مع بداية بثّه منذ بداية شهر رمضان المبارك، لم تتوّقف ردود الأفعال حول مسلسل الاختيار المصري الذي يتناول سيرة ضابط الصاعقة المصري أحمد المنسي الذي قتل في مواجهات مع الجماعات الإرهابية في صحراء سيناء.

المسلسل الذي يحقّق نسب مشاهدة عالية ويطرح نقاشات واسعة في الساحتين المصريّة والعربيّة، يضع أحداثه داخل مجموعة من السياقات المتداخلة بين الفكري والتاريخي والسياسي ويحاول، عبر حبكة قصصية متماسكة وبإخراج فنّي على مستويات عالية، تشريح ظاهرتي الإرهاب والتطرّف، لا فقط في فضائهما المصري بل في كامل الفضاء العربي، وداخل رقعة الشطرنج الدّوليّة والإقليمية المتحركة والمعقدة.

يتعرّض المسلسل لظاهرة الإرهاب من منظور شامل، محطمًا لسرديات قديمة كتلك التي تشير إلى التمايز بين التنظيمات الجهادية وحركات الإسلام السياسي، أو تلك التي تعزل الظاهرة عن التغيرات لدّوليّة والتحولات الإقليمية أو حتى تلك التي تقدّم تفسيرات اختزالية مبسّطة وسطحيّة حول التطرّف والفقر والظروف الاجتماعية.

المسلسل الذي حصل على إشادة الأزهر المؤسسة الدينية الرّسمية في مصر، والهيئة العلميّة الأكبر تقريبا في العالم الإسلامي، وإشادة عدد كبير من الرموز الدّينيّة. أثار في المقابل موجة ردود فعل غاضبة عبر المنصات الإعلاميّة المقربة من الدوائر الإخوانيّة لما حمله المسلسل من تدليلات واضحة على التلازم (أو التكامل في أقل الاعتبارات) بين الإخوان المسلمين والإرهاب.

دار الإفتاء المصريّة كتبت على صفحتها الرسميّة بالفايسبوك قائلة حول المسلسل أنّه "لا مانع من الفن الذى يرقق المشاعر ويهذب السلوك لأن الدين يهدف لبناء الإنسان، وكل فكرة تصب فى هذا الاتجاه تُحمد مهما اختلفت الوسيلة إذا كانت الوسيلة مشروعة والهدف منها التهذيب، والإسلام لم يحرم الفن الهادف الذى يسمو بالروح ويرقى بالمشاعر بعكس الفنون التى تخاطب الغرائز والشهوات التى أجمع علماء المسلمين على حرمتها".

كما نشر مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصريةن نصًا طويلا حول المسلسل معتبرًا أنّه قد " قضى على آمال جماعات الإرهاب في تشويه الجيش المصري"، وأنّه قد " أحبط أكثر من 800 إصدار مرئي ومسموع ومقروء للجماعات الإرهابية على مدار ست سنوات".

وأضاف المرصد أنّ المسلسل قد " أظهر وحدة وتماسك المصريين في مواجهة الإرهاب"، وأنّه قد " أفشل مخططات إعلام الجماعات الإرهابية بالخارج ولجانها الإلكترونية".

الشيخ والداعية الحبيب علي الجفري بدوره أشاد بالمسلسل في تغريدة على صفحته الرسمية بتويتر قال فيها " لست ممن يرى حثّ الناس على متابعة المسلسلات في شهر رمضان الكريم، ولكن إن فعلتُ فسيكون مسلسل الاختيار دون تردد".

في المقابل يحظى المسلسل بحملة تشنيع واسعة عبر المنصات الإعلامية الإخوانية خاصة، معتبرين أنه جزءا من الدعاية التي يقودها ما يسمونه "النظام المصري" ضد الجماعة. الحملة التي تقوم على عدّة أضلع ربّما أهمها هو تسخيف التضحيات التي يقوم بها الجيش المصري في السيناء وتسخيف قصّة عشماوي ومحاولة اخراجه في ثوب الضحيّة للتشويهات! 

الحملة يمكن أن تجد صداها في كل المواقع والصفحات والقنوات الداعمة للجماعات الإرهابية والتكفيرية ولجماعات الإسلام السياسي والإخوان المسلمين، ومن قبل شخصيات محسوبة على هذه التيارات بشكل مسترسل ومتواصل منذ بداية المسلسل. 

لكن في المقابل، تبدو الحملات المضادة غير ذات تأثير كبير على شعبيّة المسلسل الذي يحقّق أرقاما قياسيّة في نسبة المشاهدة ويثير تفاعلات واسعة جدا على شبكات التواصل الاجتماعي.

يستمد المسلسل نجاحه في ما يبدو من عدّة عناصر، فبخلاف العناصر الفنيّة التقليديّة في تقييم الأعمال الدراميّة كالإخراج والصورة والحبكة الفنيّة والسيناريو وإدارة التمثيل وأداء الممثلين، نجح المسلسل خاصة في تبسيط تلك المفاهيم الفكريّة المعقدة بعمقها الحضاري والتاريخي وحاضرها السياسي والفكري والثقافي في علاقة بمسألتي الإرهاب والتطرّف.

فالعودة إلى الجذور الأولى لظهور نزعات التطرّف والتكفير في الفكر الإسلامي عبر الإشارة إلى شخصيات تاريخيّة دينيّة يمتلئ فكرها بنزعات التكفير والغلو والتي تستقي منها الجماعات الإرهابيّة إلى اليوم أفكارها وتبني عليها سردياتها الدّموية الموحشة، خطوة تحسب للمسلسل في علاقة بالبحث عن الابتعاد عن التسطيح ومحاولة إعطاء تفسيرات أعمق وأكثر تجذرًا للظاهرة الإرهابيّة. 

ذهب المسلسل أيضًا إلى مدارات أخرى تلغيها الأعمال الدراميّة عادةً، وهي التداخل الإقليمي والدّولي لملف الإرهاب، فسيناء المصريّة مثلا، وبحسب المسلسل ليست معزولة عن ما يحدث في سوريا ولا عن السياسات التركية الدّاعمة للحركات الإرهابية ولا عن ما يحدث في ليبيا. فمقاربة الظاهرة الجهادية في سياقتها الوطنيّة الضيقة كانت -ولا زالت- أحد أهم نقاط ضعف فهم الظاهرة.

لم يغفل المسلسل عن إثارة زاوية أخرى، هي العلاقة بين الجماعات الإرهابية المسلحة وبين جماعات الإسلام السياسي، تلك التي ربطها القيادي الإخواني بشكل صريح ومباشر ودقيق في تصريح متلفز حول التلازم بين أحداث سيناء وعزل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي وإزاحة جماعة الإخوان عن الحكم.


هذا المشهد الذي وثّقه المسلسل، يظهر بشكل اعترافي غير قابل للتأويل التداخل الكبير بين هذه الجماعات ببعديها السياسي والحركي وتبادل الأدوار بينها وتطابق جوهر أهدافها رغم ما قد يظهر من اختلاف في طرق العمل.

أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين في هجومه على المسلسل الذي يخلّد مسيرة أحد ضحايا الإرهاب في مصر وهو ضابط في الصاعقة المصريّة أعطى لنهايته في مواجهة الجماعات التكفيرية بعدًا "ملحميا" في المخيال المصري، هذا القيادي وهو "داعية" كذلك لم يجد من شيء يشنّع به على المسلسل غير اللعب على ورقة الطائفيّة حيث كتب تغريدة معرضًا فيها بديانة مخرج المسلسل. وهي أحد الأسلحة التي تعتمدها هذه التنظيمات في خطابها التحشيدي والتعبوي ولو على حساب وحدة النسيج الاجتماعي الوطني ووحدة المجتمعات وتجانسها وسلامة أهلها.

تغريدة الداعية الإخواني، هي في جوهرها تأكيد على صحّة ما يقوم به المسلسل من تفكيك للسرديات التي تقوم عليها بنية الفكر الجهادي والإرهابي، وتأشير واضح على التداخل بين جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الجهاديّة، وتوحّدها حول الخطاب ومنطق التفكير وحول وحدة الغاية وحتى الأساليب.