شكلت الأزمة الليبية منذ العام 2011، صداعاً كبيراً على الصعيدين الاقليمي والدولي، عقب انهيار الدولة وتحكم الميليشيات في مدنها وصحاريها الأمر الذي جعل منها مصدراً للتوتر وممراً ومنبعاً للتهريب كما صارت منطلقاً لعدد من الجماعات الإرهابية العابرة للحدود التي شكلت ولا زالت تشكل خطرا يعصف بليبيا ويتجاوز حدودها ليهدد المنطقة والعالم ككل.

ولا شك أن هذا الخطر قد تعاظم بشكل كبير خلال الأشهر الماضية نتيجة التدخلات التركية التي عملت على تحويل ليبيا الى ساحة كبيرة لآلاف المرتزقة والارهابيين الذين نقلتهم أنقرة من بؤر التوتر وخاصة في سوريا نحو الأراضي الليبية بهدف دعم حلفائها في غرب ليبيا والعمل على السيطرة على الثروات النفطية وتحويل عائداتها الى الباب العالي.

تعاظم الخطر عاظم بشكل طبيعي صداع دول المنطقة والقوى الدولية التي باتت تتوجس خيفة من تداعيات استمرار التصعيد في ليبيا وما يشكله من خطر متفاقم.وعليه تسارعت التحركات في الساحة الليبية وشهدت الأيام القليلة الماضية اجتماعات ومشاورات متفرقة هدفت جميعها للبحث عن حلول تنهي الصراع الليبي وتعيد البلاد الى حالة الاستقرار التي فقدتها منذ العدوان الغربي في العام 2011.

البداية كانت من مدينة بوزنيقة جنوبي العاصمة المغربية الرباط،التي احتضنت مشاورات بين وفدي مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة،في اطار المساعي الحثيثة من أجل التوصل الى تسوية سياسية تنهي حالة التوتر والصراعات والانقسامات التي تشهدها الساحة الليبية منذ سنوات وتفتح الباب أمام إعادة بناء البلد النفطي واستعادة استقراره وأمنه.

وانطلقت المشاورات الليبية ،الأحد 06 سبتمبر الجاري، باشراف من المغرب على الحوار الذي جمع ممثلين عن مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة، وقرر وفدا  طرفا النزاع الليبي مساء الاثنين، تمديد جلسات الحوار، ليومين على أقصى تقدير وذلك بسبب تباين الرؤى حول الاتفاق السياسي المرتقب.

وعلى وقع بيانات الترحيب العربية والدولية بمشاورات الفرقاء الليبيين في المغرب،تم الاعلان عن توصل وفدا التفاوض الليبي في مدينة بوزنيقة ،الخميس،الى اتفاق شامل بشأن تولي المناصب السيادية، فضلًا عن الاتفاق على مواصلة اللقاءات في أخر أسبوع من الشهر الجاري،في خطوة اعتبرت هامة في مسار الحوار والبحث عن حلول للأزمة المستعصية.

وقال البيان الختامي للاجتماع بين الوفدين الليبيين في بوزنيقة، أن "المحادثات بين الوفدين الليبيين في المغرب أسفرت عن اتفاق شامل لتولي المناصب السيادية"، بحسب وكالة سبوتنيك.وأكد البيان أن الحوار الليبي جرى في أجواء ودية يطبعها التفاؤل والاحترام التام، مشدداً على أن هذه المشاورات تؤكد أن ليبيا من شأنها أن تنجح بعيداً عن لغة الحروب.

وهنأ وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في كلمته الأطراف الليبية والشعب الليبي على هذا الاتفاق، مؤكداً أن الحوار غلّب مصلحة الشعب الليبي.واعتبر بوريطة أن الآليات التي تم الاتفاق عليها ترمز إلى الوحدة الليبية، مشدداً على أن الإرادة المغربية ظلت تؤكد منذ اندلاع الأزمة أن الحل ليبي ليبي..

وبدورها رحبت جامعة الدول العربية، بنتائج حوار بوزنيقة،وأعلن مصدر مسؤول بالأمانة العامة للجامعة، عن تثمينه عالياً للدور الذي قامت به المملكة المغربية في استضافة وتيسير الحوار الليبي وجمع ممثلين عن مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة، والذي أسفر عن جملة من التفاهمات بين الجانبين وخاصة فيما يتصل بتوحيد مؤسسات الدولة الليبية.

وعلى الصعيد الدولي،رحبت البلدان الأوروبية الخمس الأعضاء الحاليين والمقبلين في مجلس الأمن، بلجيكا وإستونيا وفرنسا وألمانيا وإيرلندا، في إعلان مشترك،الثلاثاء، بالحوار الليبي الذي احتضنته مدينة بوزنيقة، بالمغرب، وبنتائجه، معتبرين أن الأمر يتعلق بـ"خطوة إيجابية" نحو استئناف سريع للعملية السياسية وإيجاد حل للأزمة في ليبيا.

كما رحبت بلدان أخرى أعضاء في مجلس الأمن بعقد الحوار الليبي في بوزنيقة والاتفاق الذي تم التوصل إليه خلال هذه الحوار،على غرار إندونيسيا،التي عبر سفيرها عن امتنان بلاده لـ"الجهود الدولية" المبذولة من أجل ليبيا "بما في ذلك الوساطة في الحوار الليبي من قبل المملكة المغربية".فيما أشادت فيتنام بإجراء هذا الحوار في المغرب الذي ضم وفدي برلمان طبرق والمجلس الأعلى للدولة الليبية.

وقبل ذلك،أعرب الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل عن ترحيبه بالاتفاق الذي توصّل إليه طرفا النزاع الليبي في مدينة بوزنيقة.وفي تغريدة له عقب اتصال هاتفي مع وزير الشؤون الخارجية المغربي، ناصر بوريطة،كتب جوزيب بوريل،"المبادرة المغربية هي مساهمة فعالة لدعم ومساندة العملية التي تقودها منظمة الأمم المتحدة من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة الليبية".

وحضيت الجهود المغربية في محاولة حلحلة الأزمة الليبية بإشادة الأمم المتحدة التي اكد المتحدث باسمها، ستيفان دوجاريك، أن "المملكة المغربية لعبت، منذ بداية الأزمة الليبية، دورا بناء وساهمت في جهود الأمم المتحدة الرامية إلى التوصل لحل سلمي للنزاع الليبي".وقال دوجاريك "نرحب بكل مبادرة وجهود سياسية شاملة لدعم تسوية سلمية للأزمة في ليبيا، وهذا يشمل الجهود الأخيرة للمملكة المغربية، والتي ضمت وفدي المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب".

وبالتزامن مع مشاورات بوزنيقة المغربية،كانت مدينة مونترو السويسرية، على موعد مع اجتماعات   بين عدد من الشخصيات الليبية التي تمثل الفعاليات الليبية الأساسية،في الفترة من 7 إلى 9 سبتمبر الجاري، برعاية "مركز الحوار الإنساني" وبحضور بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

أسفر البيان الختامي للاجتماع التشاوري في مدينة مونترو السويسرية، عن عدة توصيات تضمنت اعتبار "المرحلة التمهيدية للحل الشامل" مهلة زمنية لإعداد الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مواعيد لا تتجاوز 18 شهرا، على أساس قاعدة دستورية متفق عليها، وإعادة هيكلة السلطة التنفيذية لتتشكل من مجلس رئاسي مكون من رئيس ونائبين ومن حكومة وحدة وطنية مستقلة من المجلس.

واتفق المجتمعون على دعوة مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة للاتفاق بخصوص المناصب السيادية والمسار الانتخابي في آجال معقولة، وانتقال المؤسسات التنفيذية ومجلس النواب إلى مدينة سرت خلال "المرحلة التمهيدية للحل الشامل" لممارسة مهامها السيادية بمجرد توفر الشروط الأمنية واللوجستية.

وأكدوا على أهمية العمل على مسار المصالحة الوطنية والاجتماعية بدءا بإنهاء ظاهرة الاحتجاز غير القانوني والإدانة لأسباب سياسية، وتفعيل قانون العفو على السجناء السياسيين، والعمل على العودة الآمنة للمبعدين والنازحين وجبر الضرر دون إسقاط الحق الشخصي في التقاضي، وعبروا عن أملهم في العودة السريعة إلى لجنة الحوار السياسي، وضرورة تحمل المجتمع الدولي مسؤوليته كاملة في ضمان الاستقرار والالتزام بقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالسيادة الليبية ودعم العملية السياسية قولا وفعلا.

ورحبت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة، ستيفاني وليامز، بنتائج المشاورات في مونترو السويسرية. وأوضحت أن تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في ليبيا، بسبب الصراع الطاحن والارتفاع المقلق في حالات الإصابة المؤكدة بـ"كوفيد-19" ونقص الخدمات وانقطاع الكهرباء والماء، بالإضافة إلى استمرار الإغلاق النفطي تجعل الحاجة إلى إيجاد حل سريع وسلمي أكثر إلحاحاً.

وبدوره رحب رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح بمخرجات المشاورات الليبية في مدينة مونترو السويسرية لوضع خارطة طريق تمهد لمفاوضات التسوية في جنيف.وأكد صالح في بيان له أنه تم الاتفاق خلال اجتماع مونترو، على "أن تتولى كل منطقة من مناطق ليبيا الثلاث على حدة اختيار ممثلها في المجلس الرئاسي المكون من رئيس ونائبين عبر مجمعات انتخابية، وأن تكون مدينة سرت مقرا للمؤسسات التشريعية والتنفيذية ومصرف ليبيا المركزي خلال المرحلة التمهيدية للحل الشامل".

وبعيدا عن مونتيرو السويسرية،شهدت العاصمة المصرية القاهرة، اجتماع وفد ليبي يمثل المنطقة الغربية مع مسؤولي اللجنة الوطنية المصرية المعنية بالملف الليبي، وذلك لبحث ترسيخ اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا.وأجرى الوفد الليبي عدة مشاورات ولقاءات لتقييم مجمل المبادرات المطروحة وضرورة وقف أي تصعيد مهما كان نوعه.

وقال النائب سعد بن شرادة عضو المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، إن الاجتماعات جرى فيها تبادل لوجهات النظر ورؤية الأطراف الليبية وخاصة من غرب ليبيا وكذلك رؤية القاهرة في مسار الأزمة.وأضاف في تصريح لوكالة "سبوتنيك" الروسية، أن رؤية القاهرة توافقت مع ضرورة الحل السياسي للأزمة بتمثيل جميع الأطراف من خلال الحوار بين مكونات الشعب الليبي.

ولطالما شددت تصريحات السياسيين الليبين على أهمية دور مصر انطلاقا من قاعدة التأثير والتأثر بين مصر وليبيا خاصة في ملف مكافحة الإرهاب وحماية وتأمين الحدود المشتركة. فالحدود المصرية الليبية عبارة عن شريط حدودي بطول 1049 كيلو مترا، الأمر الذي يجعل كل تلك المساحة الشاسعة مهددة بعمليات اختراق وتهريب وبخاصة السلاح للأراضي المصرية وهو ما شهدته خلال السنوات الماضية مع انتشار أنواع كبيرة من تجار السلاح التي ترغب في استغلال التوتر الموجود علي الحدود، الأمر الذي يزيد من المخاطر والتهديدات التي تؤثر علي مصر في الجانب السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري.

ويرى مراقبون، أنه من الطبيعى جدا أن يكون لمصر دور فعال ومؤثر فى الأزمة الليبية باعتبار أنها تتشارك مع ليبيا فى مصالح كثيرة، إضافة إلى الامتداد التاريخى والجوار، وهناك أيضا مشاركة فى المسألة الأمنية والاقتصادية، وبالتالى كان من الضرورى تفهم الجميع سواء فى ليبيا أو فى مصر أن يكون للأخيرة دور إيجابي للمساعدة فى استقرار ليبيا.

ومنذ سنوات تطير الأزمة الليبية من بلد الى آخر، ومن عاصمة الى أخرى حيث تعددت الاجتماعات والمؤتمرات، وتتالت البيانات والتوصيات التي كان مآلها الفشل ولم تتجاوز تأثيراتها الحبر الذي خطت به على الورق. وبالرغم من الآمال المعقودة على التحركات السياسية الأخيرة فان المخاوف من فشلها أسوة بسابقيها تبقى قائمة. ويأمل الليبيون الذي خرجوا مؤخرا في مظاهرات في شتى أنحاء البلاد تنديدا بتردي الأوضاع المعيشية والأمنية، في أن تنتهي سنوات الألم وتستعيد ليبيا استقرارها ومكانتها الاقليمية والدولية.