسواره الشائكة، وفي خلفيّة المشهد كان الدخّان يتصاعد من المدرج، وصوت التكبيرات يتعالى مبشّرا باحتراق المطار.. كان ذلك المشهد عبثيًا لدرجة غير قابلة للتصديق !

مطار طرابلس حالة خاصّة في الملاحة الجوية الليبيّة، فهو من أقدم مطارات البلاد، أنشئ في الثلث الأول من القرن العشرين، أي قبل استقلال البلاد بـ20 سنة، وكان في أصله مركزا لسلاح الجو الإيطالي، قبل أن يتم تطويره على مراحل خلال فترة الاستعمار الإيطالي، أين سيّرت منه أول الرحلات الجويّة نحو أوروبا وتونس، ثم استخدم قاعدة للقوات البريطانيّة خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد استقلال البلاد كان مطارا جاهزا للرحلات الجويّة وتمت تسميته بمطار إدريس الدولي خلال الفترة الملكية، ثم مطار طرابلس العالمي بعد ثورة الفاتح من سبتمبر التي قادها العقيد معمّر القذافي سنة 1969، أين بقي لعشرات السنوات من أكثر مطارات ليبيا حركيّة.

يقع مطار طرابلس الدولي قرب منطقة قصر بن غشّير جنوب العاصمة طرابلس، هو المطار الأهم في البلاد لعشرات السنين قبل أن تُغيّر وضعيته أحداث فبراير 2011 التي أطاحت بالعقيد القذّافي، وتحوّله إلى ساحة تحارب بين مختلف القوى المتصارعة في البلاد، التي جعلت منه مجرّد بنايات مخرّبة أكلتها النيران من مختلف زواياه، حيث لم تسلم حتى طائراته من الدمار في أسوء مشهد يمكن أن تراه أعين الليبيين.

maxresdefault.jpg

أول تعطيل للطيران شهده المطار خلال أحداث فبراير 2011. ففي شهر مارس من تلك السنة أصدر مجلس الأمن القرار 1973، القاضي بحظر الطيران في ليبيا، بزعم استخدامها من طرف النظام السابق في النزاع الدائر. القرار الذي كان خطوة أولى نحو تورّط غربي وإقليمي في ليبيا،  أوقف العمليات الجويّة في طرابلس لكن لم يؤثر على قدرات النظام الميدانية إلا في فترات لاحقة عندما دخل حلف الناتو على خط المواجهة ووقف إلى جانب التنظيمات المسلحة التي كشفت مخططاتها منذ تلك اللحظة.

المهم أن المطار توقّف منذ ذلك التاريخ عن العمل إلى حين إسقاط النظام وسيطرة المليشيات والتنظيمات الإرهابية على العاصمة طرابلس. السيطرة شملت مطار طرابلس كجزء من عملية كاملة في الصراع الدائر في ليبيا آنذاك. كتائب الزنتان هي التي توجّهت نحو المطار بزعم تأمينه. والواقع أن تلك الكتائب أدركت مبكّرا مثلها مثل غيرها أن "الثورة" هي مجموعة غنائم فيها ما هو مادّي ملموس وفيها ما هو استرتيجي من خلال عدد من المواقع فكان المطار هو الوجهة والخيار الأوليين بالنسبة إليه.

18765643_854462011401688_6577703352349113058_n.jpg

بقيت تلك الكتائب مسيطرة على المطار بحجة حمايته وتسيير خدماته، لكن الطابع غير الرسمي فيه كان واضحا، حيث طبعت نفسها بما هو رسمي من خلال الأزياء الرسمية، لكن الخلاف بقي واضحا بين الفرقاء وقتها في كيفية التسيير خاصة في وجود عدة تجاوزات خاصة بحق المسافرين، أو من خلال الانفلاتات التي تحصل بين عناصر الكتائب، لكن في العموم حافظ المطار على حركيته في الحدود الدنيا إلى العام 2014، أين ستدخل أطراف الإسلام السياسي المجروحة من انتخابات مجلس النواب، على خط المعركة ولتنتقل المعركة إلى مطار طرابلس وتُفتحُ في تاريخه صفحة جديدة بالتأكيد كان السواد هو الطاغي فيها.

بعد انتخابات مجلس النواب في يونيو 2014، أحس إسلاميو ليبيا أنهم خارج الخيارات الشعبيّة على الأقل في أولويّة التمثيل. كانت تلك الانتخابات الثانية التي يكونوا فيها خيارا متأخرا، فاختاروا أن يردّوا الفعل في المواقع المفصلية. مطار طرابلس كان جزءا من ذلك الردّ، حيث اختارت مليشيات فجر ليبيا الموالية للإخوان المسلمين هي المبادرة بالتوجّه نحو المطار. وكعادة الإسلاميين في خصوماتهم ومعاركهم، لا يحسبون حسابا لعواقب أفعالهم وهذا ما وقع بالضبط في معركة المطار.

في منتصف يوليو 2014، أي بعد شهر أوقل من نتائج انتخابات مجلس النواب، بدأت "فجر ليبيا" بقيادة صلاح بادي ما سمته عمليّة عسكرية لتحرير مطار طرابلس من كتائب الزنتان. العمليّة كانت مدعومة من الأطراف الإسلاميّة، بل إنها استندت على فتاوى الصادق الغرياني، ليختلط ما هو مادّي منفعي بما هو ديني ولتدخل المنطقة في حالة من الفوضى صحيح أن فجر ليبيا حسمتها، لكن أنهت أيضا كل مظاهر الحياة في المطار بعد تحطيم كل بنيته التحتية ومدارجه ولم تسلم حتى طائراته في مشهد مازال عالقا في أذهان الليبيين إلى اليوم.

6c234d0b-8707-4e5c-9cc7-f26958bc1050_16x9_1200x676.jpg

خلال تلك الفترة، كانت الصورة متأتية من مصدر واحد، هي قناة النبأ الصوت الأول لإسلاميي ليبيا. كانت القناة تنقل عبر شاشتها مشاهد الدمار، وصورة صلاح بادي مفتخرا بما قام به، إضافة إلى مشاهد مسلحي فجر ليبيا وهم يرقصون على أجنحة الطائرات. كانت تلك اللحظات أصعب على الليبيين في قسوتها حتى من لحظة 2011. 

ربما من تلك الصور بدأ جزء كبير يراجع نفسه من سلسلة الأحداث في بلاده من لحظة الإطاحة بالقذافي. كانت قناعة من كثيرين حتى من تحمسوا بداية، أن في الأمر خللا ما وأن ما تمّ التسويق له مجرّد دعاية اشترك فيها أعداء الداخل والخارج لتدمير البلد. كان لحظة صحوة نعم لكنها كانت متأخرة كثيرا لأن إمكانية الإصلاح وقتها لم تكن ممكنة.

بعد انتهاء المعارك وسيطرة "فجر ليبيا" عليه، تم الإعلان عن أن الملاحة الجويّة في مطار طرابلس قد توقفت بهدف الإصلاح. كل الأرقام كانت تشير إلى دمار كبير فيه. 90 بالمئة من الطائرات الموجودة تعرّضت لأضرار، وعدد منها تم تحطيمه أو حرقه بالكامل. لكن ذلك الإصلاح لم يكن إلا تسويقا إخوانيا لم يجد أي تطبيق على الأرض، فكان المطار ساحة للمعارك بين الفترة والأخرى إلى أن دخله الجيش الليبي أخيرا في معركة تحرير طرابلس التي قد تكون لو كتب لها النجاح معركة تحريره وإعادته تدريجيا إلى مكانته القديمة.

في منتصف العام 2015، وبعد أكثر من 10 أشهر من توقف الرحلات كليّا في المطار أعلنت حكومة الإنقاذ عن الشروع في عملية إصلاح وترميم شاملة تحتاج إلى مبلغ 60 مليون دينار تخصص من الموازنة العامة للدولة. وفي تصريحات لمحمد بيت المال مدير عام مصلحة المطارات بوزارة المواصلات الليبية في حكومة الإنقاذ، قال إن عملية الإصلاح لن تحتاج لأكثر من 4 أشهر يكون بعدها مطار طرابلس قادرا على استعادة نسقه، وهو لم يحصل لأن  حكومة الغويل (المؤقت) بعدها دخلت في صراع وعدم اعتراف بكل الأطراف شرقا وغربا معتبرة أن الشرعية تتوقف عندها وفقط.

خليفة الغويّل وفي ذروة الاختلاف السياسي وصراع الشرعيات دشّن في مارس 2015، حفلا لإعادة إعمار المطار مصرّحا أنها نقلة ستعيد وجه البلاد وستجلب لها الاستثمارات. الحفل كان بحضور عدد من الشخصيات المقرّبة من رئيس حكومة الإنقاذ الصوريّة، وصرّح خلاله أن إعادة إعمار المطار هو ما "يطمح له الشعب الليبي لرؤية الأسطول الجوي الليبي يعود للعمل" باعتباره أحد المشاريع الكبرى التي سيترتب عنها تطوير مختلف القطاعات في البلاد.

وعود "الإنقاذ" حول إعادة إعمار المطار بقيت في رفوفها كأغلب المشاريع في ليبيا، التي كانت لغة السلاح مساهمة رئيسية في تعطيلها. بقي المطار إلى حدود مايو 2017، على ما هو عليه حلبة للصراع وسيطر عليه لبعض الأشهر اللواء السابع ترهونة قبل أن يعلن تسليمه للقوى الأمنية بقصر بن غشير المنضوية شأنها شأن اللواء المذكور في ذلك الوقت تحت سلطة المجلس الرئاسي.

وفي تطوّر آخر حول إعادة بناء المطار أعلن رئيس المجلس الرئاسي في يونيو 2018 عن بدء العمل في إعادة تأهيل مطار طرابلس بعد تعطّل العملية لأشهر طويلة. وقال السراج في كلمه له خلال حضوره مراسم الاحتفال الذي أقيم بمناسبة الانطلاق الفعلي لمشروعات اعادة تأهيل المطار "لقد نجحنا في التغلب على المصاعب التي تسببت في تأجيل العمل لنشهد بداية العودة لمطار العاصمة الرئيسي". وأضاف عن إعادة المطار إلى نشاطه يعني تطورا في مؤشرات العديد من القطاعات الحيوية في ليبيا.

لكن ما بدأه السراج لم يكتب له النجاح بعد عودة الاشتباكات في محيطة، إثر رفض "اللواء السابع" في نهاية أغسطس 2018 تقدّم قوات تابعة لأمن أبوسليم بقيادة غنيوة الككلي، نحوه على أمل السيطرة عليه. اللواء السابع كان واضحا في هذه المسألة؛ لا أحد له الحق في الاقتراب من المطار دون تنسيق بين مختلف الأطراف وهذا لم يقم به الككلي المدعوم من السراج، معتقدا أن مخططه سيسير حسبما ما يريد وهو ما لم يحصل، حيث مسك اللواء الأمور على الميدان إلى أن تغيرت الخارطة الأمنية في أحداث العاصمة طرابلس المندلعة منذ أبريل 2019.

580 (1).jpg

في بداية شهر أفريل 2019، بدأ الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر عملية عسكرية لما سماه تحرير طرابلس ومن العصابات المسلحة وسطوة المليشيات. مطار طرابلس لم يكن خارج الأحداث أيضا في هذه المعركة. بشكل مبكّر أعلن الجيش الليبي سيطرته على المطار بطريقة مباغتة للسراج وحلفاؤه، الذين حاولوا ردّ الفعل لكن تمركزات الجيش على كامل تلك المساحة منع أي اقتراب ومنح الجيش انتصارا معنويا كانت له تبعاته في أكثر من منطقة بعد ذلك.

منذ بدء الحملة كان مطار طرابلس، مركزا في المعادلة. الجميع يدرك أن السيطرة عليه تعني جزءا من السيطرة على طرابلس، هو بوابة العاصمة في موقعه وأيضا في رمزيته. من يكسبه يكون قد كسب معنويات المعركة ومن يخسره فقط خسرها، وعلى ذلك بقيت حكومة الوفاق تنفي في كل مرّة سيطرة الجيش إلى خرجت الصور والفيديوهات من داخله.

في معركة طرابلس هناك أيضا حرب أخرى على هامش السلاح وهي حرب التحالفات. طرفا الحرب يسعيان إلى كسب أكثر ما يمكن من أعيان ومسلحي المنطقة الغربية. الجيش الليبي في هذا نجح في كسب أطراف من خارج العاصمة وضواحيها من لهم الرمزية المناطقيّة وأيضا القوة العسكرية. مكونات الزنتان أعلنت منذ بداية الحرب في طرابلس عن تأييدها للجيش لم تتوقف تلك المكوّنات عن إصدار بيانات التأييد وحتى الزيارات المباشرة لجبهات القتال والتي كان مطار طرابلس أحد محاورها، معتبرة أنها تعترف بجسم شرعي وحيد وهو مجلس النواب الذي انبثق عنه الجيش الليبي.

منذ العام 2011، لم يعش مطار طرابلس الدولي حالة استقرار، حتى الوضعيات التي بقي المطار يعمل فيها، كانت هشة والشعار الأساسي فيها التجاوزات. لكن الوضعية الأصعب والأخطر التي عاشها كانت بعد العام 2014، حيث أصبح ساحة دائمة للصراع ما أدّى إلى إغلاقه نهائيا أمام الملاحة الجويّة وبقي تحت سلطة الوعود الكثيرة التي تمنحها النوايا والوعود الكثيرة فرصة للإصلاح، ليبقى المطار الأهم في العاصة تحت رحمة قادة السلاح الذين يبدو أن صراعهم هم أيضا لا أفق لنهايته.