«لو علموا ما تفعله عملياتهم في مصر والمصريين لتوقفوا فوراً، هم يخططون من أجل دفع مصر يميناً، فإذ بها تركض يساراً»، يقول أحد الناجين من انفجار عربة مترو أنفاق محطة الزيتون (شرق القاهرة). حديثه بلغ درجة من العمق أيقظت وخم التحليل، وكشف مكانة من الصدق أوغلت صدور التنظير.

الرجل الخارج لتوه من موقع التفجير لم ينخرط في موجة تحليلية عميقة، أو يأخذ متسعاً من الوقت لفورة تنظيرية سديدة، بل تحدث عن مكنون نفسه ومكتوم فكره. وهنا هتفت الجمهرة الواقفة خلفه على رصيف المترو حتى تكون جزءاً من الكادر وجانباً من الحدث: «أفرم ياسيسي».

منظومة الفرم التي تداعب خيال ملايين المصريين المعرضين يومياً وعلى مدار الساعة لقنبلة شرعية هنا أو تفخيخة «إخوانية» هناك أو هجمة جهادية تكفيرية هنا وهناك، لم يعد يعرقلها الحرج من النداءات الحقوقية أو يفرملها الاستحياء من عيون المنظمات الدولية. الرجل الناجي من التفجير قال بلا أدنى تفكير: «ننزل بيوتنا هذه الأيام واليقين الوحيد الذي نعرفه هو أن احتمال عدم عودتنا بسبب الإرهاب يساوي افتراض العودة. المسألة باتت الآن نكون أو لا نكون. أمننا أهم من حريتنا مهما كانت الكلفة».

كلفة محاربة الإرهاب - الذي يراه حقوقيون وهماً ويعتبره «الإخوان» دعماً - ليست أرواحاً تُحصَد، أو خسائر تُهدَر، أو أخطاراً تحدق فقط، بل هي أولويات تنقلب، ومطالب تندثر، وأخرى ترتفع. وهذه الأيام ترتفع أصوات المصريين مطالبة بمواجهة الإرهاب براً وبحراً، واقعياً وعنكبوتياً، جماعات وكوادر، ضرباً ودكاً.

وبدل أن يؤجج الإرهاب المتصاعد - براً وبحراً - غضب الجماهير من نظام الحكم، ويشعل نيران المعارضة من سياسات الرئيس، ويجدل شباك الفرقة بين المواطنين ويصب النقمة على الحكومة بوزرائها الفاشلين منهم والناجحين، إذ بالغالبية المطلقة تصب الغضب على «الإخوان»، وتشعل نيران المعارضة تجاه «سياسات الأمريكان»، وتجدل شباك الفرقة تجاه قوى إقليمية يتردد اسمها هنا وهناك وأخرى دولية تلوح خططها في آفاق «داعش» وتتبلور أهدافها في أعمال «النصرة» والجيوش الحرة والاقتتالات الدائرة يميناً ويساراً.

وعلى يسار المذيعة في التوك شو الليلي، اختار المخرج أن يضع شعار «الجزيرة» بينما الضيف يتحدث عن «الواقع الافتراضي» الدائرة رحاه عن مصر والمصريين على أثير القناة، ثم عضد ما يقوله الضيف عبر مقطع من تغطية «المليونيات الهادرة» لمحبّي «الشرعية والشريعة» و «الميادين الثائرة» في أرجاء المحروسة، و «الإرهاب الوهمي» الذي يتعرض له المصريون، فإذ بعشرات الرسائل القصيرة، والتدوينات الطويلة، والتغريدات السريعة تطالب البرنامج بإزاحة الشعار وإيقاف البث المنقول.

وترددت كلمات «العمالة» وأوصاف «الخيانة» ونعوت «المؤامرات» التي كانت حتى الأمس القريب مفردات قاصرة على أنظمة الحكم لتخويف الجموع من فكرة الثورة وتحذير المواطنين من مغبة الاعتراض وترجيح كفة مواجهة الأخطار ومجابهة الإرهاب على حساب مناصرة الحقوق ومؤازرة الحريات.

الحقوق والحريات التي لم تعد القاعدة العريضة من المصرين - وهي القاعدة ذاتها التي ثارت في العام 2011 من أجلها - تقف حالياً شاهد عيان على ما فعله الإرهاب وما اقترفه «الإخوان» في حق المواطنين الذين قفزوا من نقيض سقف توقعات حرية ومساواة وعدالة ومراعاة إلى أرضية تمنيات البقاء على قيد الحياة «قطعة واحدة».

«أروح بيتنا حتة (قطعة) واحدة». جملة صادمة، لكن كاشفة تلك التي تفوه بها عامل بسيط سألته «الحياة» عن أولويته الحالية في ظل الظروف الآنية. غاية مناه وكل أمله بأن يعود مساء إلى بيته من دون أن يفقد ساقاً أو يخسر ذراعاً بسبب تفجير أو تفخيخ. لم يشر إلى العيش، ولم يتحدث عن الحرية، ولم يتطرق إلى العدالة الاجتماعية.

هذا ما فعله الإرهاب و «الإخوان» و «خطط الأمريكان» بالمصريين الذين وجدوا أنفسهم يحصدون نتائج غير مخططة وآثاراً غير ممنهجة لرياح ربيعية انقلبت شتوية، حيث اصطفاف وطني تلقائي، والتفاف سياسي فطري، وتوحد شعبي انتقائي في وجه حلم خلافة زائف، وشعار شرعية وشريعة، وشرق أوسط جديد بيد فوضى خلاقة.

*نقلا عن الحياة