تعدّدت قراءات المراقبين وتحليلاتهم المتعلقة بالملامح السياسية العامة للمشهد السياسي المقبل في تونس، لكنها إلى حدّ الآن لم تخرج عن حيز الفرضيات والاحتمالات، خاصة في ظل تسارع الأحداث وتواتر التصريحات وعدم اكتمال الأركان المحدّدة النهائية، ممّا ينبئ بانفتاح هذا المشهد في الآتي على كلّ الاحتمالات.

بعد أن باحت صناديق الاقتراع بأسرارها معلنة تصدر حركة نداء تونس للمشهد السياسي التونسي بفوزها بـ 85 مقعدا في البرلمان الجديد تليها حركة النهضة الإسلامية بـ 69 مقعدا، من إجمالي عدد المقاعد البالغ 217، تباينت ردود الأفعال بين مرحب بهذه النتيجة ورافض لها.

هل يمكن أن تتحالف النهضة مع النداء؟

عدد من المتابعين للشأن التونسي اعتبروا أنّ هذه الانتخابات “تعدّ انتكاسة للإسلام السياسي عموما ولحركة النهضة على وجه الخصوص بعد أن قلبت موازين القوى السياسية في البلاد”، مشيرين إلى أنّ تلك النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التشريعية وذاك التراجع الذي مُنيت به النهضة عائد بالأساس إلى الأخطاء والثغرات التي ارتكبتها الحركة في فترة حكمها وعجزها عن إيجاد حلول لما عرفته البلاد من مشاكل اقتصادية وأمنية.

من جهته، رأى شق آخر من المراقبين أنّ هذه النتائج عبّرت عن إعادة تشكيل مشهد سياسي قديم-جديد عرفته تونس منذ 50 سنة، أيام حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ولكن بفوارق طفيفة وبسيطة تتماشى مع متغيرات الساحة السياسية التونسية بعد زهاء 4 سنوات من “الثورة”.

ولا يستبعد عدد من المحللين أيضا إمكانية تحالف النهضة مع حزب نداء تونس، خاصة، أنّ رئيس الحركة راشد الغنوشي كان قد عبّر في تصريحات سابقة عن رغبة حزبه في المشاركة في الحكم من خلال قوله إنّ “تونس تحكم بالتوافق وبقاعدة واسعة، وإن النهضة منفتحة على كل الخيارات”، في مناورة منه تحمل إشارة واضحة إلى إمكانية إقامة تحالف مع النداء إذا تمت دعوتهم.
غير أنّ النداء أعلن على لسان بعض قيادييه أنّ تشكيل الحكومة القادمة سيسير وفق ثلاثة خيارات؛

* الأول هو أن يتمّ تشكيل حكومة حزبية ولا تشارك فيها النهضة.

* الثاني أن تشارك النهضة بشرط دعم الباجي قايد السبسي مرشح النداء في الرئاسية المقبلة أو عدم مساندة أي مرشح آخر.

* الثالث أن يتمّ تشكيل حكومة كفاءات، وهو الخيار الأضعف.

ما هو موقف الجبهة الشعبية؟

غير أنّ مواقف الأحزاب الأخرى، التي حصّلت تمثيلية ضعيفة نسبيا مقارنة بالنهضة والنداء، شأن الجبهة الشعبية المحسوبة على اليسار، ستلعب، حسب مراقبين، دورا مهمّا ومحوريا في تشكيل المشهد السياسي المقبل، لما تتمتع به من آليات ضغط اجتماعية تتماهى أحيانا مع آليات الضغط التي يعول عليها الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية الأكبر والأعرق في تونس.

خاصة أنّ هذه القوى التي تعدّ أقرب إلى نداء تونس لا سيما من حيث التشارك في رؤية مجتمعية حداثية واحدة، ترفض قطعا التحالف مع النهضة وستختار موقع المعارضة الشرسة إذا حصل تحالف بين الحزبين الفائزين في الانتخابات، على حدّ تعبير بعض قياديّيها.

وفي هذا السياق، يعتبر عدد من المراقبين أنّ الجبهة الشعبية ستكون الرقم الصعب الذي يمكن أن يقلب الموازين في المشهد البرلماني المقبل، وسيكون لها دور محدد في تشكيل التحالفات القادمة ورسم ملامح المشهد السياسي عموما، خاصة أنّها ستسعى إلى رفع السقف الاجتماعي والالتصاق أكثر بمشاغل المواطن ومطالبه الاجتماعية تجاه أحزاب تتبع المنوال الليبرالي الذي يسقط الجانب الاجتماعي من حساباته. وهذا الموقع الذي يبدو أنّ الجبهة تدخله من باب “الداخل في الربح، الخارج من الخسارة” سيسمح لها، وفق ذات المراقبين، بتعديل الكفة والدفع في هذا الاتجاه أو ذاك، وربما الحؤول نهائيا دون تحالف النهضة والنداء، “الذي لا تحمد عواقبه”، وفق تصريحات عدد من قياديي الجهة.

من هي الأحزاب التي تبحث عن التدارك؟

دفعت نتائج الانتخابات التشريعية نحو تكثيف المشاورات بين عدد من الأحزاب (اجتماعية ديمقراطية) التي لم تحظ بنصيب وافر من المقاعد داخل البرلمان مثل (حزب التكتل من أجل العمل والحريات والحزب الجمهوري وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتحالف الديمقراطي) بشأن الاتفاق على مرشح موحد للانتخابات الرئاسية المقبلة.

وقد اجتمعت هذه الأحزاب، مؤخرا، لبحث دعم مرشح موحد للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في الـ 23 من نوفمبر الجاري.

وقد شهد هذا الاجتماع حضور كلّ من مصطفى بن جعفر رئيس حزب التكتل، وعماد الدايمي أمين عام حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وهما الشريكان السابقان لحركة النهضة الإسلامية في ائتلاف “التروكا” الذي حكم تونس من نهاية 2011 إلى مطلع العام 2014، كما حضرت مية الجريبي عن الحزب الجمهوري، ومحمد الحامدي أمين عام التحالف الديمقراطي، ومحمد عبو أمين عام التيار الديمقراطي.

وفي هذا السياق قال مصطفي بن جعفر، قبل بداية الاجتماع: “سنبحث اليوم دعم مرشح موحد من العائلة الديمقراطية الاجتماعية للانتخابات الرئاسية، وأنا مستعد للتنازل عن ترشحي إذا تمّ التوافق حول شخصية أخرى”.

كما عبّر محمد الحامدي من جهته عن استعداده هو الآخر للتنازل لصالح مرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة تتفق عليه الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية المجتمعة وتصطفّ خلفه.

كيف ينبغي أن تحكم تونس؟

في ما يتعلق بشكل الحكومة المرتقبة، قال أمين محفوظ، أستاذ القانون بجامعة تونس والمحلل السياسي، إنّه “من الضروري أن تكون هناك حكومة ائتلافية في تونس، من خلال تشكيل ائتلاف لن تحكمه وحدة البرامج السياسية وإنّما التعامل بواقعية مع الوضع الراهن الذي تمرّ به البلاد”.

أمين محفوظ: الشعب التونسي قال كلمته في الانتخابات وعاقب من تحكم في المسار التأسيسي

وفي ذات السياق رأى مراقبون، “أنّ حركة النهضة سوف تستغل موقعها في المرتبة الثانية في نتائج الانتخابات بشتى الطرق المشروعة واللامشروعة، خاصة أنّها استغلت عديد الظروف في فترة سابقة بشكل كبير لتقلّص من الأضرار التي كانت مؤهلة لتعصف بها خاصة بعد فشلها في إدارة المرحلة السابقة”، وفق رأيهم.

من جهته، رأى محفوظ أنّ “الفترة القادمة ستكون صعبة على تونس وستحتاج إلى نوع من التوافق حول العديد من المسائل ومساندة كبرى للحكومة، وقد تحمل إجراءات مؤلمة بالنسبة إلى الشعب خاصة في ما يتعلق بمسألة الضرائب”، لافتا إلى أنّ “الشعب التونسي قال كلمته من خلال هذه الانتخابات وخيّر التداول على السلطة وعاقب من قام بالتحكم في المسار التأسيسي طيلة 3 سنوات، وبلّغ رسالة مفادها أنه يجب على الأحزاب أن تعيد تنظيم نفسها، وأنّ الاختلاف يجب أن يكون في إطار أحزاب كبرى”.

فالشعب التونسي، حسب محفوظ، تيقّن أنّ الوعود الّتي قُدّمت له على امتداد السنوات الفارطة لم تكن كفيلة بحلّ المشاكل التي يعيشها والتي تعقدت مؤخرا، خاصة على مستوى الأمن وغلاء المعيشة والبطالة، وبالتالي فإنه يريد إعادة الثقة في حزب جديد يستجيب لمطالبه، ويسعى إلى معالجة الجراح العميقة التي خلفها حكم الإسلاميين.

هل اكتملت ملامح المشهد السياسي؟

يرى عدد من المحللين أنّ نتائج الانتخابات البرلمانية أكّدت الاستقطاب الحزبي بين النداء والنهضة، لكنها بالمقابل أنزلت بقية الأحزاب التقليدية إلى مرتبة دنيا. وأشار بعضهم إلى أنّه لن يكون بمقدور أيّ حزب أن يشكّل حكومة بمفرده وفق ما أسفرت عنه النتائج الأولية، ممّا يدفع جميع الفرقاء السياسيين إلى اللجوء إلى ثقة 109 نواب (نصف عدد مقاعد البرلمان+1، التي تحقق الأغلبية النسبية)، وهنا بالتحديد ستكمن أهمية الدور الذي ستلعبه القوى التي لم تحصّل عددا كبيرا من المقاعد لكنها ستكون فاعلة، شأن الجبهة الشعبية.

وفي ذات السياق، أكّد محلّلون أنّ كل الأحزاب ستجد نفسها أمام تشكيلة واسعة من الاحتمالات لتكوين الحكومة سواء كانت حكومة ذات قاعدة برلمانية واسعة أو ائتلاف ضيق أو حكومة بين النهضة والنداء. فكلّ الاحتمالات تبقى واردة.

أبرز المترشحين للانتخابات الرئاسية
يتنافس 27 مرشحا في الانتخابات الرئاسية التونسية المقررة يوم 23 نوفمبر المقبل، من بينهم رئيس الجمهورية المنتهية ولايته، ووزراء من نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وقاضية. وفي ما يلي أسماء أبرز المترشحين للانتخابات الرئاسية:

الباجي قائد السبسي:

◄ مؤسس ورئيس حزب "نداء تونس" العلماني الفائز بالانتخابات التشريعية التي أجريت يوم 26 أكتوبر 2014، والخصم الأول في تونس لإسلاميي حركة النهضة. يعدّ قائد السبسي (87 عاما) أكبر المرشحين عمرا، وقد سبق له أن تولى مسؤوليات حكومية (الداخلية، الخارجية،..) في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

المنصف المرزوقي:

◄حقوقي ومعارض سابق لزين العابدين بن علي ومؤسس حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية".

انتخبه المجلس الوطني التأسيسي المنبثق عن انتخابات 23 أكتوبر 2011 رئيسا للجمهورية بصلاحيات محدودة مقابل صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة.

كمال مرجان:

◄آخر وزير خارجية في عهد زين العابدين بن علي، وواحد من بين 6 مسؤولين سابقين في نظامه يخوضون غمار الانتخابات الرئاسية المقبلة.

بعد الإطاحة ببن علي، اعتذر للشعب التونسي عن عمله في نظام الرئيس السابق، وأسس حزب "المبادرة" الذي يقول إنّه يستند على الفكر "البورقيبي".

حمة الهمامي:

◄قيادي في الجبهة الشعبية (ائتلاف لأكثر من 10 أحزاب يسارية وقومية) التي حصلت على المركز الرابع في الانتخابات التشريعية الأخيرة بـ 15 مقعدا.

يعدّ الهمامي من رموز اليسار الراديكالي في تونس، وأحد أبرز معارضي الرئيس السابق الذي زَجّ به في السجن، مرات عديدة، إلاّ أنه لم يغادر البلاد و فضل البقاء في تونس.

كلثوم كنو:

◄تعمل قاضية وهي المرأة الوحيدة المترشحة للانتخابات الرئاسية المقبلة كمستقلة. تعدّ كنّو من أبرز المدافعين عن استقلالية القضاء في عهد بن علي الذي مارس عليها نظامه تضييقات عديدة لإخماد صوتها.

بعد الثورة ترأست "جمعية القضاة التونسيين"، وهي الهيكل النقابي الأكثر تمثيلا للقضاة في تونس.

*نقلا عن العرب اللندنية