من يتحدّث عن البعثة الأممية للدعم في ليبيا منذ تشكيلها في 2011، يعني أنه يعود إلى ملفات كثيرة فوق الطاولات وتحتها. سنوات ثمان من التوصيات والاقتراحات والاجتماعات التي ارتبطت بالبعثة بتتابع شخصياتها، تفوق ربما حتى أكبر القضايا السياسية قدما في عصرنا الحديث، والنتائج في غالبها كانت بعيدة عن الانتظارات بسبب عجز المبعوثين عن تحريك الملف الليبي بكل تعقيداته أو هم ربما مرتاحون لتباطؤه. كل مبعوث كان يقدّم نفسه على أنه الحل للّيبيين، لكن النهاية تكون بمغادرة موقعه دون التفاتة وراءه استحياء على عجزه وهونه.

بعثات الأمم المتحدة إلى ليبيا ... كرونولوجيا التعثرات

592c3_150730232449_libya_640x360_ap.jpg

بالعودة وراء إلى العام 2011، لمعرفة الأدوار التي لعبها المبعوثون الأمميون في ليبيا، سيكون من السهل تبيّن العجز الذي لحق أغلبهم، بداية من إيان مارتن الدبلوماسي البريطاني الذي جاء على أساس أن الإشكال سينتهى بمجرّد إسقاط نظام العقيد معمّر القذافي. فكانت المشاريع تسطّر من خلال فكرة إعادة الإعمار بسبب الدمار الذي سببته الحرب وإعادة بناء المؤسستيْن الأمنية والعسكرية وفق مخرجات الأحداث الجديدة، لكن كل الحسابات سقطت في الماء بعد تحول فكرة إعادة الإعمار إلى هدف بعيد وغيرت أطراف الصراع نحو "الثوار" في ما بينهم لتفتح صفحة أخرى من القتال لم تنته إلى اليوم.

الخَلَفُ طارق متري المتسلح بدوره بإرث دبلوماسي محترم، لم يكن أكثر حظّا من سلفه البريطاني في تعقيد الملفات. فالهدف الذي جاء من أجله بمفاهيم الديمقراطية والحوارات السياسية، لم تخرج عن سياق الاجتماعات المغلقة، حيث كانت الشوارع ساحات اقتتال تؤثثها تشكيلات المليشيات التي وجدت في البيئة الجديدة مجالا سهلا لممارسة جرائمها واستغلال الفراغ السياسي الذي أعقب إسقاط النظام. ومنذ ذلك التاريخ دخلت البلاد في دوامة خطيرة من العنف زادها تعقيدا صعود التيارات الجهادية الجهادية لصدارة المشهد.

خلال المرحلتيْن السابقتين، لم يكن دور البعثة الأممية واضحا بما فيه الكفاية حول مهامها الرئيسية، كانت مجرّد رؤى وتصوّرات يجتهد فيها كل طرف أحيانا دون إدراك حتى للمشهد، أو دون خريطة واضحة لعمله. كانت الإفادات أو التصريحات الإعلامية تتحدّث عن مفاهيم عامة يمكن أن يقولها أي طرف من مكانه في نيويورك دون حتى الاضطرار للقدوم إلى ليبيا أو الإقامة في تونس. فالصورة على الأرض لم تكن توحي بمجهود أو تطوّر واضحيْن إلى حين تعيين برناردينو ليون، الذي جاء والبلاد في أسوء مشهد يمكن أن تُرى فيه. مع ليون كان الحديث لأول مرّة عن مفهوم المبادرة. الرجل ترك الواقع على الأرض وطرح مشروع الصخيرات الذي سجّل لنفسه من خلاله نقطة تشكيل مؤسسة حكومية أكسبها شرعية دولية، (رغم أن الشرعية الداخلية لم توجد وقسّمت السلطة إلى رأسين).

باتفاق الصخيرات بدأت صورة ودور المبعوث الأممي يتوضحان لليبيين. المبعوث الأممي هو الحامل لجملة من الأفكار يقدّمها دوليا في مرحلة أولى، ثم يطرحها داخليا بين الفرقاء الليبيين، وهي طروحات كانت صعبة في بلد يعيش انقسامات كبيرة والسلطة الأقوى فيه هي السلاح الذي يفرض شروطه على كل موقع في الدولة. كان ليون باتفاق الصخيرات هو الذي قدّم مفهوم المبادرة. الاتفاق كان قاصرا نعم، كان متسرّعا نعم، اختيرت أطرافه أيضا نعم، لكن المهم أنه أعطى معنى للمبعوث الأممي بعد أن كان سابقاه يزيّنان موقعهما ببعض الصور التذكارية التي تضاف في سجلهما ولم ينافسهما في الفشل إلا المبعوث اللاحق لليون، مارتن كوبلر الذي كان أقرب إلى الممثل الكوميدي منه إلى المسؤول الأممي، باعتباره من حيث الأرقام كان أكثر عددا من الابتسامات التي لم تكن تحاكي الوضع الحزين الذي تعيشه البلاد وقتها وربّما إلى اليوم.

استثناء غسان سلامة ... هل يذهب بالبلاد إلى الانتخابات المنشودة 

87d6dc04-9b1c-45bd-ad01-b9796c61f174_16x9_1200x676.jpg

الاختلاف النّسبي بين المبعوثين الأممين كان مع قدوم غسان سلامة. ليس الرجل ذلك المنقذ الذي نجح فيما عجز عنه سابقوه، لكنه بقراءة قريبة من الموضوعية، كان الأقرب والأكثر فهما للملف (ربما انتبه إلى أخطاء من سبقه)، وهو الذي جازف باللعب على أوتار حساسة منها ما قُبِرَ في مهده ومنها ما تقدّم أشواطا ومنها الذي تعدّ له بعثته انسجاما مع خطوات محلية بدأت منذ فترة، مثل المؤتمر الوطني المزمع عقده قريبا، والذي يعتبر أملا كبيرا نحو انتخابات تُطوى من خلالها صفحة خلافات طال أمدها.

منذ تعيينه منتصف العام 2017 في ليبيا، كان سعي سلامة حثيثا نحو فكرة تجميع الفرقاء الليبيين. اتفاق الصخيرات بالنسبة إليه كان مفتاحا، لكنه كان مدركا أن الخلافات بسببه عميقة وعلى ذلك الأساس كان هدف الانطلاق منه كأرضية نحو خطوات جدّية تنهي مرحلة الخلافات وتفتح صفحة جديدة لا تستثني أحدا من الليبيين بمختلف توجهاتهم. الواقع أن سلامة محاولاته بنيت على تأييد دولي واضح، فغالبية القوى العظمى كانت تبحث عن مخرج للأزمة بالنظر إلى أن تبعاتها على الاقتصاد والأمن كانت وخيمة حتى على تلك القوى في علاقة بالإرهاب والاقتصاد والهجرة غير الشرعية.

من باريس إلى روما إلى صقلية إلى تونس، كان سلامة ينظّم اجتماعاته، بعضها بحضور عناصر القوة الرئيسية، حفتر والسراج، بما يمثلانه من ثقل عسكري وسياسي في البلاد، وبعضها بحضور ممثلين عنهما مثلما وقع في جلستيْ الحوار اللتين عقدتا في تونس وتقّدمتا خطوة ثم تأخّرتا خطوتين.

كل الحوارات المذكورة كانت تتحدّث عن وحدة مؤسسات الدولة ووحدة السلطة التنفيذية وضرورة إجراء الانتخابات، لكن أغلبها كانت تتقدّم ببطء أو تفشل لأسباب معينة، لكن الدبلوماسي اللبناني بقي يقدّم مبادراته للحل. حتى إفاداتها بين أروقة الأمم المتحدة كانت في غالبها بنفس تفاؤلي. كأن الرجل يريد إنهاء مهمته بخطوة تُحسب له، وعلى ذلك الأساس كانت المبادرة الأخيرة من خلال المؤتمر الذي دعا إليه في غدامس من أجل المرور إلى تاريخ ثابت للانتخابات وبتعهدات من كل الأطراف، بعد فشل المحاولات السابقة في الوصل إلى الهدف.

في الـ21 من مارس الماضي ومن خلال إفادة لمجلس الأمن من طرابلس، أكد غسان سلامة على تنظيم المؤتمر الليبي في مدينة غدامس منتصف أبريل، بهدف وضع خارطة طريق واضحة لرسم معالم الحل في البلاد. سلامة أشار في أشهر سابقة خلال فترة الإعداد له، إلى أن غالبية الشعب الليبي تؤيّد الخطوة وتنتظر ما ستفضي إليه، وأضاف أن الدعوة ستوجه فيه إلى كل الأطراف المعنية داخليا، والتي سيُطلب منه رسميا تحديد تاريخ ثابت للانتخابات التشريعية والرئاسية. الأطراف الفاعلة لم يسمها بالتحديد لكن مراقبين أشاروا وقتها إلى إمكانية حضور قائد الجيش خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، خاصة بعد تصريحات سلامة بأنه لا غرابة في لقاء الرجلين في دبي وستكون بينهما لقاءات في المستقبل.

2018-05-29T100747Z_1595038818_RC11EE30A600_RTRMADP_3_LIBYA-SECURITY-MEETING-780x405.jpg

كل الأنظار المحلية في ليبيا، وحتى خارجها، كانت قبل تفجّر الوضع في طرابلس موجهة نحو مدينة غدامس. المؤتمر كان عليه رهان كبير في فتح أفاق كبرى للحل عبر انتخابات تنهي أزمة السلطة التي تعانيها البلاد منذ سنوات، وأزمة أمنية مازالت بعض المدن وعلى رأسها طرابلس تعانيها بسبب انتشار المليشيات، وهو السبب الذي فجّر الأوضاع فيها مُنْهِيًا تقريبا أي تقدّمٍ قرِيبٍ للعَمليّة السياسيةِ.