في بداية اندلاع الأزمة الليبية في عام 2011، تمكنت الميليشيات المسلحة من تأسيس دور قوي لها، وظهرت المجموعات المسلحة في كل ركن في البلاد، مستغلة انهيار مؤسسات الدولة وغياب سلطة القانون، إضافة إلى انتشار السلاح لتكوّن لنفسها مناطق نفوذ تحت سلطة الرصاص، وهو ما أدخل البلاد في دوامة من العنف والفوضى.

وانتشرت في ليبيا الكثير من بؤر التطرف، لعل أبرزها في مصراتة التي باتت مكانا خصبا للجماعات المسلحة، التي يعتبر شعارها الرئيسي "لا صوت يعلو فوق صوت السلاح". وهذه المدينة التجارية ظلت إلى حد كبير بمنأى عن الانفلات الأمني في ليبيا، ما ساهم إلى جانب مينائها الاستراتيجي، بمنحها وضعا اقتصاديا ميزها عن باقي مدن البلاد. ويرى مراقبون ومحللون أن هذا الوضع المميز لمصراتة، شجع جماعات إسلامية تقودها جماعة الإخوان المسلمين منذ البداية، على تعزيز نفوذها في هذه المدينة المتمردة عبر التاريخ.

ومن أبرز المليشيات الني ظهرت في مدينة مصراتة:


فجر ليبيا

تعتبر ميليشيات "فجر ليبيا" مع بعض الاستثناءات، هى العمود الفقرى لميليشيات مصراتة، وقد تأسست في يوليو 2014 خلال عملية عسكرية ضد مقاتلى قبيلة الزنتان، وسيطرت ميليشيات فجر ليبيا على العاصمة الليبية في أغسطس 2014، وانضمت إليها العديد من الميليشيات الأخرى مثل ميليشيات طرابلس، وتشكيلات من مقاتلين قبليين مثل الأمازيغ، وميليشيات مدعومة من تنظيمات الإخوان. 

وأتاحت هذه القوة لميليشيات فجر ليبيا فرصة السيطرة على عدد من المدن فى الغرب وحتى الحدود التونسية، بما فى ذلك مناطق القبائل الأمازيغية. كما سيطرت قوات فجر ليبيا والميليشيات المتحالفة معها على نفوذ فى بعض مناطق الجنوب فى ولاية فزان.

لكن التحالف الهش الذي جمع هذه الميليشيات بدأ في التفكك إثر إعلان مصراتة انسحابها من عملية "فجر ليبيا" وقبولها بالحوار السياسي في فبراير من عام 2015. وبعد وصول حكومة الوفاق الوطني في العام 2016، والتي تدعمها الأمم المتحدة، اصطفت بعض الميليشيات بالولاء لحكومة الوفاق الوطني، وبقي البعض موالين للمؤتمر المنحل، وكذلك الأفراد والجماعات المتطرفة.

البنيان المرصوص

تعتبر "البنيان المرصوص" من أقوى الفصائل المسلحة، التي تدعم حكومة فايز السراج، ومعظمها ينحدر من مدينة مصراتة وضواحيها. وجاء تأسيس "البنيان المرصوص"، عقب دعوة رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فائز السراج، في أبريل 2016، جميع القيادات العسكرية بالبلاد، إلى تشكيل غرفة عمليات مشتركة، لمباشرة ما سمّاها "عملية تحرير سرت"، من قبضة تنظيم "داعش" الأرهابي، الذي سيطر عليها كليًا، في يناير 2015

ورغم ذلك يصنف العديد من المراقبين للمشهد الليبي "البنيان المرصوص" على أنها قوة عسكرية تابعة لمدينة مصراتة وليست تابعة لحكومة الوفاق. فالعلاقة بين حكومة الوفاق وقواتها ما إنفكت تشهد توترات، لعل أبرزها التهديدات التي أطلقها العميد محمد قنيدي ، رئيس الاستخبارات العسكرية بقوات البنيان المرصوص، في نوفمبر 2017، تجاه مصر، والتي لاقت تنديدا واسعا في الأوساط المصرية، ودفعت رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، لإحالة قنيدي، إلى التحقيق على خلفية إدلائه بتصريحات إعلامية دون إذن.

القوة الثالثة

كلفت القوة الثالثة -التي ينحدر غالبية تشكيلاتها من مدينة مصراتة -، تحت إمرة العقيد "جمال التريكي"، بتأمين المنطقة الجنوبية، التي استُخدمت من قبل قوات مصراتة، لنقل الأسلحة والذخائر إلى منطقة الهلال النفطي خلال المعارك ضد الجيش الوطني الليبي، بين عامي 2014 و2016 للسيطرة على المنطقة، ودخلت لأجل ذلك في اشتباكات مباشرة مع الجيش الوطني الليبي، خاصة "اللواء 12".

 لواء الصمود

تشكل بعد انتهاء حرب مطار طرابلس في العام 2014، ضمن تحالف ميليشيا "فجر ليبيا". وانتهى هذا التحالف بسبب خلافات حول التعاطي مع المرحلة الجديدة. وأصبح لواء الصمود عمليا هو القسم الأكثر ميلا إلى مواصلة الحرب. ويتفرع من لواء الصمود كتائب وميليشيات ذات ولاءات ومرجعيات متباينة من مصراتة وعدة مدن أخرى.. 

المجلس العسكري مصراتة

ويعد المجلس العسكري لكتائب مصراتة، أقوى كتلة عسكرية في الغرب الليبي، لكنه أعلن فى يناير/كانون الثاني 2017، حلّ نفسه وانضم للمنطقة العسكرية الوسطى، الخاضعة لسلطة حكومة الوفاق، إلا أن عدة كتائب تابعة له رفضت الاعتراف بحكومة الوفاق، وأبقت على ولائها لحكومة الإنقاذ التي ينحدر رئيسها من مصراتة أيضا.ويرتبط المجلس ،بعلاقات مع التنظيمات الارهابية على غرار "سرايا الدفاع عن بنغازي.

لواء الحلبوص 

ينحدر لواء الحلبوص من مدينة مصراتة، وتعد هذه المجموعة من أقوى الكتائب المسلحة بالمدينة وأكثرها تجهيزا. أَسَّسها محمد الحلبوص خلال اندلاع الأزمة في العام 2011، والذي قتل في مدينة مصراته، وتولى بعده بشير عبداللطيف قيادة الكتيبة، وكان تعدادها حوالي ألف عنصر.ووفق تقارير إعلامية ، فإن هذه الكتيبة كانت تفرض على أصحاب المحلات ضرورة دفع مبلغ شهري مقابل حماية محلاتهم وسياراتهم وبضائعهم.

لواء المحجوب

وهي كتيبة تابعة للمجلس العسكري بمصراتة بالتحديد للبنيان المرصوص مكلفة بحماية مبنى رئاسة الوزراء الواقع بطريق السكة وسط طرابلس وتعد من أحد أبرز المليشيات المسلحة بالعاصمة طرابلس تتكون من حوالي 1000 عنصر وقائدها مجهول الهوية.

درع ليبيا

هي مجموعة محسوبة على تيار جماعة الإخوان المسلمين، ضمت داخلها ثلاث ألوية رئيسية، لواء درع المنطقة الوسطى والذي يتخذ من مدينة مصراتة مقر له، لواء درع المنطقة الشرقية في بنغازي ولواء المنطقة الغربية في الخمس وطرابلس. ظهرت لأول مرة في آذار/مارس 2012، عندما تم تجنيد المتمردين الذين قاتلوا على الجبهة الشرقية خلال أحداث 17 فبراير من قبل قادة الميليشيات والحكومة.

كتيبة الفاروق

وهي إحدى الكتائب التي كنت ضمن تحالف فجر ليبيا، وبحسب تقارير إعلامية، فهي تعتبر من أشرس كتائب مدينة مصراتة وأكثرها عنفا. وقد انشقت وبايعت تنظيم "داعش" الإرهابي.تأسست الكتيبة في العام 2012، على يد التهامي بوزيان. وكان مجلس النواب قد أدرج اسم بوزيان على لائحة الأفراد والجماعات الإرهابية المنتمية لتنظيم القاعدة المرتبطة بقطر والتي أصدرها في 11 يونيو 2017 كونه مؤسساً لكتيبة الفاروق التي كانت مظلة انبثقت منها عدة قادة تقلدوا مهام في تنظيم القاعدة و داعش وبعضهم لقي مصرعه في سرت خلال الموجهات مع قوات البنيان المرصوص وغارات سلاح الجو الأمريكي.

جرائم مليشيات مصراتة

تورطت كتائب ومليشيات مسلحة في مدينة مصراتة في ارتكاب جرائم بحق مدن ليبيا بأكملها وأبرزها جريمة "تاورغاء" التي هجر على إثرها الالاف النساء والأطفال والشيوخ من مدينتهم، وذلك بسبب اتهامات واهية وجهتها مليشيات مصراتة لأهالي مدينة تاورغاء التي دمرت عن بكرة أبيها. 

هجمات مليشيات مصراتة قتل خلالها المئات من أبناء تاورغاء، واعتقل الألاف، وهجر عشرات الألأف، ونهبت وسرقت ممتلكاتهم وأحرقت بيوتهم، وجرفت مزارعهم، ليتوزعوا في لحظات، بين قتلى، ومعتقلين، ومهجرين ومشردين، في مخيمات تفتقد في أفضل حالاتها لأدنى سبل المعيشة الإنسانية.

وفي عام 2012، هاجمت ميليشيات مصراتة مدينة بني وليد وقتلوا العديد من المواطنين الليبيين تحت قرار 7 الصادر عن المؤتمر الوطني العام في حملة من أجل القبض على أشخاص غير محددين في جريمة قتل.وامتدت العملية ضد المدينة لمدة تزيد عن 20 يوماً استعملت فيها المليشيات القصف العشوائي بالمدفعية والأسلحة المتوسطة وصورايخ الغاز ضد المدنيين الأمر الذي تسبب في قتل الكثير من الأبرياء داخل المدينة بين من سقطوا  تحت القذائف أو تحت ركام منازلهم التي دكت فوق رؤوسهم.

وقامت المليشيات بحملة واسعة من الاعتقالات علي اساس الهوية الاجتماعية لأبناء قبائل ورفلة 16 حالة إخفاء قسري وقتل 36 شخصا تحت التعذيب في سجون مليشيات مصراته ، وسرقة وتدمير وحرق 3960 منشأة بين محال تجارية ومنازل ومصانع محليه ،وفق ما ورد في بيان اللجنة الوطنية الليبية لحقوق الانسان في سبتمبر 2014.

وفي عام 2013،اصطدم أهالي العاصمة مع مليشيات مصراته في منطقة غرغور بعد رفض الأخيرة الخروج من العاصمة، حيث فتحت مليشيات مصراتة النار بأسلحة متوسطة وثقيلة على المدنيين المتظاهرين وسقط ما لا يقل عن 47 ضحية مباشرة وتفاوتت إصابات  518 آخرين ما بين جروح بسيطة وشديدة  الخطورة.

وكان من بين الجرحى والقتلى شيوخ و نساء حسب إحصائيات طبية ليترفع عدد القتلى بعد وفاة عدد من الجرحى إلى 56 قتيلاً بحسب بيان للحكومة المؤقتة آنذاك وفيما إقتصرت ردة الفعل بداية على تبادل الاتهامات بشأن من باشر بإطلاق النار، ليصل الى تهديد بعض من قادة قوات المجموعات المسلحة من مصراتة الميدانيين بمواصلة القتال حتى النهاية ومن بينهم الطاهر باشا آغا آمر كتيبة درع ليبيا فى حينها التي كانت تتمركز بتلك المنطقة.

في 25 ديسمبر 2014، قتل 19 جنديا ليبيا وهم 14 من حراس محطة الكهرباء البخارية غربي سرت والتابعين لكتيبة (الجالط) 136 مشاة التابعة للجيش في هجوم شنته ميليشيات فجر ليبيا في مدينة سرت استعدادا لمهاجمة ما يعرف بمنطقة "الهلال النفطي" شرقي البلاد.كما قتل أربعة جنود آخرين من هذه الكتيبة بعد اشتباكات دارت مع ميليشيات فجر ليبيا بسبب هذا الهجوم.

واستهدفت الميليشيات أيضا خزانا للنفط في مرفأ السدرة النفطي بقذيفة صاروخية تسببت باشتعال النيران به ماتسبب في انصهاره وامتداد النيران إلى خزانات نفط مجاورة.والمثير للانتباه أن منطقة الهلال النفطي كانت هدفا مشتركا بين الميليشيات وتنظيم داعش الذي سيطر على سرت بعد ذلك بكل سهولة بعد انسحاب الميليشيات منها.

ميليشيات فجر ليبيا القادمة من مدينة مصراتة،ارتكبت العديد من الجرائم في ليبيا،وفي تقرير أصدرته في فبراير 2016،ألقت منظمة ضحايا لحقوق الإنسان الضوء على جرائم ما يعرف مليشيات فجر ليبيا التي اجتاحت العاصمة طرابلس في يوليو من العام 2014.وقالت المنظمة في تقريرها أن قوات فجر ليبيا قامت ،بقصف عنيف لمطار العاصمة،وعلى إثره تم حرق المطار وما فيه عدد من الطائرات ودمر المطار تدميراً كلياً ، كما تم حرق خزانات النفط بطريق المطار جراء القصف المكثف ، ولم تسلم أحياء العاصمة من المعركة فقد وصلت العديد من القذائف للمناطق السكنية غوط الشعال وقصر بن غشير وغيرها، نتيجة  للقصف المتبادل بين قوات فجر ليبيا وبين قوات الزنتان.

كما قامت قوات تنظيم فجر ليبيا بعمليات انتقام مروعة بحق أهالي ورشفانه في اغسطس 2014، فبعد سيطرة قوات ما يسمي بتنظيم "فجر ليبيا" التي تضم مقاتلين من مصراته وحلفائها من الجماعات المتشددة ، تم تهجير نحو نصف مليون شخص أجبروا على ترك منازلهم سعياً للجوء إلى أقاربهم أو مناطق قريبة من ورشفانه أو إلى خارج البلاد في تونس أو مصر، وتزايدت هذه الأعداد بسبب تدهور الوضع الأمني وازدياد عمليات الانتقام وسرقة ونهب وحرق وهدم البيوت.

في  18/مايو 2017،شنت ميليشا القوة الثالثة القادمة من مصراتة، ومليشيات أخرى متحالفة معها،هجوما غادرا على مقر قيادة اللواء 12 التابع للجيش الوطني في قاعدة براك الشاطئ،تخللته عمليات قتل وتصفية جسدية بدم بارد لجنود عزل جرى أسرهم بالإضافة إلى مدنيين في جريمة إهتزت لها ليبيا.

وقد أظهرت مقاطع مصورة التقطتها كاميرات سرية فى قاعدة ومطار براك الشاطىء بشقيه العسكرى والمدنى جنوب ليبيا، لحظة اقتحام مليشيا القوة الثالثة التابعة للمجلس العسكرى مصراتة ( تابعة للمجلس الرئاسى الليبى)، وسرايا الدفاع عن بنغازى المرتبط بتنظيم القاعدة الإرهابى للقاعدة لبوابة الشرطة العسكرية القريبة من القاعدة الجوية جنوب ليبيا.وبينت المقاطع المصورة  دخول القوات واعتقال عدد كبير من المدنيين العاملين بالمطار المدنى واقتيادهم إلى مبنى عثر عليهم لاحقا بداخله وقد تمت تصفيتهم رفقة عدد من العسكريين.

وقوبل الهجوم الدامي الذي أسفر عن مقتل أكثر من 140 شخص،بإدانات واسعة محليا ودوليا،ووصفت "اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان" في حينها، الواقعة، بأنها "مجزرة بشعة وجريمة حرب مكتملة الأركان، شارك فيها مقاتلون أجانب من المعارضة التشادية وقوات سرايا الدفاع عن بنغازي التابعة لتنظيم القاعدة والمتحالفة مع تنظيم أنصار الشريعة الإرهابي في ليبيا"، محملة المسؤولية لحكومة الوفاق الوطني وحكومة الإنقاذ غير المعترف بها دولياً بقيادة خليفة الغويل والمفتي السابق الصادق الغرياني.

تحالفات مشبوهة

تسوق مصراتة نفسها في العالم بأنها المدينة التي "قهرت" تنظيم داعش الإرهابي في سرت،وذلك عبر قوات "البنيان المرصوص" التي ينحدر أغلب عناصرها من هذه المدينة، متجاهلة الدور الأبرز الذي لعبه الطيران الأمريكي فى تدمير كافة أوكار المتطرفين بالمدينة، وفشلهم الكبير فى ملاحقة وتطهير المدن المحاذية للمدينة من بقايا التنظيم المتطرف.

ورغم الحديث عن أن البنيان المرصوص تحارب الارهاب فان تساؤلات تدور حول الأجندات الخارجية التي تسير هذه القوات خاصة وأنه سبق لقيادات في عملية البنيان المرصوص زيارة إلى قطر، في أغسطس 2017، وأكدت مصادر إعلامية حينها، أن الزيارة أحرجت كثيرا حكومة السراج داخليا وخارجيا، خاصة وأنها لم تبلغ بها من قبل، وإنما تابعتها عبر وسائل الإعلام.

وأشارت التقارير إلى أن زيارة آمر غرفة البيان المرصوص ومعاونيه للدوحة، تم الاعداد لها بالتنسيق بين قطر والميليشيات التي تمولها الدوحة بالمال والسلاح في طرابلس ومصراتة. وأشارمراقبون إلى هذه الخطوة تعكس ضعف الحكومة أمام الميليشيات المسيطرة على العاصمة طرابلس وبعض مدن الغرب الليبي.

من جهة أخرى ارتبطت المليشيات المسلحة في مصراتة بتحالفات مع التنظيمات الارهابية،حيث دأب  قادة في "المجلس العسكري-مصراته"، ينتمون إلى "الإخوان"،على زيارة مدينة الجفرة في أوخر العام 2016 ومطلع العام 2017، حيث التقوا نظراءهم في "سرايا الدفاع عن بنغازي".وافضت هذه الاجتماعات إلى اتفاق يقضي بأن يقدم "المجلس العسكري-مصراته" الدعم المالي واللجوستي لـ"سرايا الدفاع عن بنغازي" للسيطرة على منطقة الهلال النفطي.

وإرتبطت "سرايا الدفاع عن بنغازي"،بتحالف مع الميليشيات التشادية،حيث سبق أن شن هذا التحالف الإرهابي عدة هجمات في منطقة الهلال النفطي ومدن شرق البلاد.وفي أعقاب خسائرها المتتالية،أكدت "سرايا الدفاع عن بنغازي" المصنفة عربياً ومحلياً كتنظيم إرهابي،في 23 يونيو 2017، استعدادها لحل نفسها وإحالة أمرها إلى الجهات المعنية للدولة للنظر في مستقبلها.وجاء الإعلان بعد أقل من شهر من إعلان تنظيم "أنصار الشريعة" في ليبيا حل نفسه رسمياً في 28 مايو من نفس العام.

ورغم أن قرار حل "سرايا الدفاع عن بنغازي"،بدا حينها منطقيا في ظل الهزائم المتتالية التي مني بها التنظيم وخسارة مناطق التمركز،فإن المراقبين أكدوا أنها مجرد مناورة يسعى من خلالها التنظيم لإبعاد شبهة الإرهاب عنه وتفادي ملاحقته أمنيا حتى يعود من جديد،وهو ما أثبته الظهور الأخير لآمر السرايا مصطفى الشركسي في معركة تحرير طرابلس حين أعلن انضمامه الى مليشيات مصراتة ضد الجيش الليبي.

وخلال الأيام الأولى للقتال الدائر في العاصمة منذ يوم 4 أبريل الماضي،سارعت الكلية الجوية بمصراتة للتعاقد مع عدد كبير من المرتزقة الأجانب لتنفيذ عدد من الضربات الجوية على المدنيين المؤيدين للجيش الليبي في حربه على الإرهاب بالعاصمة الليبية طرابلس.كما قامت مليشيات مصراتة بإستقدام عناصر تكفيرية من العراق وسوريا عبر موانئها الجوية والبحرية للقتال ضد الجيش الليبي.

وتحولت مصراتة لـ"قبلة" الجرافات والسفن الحربية المحملة بالأسلحة والصواريخ إلى المدينة والقادمة من دول داعمة للفوضى في البلاد، ولعل أبرزها واقعة السفينة التركية التي كانت تحمل أكثر من 400 طن لمواد تدخل في صناعة الصواريخ، وآخرها السفينة الإيرانية التى رست فى ميناء المدينة ولم يكشف عن محتوياتها.

وأثار تقدم مليشيات مصراتة في معركة العاصمة ضد الجيش الليبي، تساؤلات حول مغزى الخطوة، إذ سبق أن شاركت هذه المليشيات في الهجوم على المدينة منذ عدة أشهر أكتوبر 2018، أمام المليشيات التي تقف في صفها الآن ضد تقدم الجيش الوطني الليبي في معركة طوفان الكرامة لتحرير العاصمة من الإرهاب.

ويرى متابعون للشأن الليبي بأن ميليشيات مصراتة التي تم طردها من طرابلس في العام 2017،وجدت الفرصة للعودة من جديد بعد تعويل حكومة الوفاق عليها لمواجهة الجيش الليبي وهو ما يلقى معارضة شديدة من سكان العاصمة الذين طالما ذاقوا الويل من هذه الميليشيات، وخاصة في أحداث قرقور في نوفمبر 2013 والتي خلفت المئات من القتلى والمصابين، أو في عملية "فجر ليبيا" الانقلابية على نتائج الانتخابات في 2014.

وبالرغم من التحالف الحالي بين حكومة الوفاق ومليشيات مصراتة،فإن الأخيرة لا تعترف أي قرار لحكومة السراج،وهو ما كشف عنه القيادي في لواء "الصمود" أحمد بن عمران، في تصريحات قبل أسبوعين لوكالة "نوفا" الإيطالية، أكد فيها "أن كتيبتهم غير معنية بأي اتفاق لوقف إطلاق النار في طرابلس بين السراج وقائد الجيش الليبي خليفة حفتر، ولن ترضى بأي اتفاقات بينهما"، مضيفاً أن تحالفهم مع قوات حكومة الوفاق هو "تحالف مؤقت، الهدف منه صدّ هجوم قوات الجيش الليبي على العاصمة طرابلس"، لافتا إلى أنّ "قتالهم ضد الجيش هو جهاد لن يتوقف حتى النصر".

المجموعة المسيطرة

تتسيد المشهد في مصراتة مجموعة يمثلها قادة المليشيات وزعماء الحرب، وبعض المسؤولين وأعضاء مجلس النواب (مقاطعين) وأعضاء مجلس الدولة، والذين ينتمي معظمهم إلى تيار الإسلام السياسي، ويمثلهم القيادي "المليشياوي" صلاح بادي عراب "فجر ليبيا"، وفتحي باشاغا،الذي كلف وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق، ومحمد الرعيض، وجمعة عتيقة، وغيرهم ممن مثلوا واجهة غير مرحب بها لمدينة مصراتة، ويعتبر العديد من المراقبين بمن فيهم أبناء المدينة ذاتها أن هذه المجموعة تختطف مصراتة، وطالما وصفت بالمدينة "المخطوفة"، نتيجة لاحتكار هذه الفئة لاتخاذ القرار فيها.

ويبقى لهذه المجموعة دورها الرافض للكثير من الحوارات التي تنادي بالمصالحة واستعادة علاقة المدينة بغيرها من المدن، لاسيما تلك التي دخلت إليها مليشيات مصراتة تحت أي من الدواعي، أثناء أو بعد أحداث 2011، وتتمثل خطورة هذه المجموعة في كونها تمتلك أكبر ترسانة أسلحة في البلاد، وتأتمر بأوامرها أقوى وأكبر المليشيات، والتي يتخذ بعضها الصفات الشرعية بالانضواء تحت لواء وزاراتي الدفاع، والداخلية بحكومتي الوفاق أو الإنقاذ السابقة.

في منتصف يونيو 2019،تقدم رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج بمبادرة سياسية ترتكز على تشكيل "ملتقى وطني" يدعو لإجراء انتخابات عامة قبل نهاية العام الجاري بإشراف الأمم المتحدة.لكن مليشيا الصمود التي يقودها المدرج على قائمة عقوبات مجلس الأمن الدولي صلاح بادي المتحالف مع قوات حكومة الوفاق،سارعت للاعلان إن مبادرة السراج لحل لأزمة الليبية لا تساوي الحبر الذي كتبت به.وقال القيادي في المليشيا الإرهابية، أحمد بن عمران،في تصريح لوكالة نوفا الإيطالية إن المبادرة تعد "استجداء" من السراج للمشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني الليبي.

وسبق أن أعلن قائد مليشيا "الصمود"، صلاح بادي، المحسوب على التيارات المتشددة في مصراتة،في مايو/أيار الماضي أن "كتيبتهم غير معنية بأي اتفاق لوقف إطلاق النار في طرابلس، بين السراج وقائد الجيش الليبي خليفة حفتر".ونقلت وكالة "نوفا" الإيطالية،عن بادي قوله "نحن متحالفون مؤقتاً مع حكومة فائز السراج لقتال حفتر وأن الهدف لجميع الكتائب هو صد هجوم حفتر على طرابلس، وفي حال قرر السراج توقيع اتفاق مع حفتر فهذا أمر لا علاقة لنا به".

وتشير هذه التصريحات لقيادات المليشيات الى هشاشة التحالفات التي تجمعها بحكومة الوفاق وهو ما يضع الأخيرة في موقف حرج حيث يروج مسؤولوها الى أنهم يمتلكون قوات نظامية في حين أن المؤشرات على الأرض تعكس حقيقة أن حكومة السراج لا تملك من أمرها شيئا وأنها رهينة لخليط من الجماعات المسلحة أبرزها تلك القادمة من مصراتة ذات الولاءات المختلفة والأجندات المتعددة.

عين فتحي باشاغا على رأس وزارة الداخلية في أكتوبر 2018 وسط ذهول واستغراب الليبيين، فكيف لمن يوصف بـ"الميليشياوي" أن يتولى حقيبة الداخلية؟ وكيف لـ"عراب عملية فجر ليبيا" أن يتولى مهمة محاربة الميليشيات التي تعد نواة تلك العملية؟وعبر الكثيرون عن استغرابهم من تعيين باشاغا المعروف بتورطه الكبير في قتل فيها المئات من شباب ليبيا وتاريخه الحافل في دعم الميليشيات والكتائب المسلحة.

 وزير الداخلية فتحي باشاغا،لم يتحرك منذ تعيينه للقبض على القيادات الإرهابية التي تقاتل إلى جانب قوات حكومة الوفاق وعلى رأسهم المطلوب دوليا صلاح بادي،وفي المقابل لم يتوانى في ملاحقة معارضيه واتهامهم بـ"الدعوشة"،على غرار الصحافي محمود المصراتي الذي اتهمه بالعمل لصالح تنظيم داعش والترويج لفكره الإرهابي،ويعتبر المصراتي من أشد المنتقدين لفتحي باشاغا المحسوب على تيار "الإسلام السياسي"،ويصفه بـ"الميليشياوي ومهندس وعرّاب عملية فجر ليبيا"، التي انتهت بحرق مطار طرابلس العالمي ومقتل عشرات المدنيين.

وفي أبريل الماضي،نشر موقع "أفريكا إنتلجنس" تقريراً مقتضباً باللغة الإنجليزية حول الوضع في طرابلس على ضوء القتال الدائر فيها منذ مطلع الشهر بين القوات المسلحة وتحالف مسلحي حكومة الوفاق.وقال التقرير أن شخصيات بارزة من مصراتة سيطرت فعلياً على الحكومة في طرابلس. 

وأشار التقرير الى أن النائب المنقطع فتحي باشاغا بات يجمع منذ 15 أبريل الجاري بين منصب وزير الدفاع ووزير الداخلية بحكومة الوفاق مما زاد من تهميش دور رئيس حكومة الوفاق  رئيس الوزراء فايز السراج.وتابع :"عملياً باشاغا الآن يقود قوات الزنتان القوية التابعة للجويلي بعد أن كان يحاربهم في طرابلس سنة 2014". في إشارة لعملية فجر ليبيا التي قال الجويلي في لقاء تلفزيوني سابق سنة 2017 بأنها كانت كارثة تمت بعد خسارة الإسلاميين للإنتخابات وبأن باشاغا كان عرابها. 

ومنذ وصول حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج الى طرابلس وبداية عملها،لم تستطع كبح جماح الميليشيات، بل سارعت إلى شرعنة بعضها والإعتماد عليها في تأمين مقراتها وطرد مناوئيها.وبحسب المراقبين،فأن فايز السراج ليس هو صاحب القرار في المسائل المصيرية لمستقبل ليبيا، مثل وقف العمليات العسكرية، وأن الميليشيات وخاصة القادة من مصراتة هي التي تتحكم في ذلك.ويأمل الليبيون في أن تنجح فئة العقلاء في مصراتة في انهاء هيمنة المجموعة المسيطرة واعادة المدينة الى الصف الوطني بما يضمن تحقيق الاستقرار في كامل ربوع ليبيا.