تزايدَ الانقسام السياسي والأمني في ليبيا، مع توالي الإعلانات عن وقوف المجموعات المسلحة والفرق العسكرية إلى جانب هذا الطرف أو ذلك، فأعلنت جهات وقوفها إلى جانب اللواء خليفة حفتر، بينما أيد آخرون وصف الحكومة لحركته بـ"الانقلابية" وبرز الإعلان عن وقوف مصراتة على الحياد، إلى جانب الدعوة لانتخابات برلمانية بعد شهر.

فقد أكد منتسبو قوات "درع المنطقة الوسطى" التي كان رئيس المؤتمر الوطني، نوري أبوسهمين، قد طلب منهم دخول العاصمة طرابلس، أنهم "ليسوا طرفا في أي نزاع سياسي أو مسلح يدور في العاصمة" داعين إلى "الاحتكام للعقل وتجنيب الوطن والمواطنين مزيداً من إراقة الدماء وترويع المدنيين" كما أعلنوا "انحيازهم الكامل لإرادة الشعب الليبي وثقتهم في خياراته واختياراته وأنهم لن يكونوا عائقاً في طريق التحول الديمقراطي ومساره في ليبيا". 


 
تطهير طرابلس:

و في تطور لافت للأحداث الجارية بالعاصمة طرابلس، أصدر عدد من أهالي مدينة مصراتة الفاعل الأبرز سياسيا و عسكريا غرب البلاد، وقادة في مجلسها العسكري، وآمر عملية البنيان المرصوص العميد بشير القاضي، يوم22  سبتمبر 2018، بيانا أعلنوا فيه انضمامهم لما أسموه بـ(تطهير طرابلس). كما أعلنوا بحضور العمداء محمد الغصري، وسالم أبوراوي، وإبراهيم بن رجب، حالة النفير القصوى، محذرين من المساس بالقوات التي تحركت تجاه العاصمة.

وأكد المشاركون في بيان مصور جرى تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنهم «يد واحدة ضد المليشيات المارقة المسيطرة على العاصمة، والتي عبثت بها وبأهلها وتعطل قيام دولة المؤسسات» معلنين «حالة النفير القصوى»، ومحذرين «كل من تسول له نفسه المساس بالقوات التي تتحرك لتطهير العاصمة». مطالبين «الثوار الأشاوس كافة بالالتحاق فورًا والتوجه للالتحام مع أخوتهم في الجبهات». في المقابل، عبر عدد كبير من أهالي مصراتة عن رفضهم لمشاركة المدينة في الحرب الدائرة في العاصمة طرابلس.

وأشار مواطنون عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن المدينة وأهلها يجب أن يكونوا مثالاً لرأب الصدع ووقف الاقتتال بدلاً من الدخول للعاصمة وتأزيم الوضع. وأكدوا أن من خرج بهذا البيان لا يمثلهم إنما يمثل نفسه وعليه تحمل المسؤولية، مطالبين المجلس البلدي مصراتة بالخروج لتوضيح موقف المدينة الداعي إلى السلام والوحدة والمصالحة.

تيار مدني ليبرالي:

بالتوازي مع ذلك شهد معسكر ما يعرف بفجر ليبيا المكون أساسا من كتائب مصراتة ،انشقاقات كبيرة جداً، خاصة داخل مدينة مصراتة المعروفة بولائها القوي للثورة، كما تسود حالة من القلق بين الثوار من (ساسة وعسكر ومؤتمر وطني) في أغلب مدن المنطقة الغربية.

قلق مردّه تصريحات وخطوات متسارعة يقودها تيار مدني ليبرالي داخل مدينة مصراتة تتزعمه شخصيات عدة؛ منها فوزي عبدالعال عضو المجلس الانتقالي إبان الثورة، (منحدر مدينة مصراتة) والذي يعمل الآن سفيرا لليبيا في دولة البحرين، و سالم جحا القائد العسكري السابق لكتائب مصراتة والملحق العسكري في دولة الإمارات، بالإضافة إلى شخصيات أخرى منها جمعة اعتيقة النائب السابق لرئيس المؤتمر، وأحمد معيتيق المليونير الليبي، والمرشح السابق لرئاسة الوزراء، بالإضافة إلى شخصيات بارزة في المجلس البلدي لمدينة مصراتة.

كل هذه الشخصيات لها نفوذ قوي على كتائب الثوار داخل مصراتة وخارجها، وبدأ يظهر دورها البارز في محاولة فك الارتباط بين ثوار المنطقة الغربية والتيار الإسلامي ، ما يثير قلق الكثير من الكتائب العسكرية والثوار المحسوبين على التيار الإسلامي.

و لعل من أبرز الأسباب التي يسوقها هذا التيار، أن كل النتائج التي ترتبت عن عملية فجر ليبيا يجني ثمارها التيار الإسلامي أو من يسمونهم هنا: "الإخوان، والمقاتلة" سواء داخل أو خارج المؤتمر الوطني؛ إذ يتهم هذا التيار الجماعة الليبية المقاتلة التي يقودها عبدالحكيم بلحاج بالاستحواذ على القرار في المؤتمر الوطني، مع عبدالرحمن السويحلي، والذي لديه خصومات كبيرة مع شخصيات مصراتية أخرى مثل حسن الأمين وجمعة عتيقة وفتحي باشاغا.

ويستدل هذا التيار على نفوذ الإسلاميين بتكليف المؤتمر لعمر الحاسي المحسوب على تيار الثورة الإسلامي، برئاسة الحكومة، وما قدمه من دعم لكتائب معينة في الزاوية وبنغازي، عرفت بعلاقتها بالتيار الإسلامي المقرب من الجماعة الليبية المقاتلة مثل الكتيبة التي يقودها أبوعبيدة من الزاوية. يضاف إلى ذلك حرص هذا التيار على تحقيق مكاسب للمدينة، في ظل انشغال باقي قوات فجر ليبيا بالمعارك غرب البلاد.

ويحاول هذا التيار، تحصيل مكاسب للمدينة، بعضها إقليمي ودولي، من خلال محاصرة مدينة سرت التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وتسويق المدينة كشريك حقيقي يعتمد عليه دولياً في الحرب على الإرهاب. وبعضها محلي، كدخول قوات مصراتة في تفاهمات مع قوات إبراهيم جضران، وقبيلة المغاربة وإيقاف عملية الشروق، التي كانت تهدف إلى استعادة السيطرة على الموانئ النفطية، دون إذن من رئاسة الأركان أو المؤتمر الوطني، الذي كان دوره في الحقيقة هو إعطاء الشرعية لهذه العملية ودعمها مادياً بعشرات، بعد أن بدأتها كتائب من مصراتة دون تنسيق مع المؤتمر الوطني.

صورة جديدة للمدينة:

دخلت كتائب مدينة مصراتة في الجنوب في هدنة مع قبيلة المقارحة في المدة الماضية بعد اشتباكات عنيفة شهدتها منطقة براك الشاطئ بين القوة الثالثة المكلفة من المؤتمر بحماية الجنوب وكتائب قبلية تريد إخراج هذه القوة من المنطقة، وهذا التفاهم كذلك تم دون استشارة السلطات أو إخطارها بذلك.

وما جرى في المنطقة الغربية من تهدئة عقدتها كتائب مصراتية دون الرجوع لرئاسة الأركان يصب كذلك في نفس الاتجاه، عندما دخلت كتيبة الحلبوص، القوية والمتمركزة داخل منطقة ورشفانة غرب طرابلس، في هدنة مع قوات قبائل ورشفانة، تهدف إلى عودة المدنيين لمساكنهم، بشرط التعهد بعدم استغلال التهدئة للتقدم باتجاه العاصمة، ومنع استخدام كتائب الزنتان المنطقة للمرور إلى العاصمة طرابلس.

ولعل هذه التفاهمات التي تعقدها أطراف معينة داخل المدينة شرقاً وغرباً وجنوباً، تهدف إلى رسم صورة جديدة، بعيداً عن الصورة السابقة التي عرفت بها مصراتة من استخدام للقوة في كل معالجاتها؛ فالصورة القديمة خلقت للمدينة عداوات كثيرة مع محيطها، ما أثر على رؤوس الأموال والتجار فيها، الذي يواجهون صعوبات في تسويق بضائعهم شرقاً وغرباً وجنوباً، بسبب دور شرطي الثورة الذي تلعبه المدينة في لييبيا.

أما خارجياً فتسوق المدينة نفسها كشريك دولي في الحرب على الإرهاب، بمحاصرتها مدينة سرت التي تعد أبرز معاقل تنظيم الدولة، وجعل المدينة على مسافة من التيار الإسلامي الذي يتعرض لهجمة كبيرة من قبل أطراف إقليمية ودولية، وربما شعور أطراف أخرى داخلها بأن المدينة مختطفة لتحقيق "أجندة ما" تجهل أطرافها.

ولعل من أبرز التداعيات لهذه الرؤية قيام بعض النشطاء في مصراتة بإزالة منصة ساحة الشهداء بالمدينة التي كانت تشهد طوال الثمانية أشهر الماضية مظاهرات حاشدة تأييداً لعملية فجر ليبيا  وللمؤتمر الوطني ورفضاً لمسودة ليون الأخيرة.

كما لوحظ تزايد الانقسام بشأن شرعية المؤتمر الوطني بين بعض النخب وقادة الثوار، فيما ينكب عدد من أعضاء مجلس النواب المنحل المقاطعين لجلسات طبرق، على إضعاف موقف المؤتمر الوطني التفاوضي، يقودهم فتحي باشاغا عضو مجلس النواب عن مدينة مصراتة، وهو من النواب المقاطعين لجلسات البرلمان، ومحاولة الوصول بذلك الضغط إلى تسوية سياسية تعطي دوراً أكبر للنواب المقاطعين على حساب المؤتمر الوطني العام.

بل وصل الأمر إلى مماطلة بعض قيادات المحاور العسكرية المحسوبة على مصراتة، وتأجيل الحسم في قاعدة الوطية العسكرية التي تشهد معارك طاحنة منذ عدة أشهر، وذلك لمنع المؤتمر الوطني من الحصول على نصر جديد قد يعزز موقفه التفاوضي. ورغم ذلك يظل هذا التيار المناهض للمؤتمر شريكاً في الثورة ورافضاً لوجود حفتر في المشهد ويرفض المؤتمر الوطني، بدرجة أقل، لكونه يقاد من التيار الإسلامي، حسب زعم هذا التيار.

ومن أخطر تداعيات هذا الحراك ما يمكن وصفه بـ"شق الصف المصراتي" باعتبار أن أغلب من يقودون هذا التيار هم من هذه المدينة، وما سيحدثه ذلك من معارك جانبية داخل معسكر فجر ليبيا، ما قد يؤدي إلى رسم خارطة تحالفات جديدة ، كما ينبغي أن لا ننسى أن المدينة تقع تحت ضغوط كبيرة، وملفات ثقيلة منذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي إلى يومنا هذا؛ سياسياً واجتماعياً واقتصاديا، وحتى عسكرياً.