منذ بدء موجة ما عرف بالربيع العربي في كل من تونس ومصر كان لتركيا دور بارز في أغلب المراحل، نظرا لارتباطها بعدد من قادة الأحزاب السياسية ذات الطابع الديني التي تسيدت المشهد عقب سقوط الأنظمة في هذه الدول، إلا أن الموقف التركي في ليبيا كان مختلفا في البداية إذ حاولت السلطات التركية أن تبقى على اتصال بالنظام في ليبيا بعد أن اتخذت الأحداث منحى مختلفا عما كانت عليه في كل من تونس ومصر، حيث كان الحراك مسلحا واتخذ العنف طريقا له، الأمر الذي جعل العالم يتعاطى مع الحالة الليبية بطرق مختلفة ساد فيها خيار التدخل الخارجي الذي قادته فرنسا بالتضامن مع بعض الدول. ورغم أن تركيا أظهرت في البداية رفضا قاطعا للتدخل العسكري الخارجي في ليبيا، وحذرت من تكرار السيناريو العراقي، إلا أن موقفها سرعان ما تغير وانقلبت إلى دولة داعمة للتدخل بمجرد إتمام عملية خروج الرعايا الأتراك وعمال شركات البناء والمقاولات الذين كان عددهم يتجاوز 20 ألف شخص، وكان خروج معظمهم عبر مدينة مصراتة بتسيير رحلات جوية وبحرية دامت لعدة أيام بعد الحصول على موافقة السلطات الليبية بتوفير ممرات آمنة لخروجهم، حيث تم تأمين خروج قرابة ثلاثين ألف شخص بين مواطنين وعمال أتراك، ورعايا ومواطني دول أخرى.

وفي الوقت الذي كان عدد من الدول يثني على الدور التركي في تمكين رعاياها من الخروج الآمن إلا أن تقارير استخبارية أشارت إلى أن السفن التركية التي كانت مخصصة لنقل "العالقين" كان بعضها يورد كميات من الأسلحة، ويستقدم عناصر المتمردين المسلحين بينهم عناصر جماعات إرهابية قادت العمليات القتالية ضد القوات المسلحة الليبية، التي حذرت حينها من خطورة التعامل معهم وتمكينهم من السيطرة على البلاد إلا أن وتيرة الأحداث حينها جعلت من هذه التحذيرات تسوق إعلاميا كمحاولة من قبل "النظام" لشيطنة خصومه، وهو ما أثبتت الأيام خطأه، إذ سرعان ما تجلت الصورة الحقيقية لهؤلاء بمجرد تمكنهم من مفاصل الدولة بعد إسقاط النظام بفعل التدخل الخارجي.

ومنذ دخول تركيا بشكل فعّال ضمن مجموعة التحالف الدولي الذي عمل على إسقاط النظام في ليبيا، كانت الدول الغربية تنظر إلى الدور التركي بشيء من الريبة والتحفظ نظرا لأجندتها الأقليمية الراعية لتيار "الإسلام السياسي".

وجاء في تقرير لوكالة الأنباء البريطانية "رويترز" سنة 2014 حول الدور التركي عمّا شهدته ليبيا من أحداث وصراعات بين التيارات التي انقسمت علي بعضها واندلع بيها صراع مسلح في العاصمة طرابلس أن ليبيا سقطت "في بئر الفوضى بعد ثلاث سنوات من الإطاحة بمعمر القذافي، إذ تتصارع فصائل على السلطة، فيما سيطرت حكومة منافسة - تحظى ببعض التأييد من جماعات إسلامية - على العاصمة طرابلس.

وعينت تركيا مبعوثا خاصا في ليبيا، ليصبح أول مبعوث يلتقي علنا بالسلطات غير المعترف بها دوليا في طرابلس، في إطار جهود أنقرة لتعزيز مفاوضات سلام تدعمها الأمم المتحدة، وفقا لما صرح به مسؤولون أتراك. لكن الخطوة عززت الاعتقاد بأن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، عازم على المضي في سياسة دعم الحركات الإسلامية منذ انتفاضات "الربيع العربي" 2011، مما أضر بسمعة أنقرة في الغرب، بصفتها وسيطا إقليميا."

والمبعوث التركي الخاص بليبيا، أمر الله أيشلر، فقيه إسلامي يتحدث العربية بطلاقة، وهو من أهم مساعدي إردوغان، ويشير تعيينه في المنصب إلى أن سياسة تركيا في ليبيا - حيث تملك أنقرة نفوذا ثقافيا واقتصاديا كبيرا - لن تتغير على الأرجح، وقد عقد بالفعل عدة لقاءات مع عمر الحاسي الذي كان يترأس الحكومة المحسوبة على تيار الإسلاميين والمختارة من قبل المؤتمر الوطني الذي كانت فترة ولايته قد انتهت وحل محله مجلس النواب عقب الانتخابات البرلمانية 2014.

ودعما من تركيا لحلفائها في ليبيا قامت باستئناف رحلات شركة الخطوط الجوية التركية إلى مصراتة حيث تتكون حكومة الحاسي ومن ثم الغويل في معظمها من مدينة مصراتة عقب تدمير مطار طرابلس العالمي بفعل الصراع المسلح الذي شهدته العاصمة.

وترتبط قيادات مصراتة لاسيما ذات التوجه "الإسلامي" بعلاقات استثنائية مع السلطات التركية، لم تتأثر بموجة الرفض لتنامي سطوة الإسلام السياسي على المشهد في ليبيا، حيث حافظت تركيا على علاقتها الوثيقة بقادة المدينة، على الرغم من الاتهامات التي تواجهها بدعمها للجماعات الإرهابية التي ينشط عدد من قادتها في مصراتة.

 وفي بداية العام الجاري تعززت الاتهامات الموجهة إلى أنقرة بدعم الإرهاب في ليبيا، بعد ضبط السلطات اليونانية السفينة التركية «أندروميدا»، خلال شهر يناير الماضي، وعلى متنها 29 حاوية من مواد تستخدم في القنابل والمتفجرات. وكانت في طريقها نحو ميناء مدينة مصراتة. وعلى الرغم  من نفي تركيا هذا الفعل، وترويجها أن السفينة «أندروميدا» كانت متجهة إلى إثيوبيا إلا أن سلطات ميناء «بيرايوس» اليوناني، أعلنت عن اعتراف طاقم السفينة، بأن وجهتهم كانت مصراتة الليبية.

وتمثل المدينة أولوية خاصة لنشاط تركيا على الأرض في ليبيا، ففيها القنصلية التركية، وهي أكبر داعم للتيار الإسلامي في ليبيا. وقد استمرت القنصلية في ممارسة عملها من دون انقطاع، على الرغم إغلاق السفارة التركية في العاصمة طرابلس خلال مواجهات 2014 قبل أن يُعاد فتحُها في بداية سنة 2017.

ولم يتوقف النشاط التركي في مدينة مصراتة على وجود زعماء الحكومات المدعومة منها مباشرة فقط بل استمرت بعد تولي حكومة الوفاق السلطة في غرب ليبيا، حيث أثار استعراض عسكري ضخم أقيم بمدينة مصراتة جملة من الأسئلة عمن يقف وراء هذا الاستعراض الذي أقيم بحضور نائب رئيس المجلس الرئاسي  أحمد معيتيق "ابن المدينة" والسفير التركي لدى ليبيا أحمد أيدن دوغان. 

وهو رأي يعتبره مراقبون لتأكيد استمرار الدور التركي في ليبيا، وتواصلا لتقديم الدعم لمن تعتبرهم تركيا حلفاءها في ليبيا، لاسيما جماعات الإسلام السياسي، حيث أكدت مصادر أن قادة سرايا بنغازي الإرهابية وقادة مجموعات متطرفة أخرى كانوا ضمن الحضور للاستعراض العسكري الذي شاركت فيه أكثر من 6000 عربة مسلحة، ومشاركة ما يقدر بـ 12 ألف مقاتل.

ومها تكن الظروف التي تحكم العلاقة بين تركيا وحلفاءها في ليبيا فإن أهم العوامل التي تحكمها تبقى بين محددة بين الولاء للباب العالي، والارتباط المصلحي الذي تفرضه الظروف.