المسؤولية الأولى والكبرى في فضّ النزاعات وحفظ حقوق الأقليّات ومراعاة خصوصياتها الثقافيّة والعقائديّة، تظلّ منوطة رأسا بالدولة والنظام الحاكم فيها، فإن أنصفا فإنّما هما يحميان شعبهما من الفتن التي تفرّق ولا تجمع، وإن تخاذلا فإنّما هما ماضيان في نهج لا يحدّه غير الصراع والدم. هو التشجيع على التسامح ونبذ الغلو والتطرّف إعلاء لقيم التعايش يندرج ضمن هذه المسؤولية التي وجب على الدولة أن تتكفّل بها، غير أنّ أمثلة شاذة (معكوسة) عن دول مازالت الأقليات فيها تعاني من الاضطهاد بتواطؤ من الدولة ذاتها مازالت للأسف قائمة، شأن السودان الذي تُناقض السلطة الحاكمة فيه نزعة التسامح التي عرف بها شعبه.

في هذا الإطار، قال رئيس مجلس الكنائس السودانية “إنّ الأقلية المسيحية في السودان تواجه مضايقات متنامية من جانب السلطات الإسلامية، تشمل تدمير أملاك أو مصادرتها، كما حكم بالموت في وقت سابق على امرأة بتهمة الردّة”.

واعتبر كوري الرملة كوري كوكو، الأمين العام لمجلس الكنائس السودانية، أن طائفته أصيبت بالوهن والضعف جراء استقلال جنوب السودان في 2011، ومغادرة المسيحيين نحو هذه الدولة الجديدة الّتي يشكل أبناء هذه الديانة فيها غالبية السّكان.

والحكم بالإعدام بتهمة الردّة الّذي صدر في مايو ضد السودانية المسيحية، ميريام يحيى ابراهيم اسحق، أظهر العقبات التي تقف أمام الحرية الدينية في هذا البلد الّذي يحكمه نظام “إخواني” منذ 25 سنة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّ حزب المؤتمر الشعبي الحاكم في السودان يتقاسم نفس المرجعية الفكرية مع جماعة الإخوان المسلمين، وهو امتداد للحركة الإخوانيّة التي وجدت طريقها إلى البلاد منذ أربعينات القرن الماضي بحكم قربها من مركز قيادة الجماعة في مصر، وعودة الطلاب السودانيين الذين زاولوا دراستهم في الجامعات المصرية وتأثروا بفكر حسن البنا، مؤسس الجماعة.

حكم الإخوان هذا، الذي اتّسم بالانفراد بالسلطة بعد الانقلاب الذي حصل في 30 يونيو 1989 برعاية زعيمهم حسن الترابي، وتنفيذ عمر البشير، لم يركز اهتمامه على إعلاء قيم التسامح ونشر مبادئ التعايش بين المواطنين حدّ اللّحظة، ممّا أسهم بشكل أو بآخر (بغض النظر عن الأسباب السياسية والاقتصادية التي تحركها أجندات خارجية) في انقسام السودان، وانفصال جنوبه وهجرة معظم المسيحيين للعيش في ظلّ حكم آخر، غير “إسلامي”، يحفظ لهم الحد الأدنى من حرية المعتقد. ومازال السودان يلفظ أبناءه على أساس التمييز الديني والطائفي الذي تحركه أجندات سياسية متنوعة حدّ اليوم، حيث أنّ الشابة المسيحيّة التي سبق أن أشرنا إليها، والتي كانت قد لجأت إلى السفارة الأميركية بعد صدور قرار عن محكمة الاستئناف يقضي بإلغاء عقوبتها، استقبلت مؤخّرا في إيطاليا بعد مغادرتها للبلاد.

وبالعودة إلى المضايقات التي يتعرّض لها المسيحيّون في السودان، قال كوكو، في مقابلة مع وكالة فرانس برس، إنّه وفي غضون ثلاثة أعوام “تطوّرت الأمور بشكل كامل، فقد أصبحنا محرومين حتى من أبسط الحريات التي كنا نتمتع بها، من قبل السلطة وأذرعها طبعا، لا من قبل أشقائنا المسلمين”.

وأوضح أنّ الهيئة التي يديرها تضمّ أكثر من عشر طوائف من بينها الكاثوليك والأقباط، وأنّ الوضع بالنسبة للجميع “سيء للغاية”.

ومن جهة أخرى، فقد أكّد مقال صحفيّ، نشر مؤخّرا، أنّ وزارة الشؤون الدينية لن تسمح ببناء كنائس جديدة بالنظر إلى مغادرة المسيحيين إلى الجنوب.

إلّا أنّ المسؤول الكبير في الحزب الحاكم في السودان ربيع عبدالعاطي عبيد، أكّد مع ذلك أنّه لا علم له بمثل هذا القرار.

وفي سياق آخر أكّد كوكو أنّ الكنائس تقع في الواقع تحت رقابة السلطات. وقال إنّ “كنيسة في شمال العاصمة دمرت بواسطة جرافات، بداعي أنّها لا تحمل صكوك ملكية، كما صادرت السلطات مبنى يضمّ كنيسة أخرى وسط الخرطوم. مثل هذه الممارسات تهدد برحيل المزيد من المسيحيين عن البلاد”.

وقد أوقف موظفون في الأمن، على حدّ رأيه، عمل مجموعة أبحاث تضمّ مسيحيّين ومسلمين أتوا من دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وهي ثلاث مناطق تشهد أعمال عنف. وبحسب كوكو، فإنّ الموظفين تدخلوا بعيد بدء ورشة الأبحاث الّتي تضمّنت قراءات من مقاطع من الإنجيل والقرآن. وقال “لم يكن أحد مرغما على القراءة أو الاستماع، لا أرى ما هو السوء في قراءة الإنجيل”.

وبحسب منظمة “كريستشان سوليداريتي وورلدوايد”، وهي منظمة غير حكومية تعنى بالدفاع عن الحرية الدينية ومقرها بريطانيا، فإنّ عمليات الطرد والمصادرة وتدمير أملاك الكنائس وغيرها من الأعمال المناهضة للمسيحيين زادت منذ ديسمبر 2012.

وفي هذا الإطار، أوضح كوكو قائلا، في المبنى الصغير الذي يمثل مقر مجلس الكنائس الذي لا يميزه سوى صليب صغير وضع في الزخرفة الحديدية فوق الباب: “لدينا شعور بأن حقوقنا لا تلقى الاحترام، حتى ولو كانت حرية العبادة مكفولة في الدستور”.ورغم اعترافه بأنّ الطقوس الدينية لا تزال تجري من دون عراقيل، إلاّ أنّه لفت إلى أنها تقام بحضور موظفين من الأمن مكلفين بمراقبة المراسم الدينية.

وعلى الرغم من عدم وجود معطيات محددة حول عدد المسيحيين الذين بقوا في السودان، لكن عبيد عضو حزب المؤتمر الشعبي الحاكم برئاسة الرئيس عمر البشير، أكد أنّ المسيحيين يتمتعون “بثقل اقتصادي و ثقافي” وأنّ “آراءهم تلقى الاحترام”، مشدّدا على انّهم ليسوا على “هامش المجتمع” في محاولة منه للتغطية على المضايقات التي يتعرضون لها من قبل السلطة الحاكمة.ومن جهته، أكّد البشير، مؤخّرا، أن بلاده “تعدّ نموذجا لتحفيز التسامح الديني”، بحسب ما نقلت وسائل إعلام سودانية رسمية.غير أنّ كوكو، قال من جهته، “أنا مدرك أننا أقلية، لكن من حقنا بصفتنا مواطنين سودانيين ممارسة إيماننا وبناء كنائس وممارسة حريتنا الدينية”.

*العرب الدولية