يعيش الإعلام في ليبيا، منذ سبع سنوات، على وقع تحديّات كبرى، فمع العام 2011 وانفجار "الوعود الكبرى" بالحريّة والدّيمقراطيّة والتعدديّة، بدأ الصحافيون والنشطاء، في هذا البلد الخارج من حرب أهليّة طالت لشهور وخلّفت مئات الآلاف من الضحايا، يناضلون من أجل تكريس حقوقهم في التعبير وحريّة الكلمة، غير أنّ حسابات الحقل لم تكن هي حسابات البيدر، فقد زادت معاناة الصحافيين الليبيين بعد العام 2011 وتعمّقت المعاناة والقمع والاضطهاد، وهو ما تؤشّر له، بشكل دائم، كل تقارير المنظمات الصحفية والحقوقية العالمية. 


من "مركزة" القمع إلى تنوّع مصادره: 


من بين التّهم التي جُيّشت، في طابور طويل، ضدّ نظام العقيد معمّر القذّافي، في العام 2011 لتبرير التدخّل العسكري في البلاد وإنهاء النّظام الذي حكم ليبيا لأربعة عقود، هي "قمع حريّة التعبير والصحافة"، ورغم أن واقع الصحافة في ليبيا طيلة حكم العقيد معمّر القذّافي لم يكن في وضع مثالي، ولا يمكن نفي وجود سيطرة مطلقة للدّولة على وسائل الإعلام وقوانين قاسية للنشر والتوزيع، فإنّ ما هو مؤكّد أنّ هذا "القمع" و"الاضطهاد" كانا ممركزين بيد الدّولة وأجهزتها الأمنيّة، الأمر الذي تغيّر كثيرا بعد العام 2011، حيث تنوّعت مصادر القمع والاضطهاد  بين السياسي والايديولوجي وحتى الاجتماعي.

كانت معركة حريّة الصحافة في ليبيا، واضحة قبل العام 2011، افتكاك مساحات الحريّة من النّظام والقيادة السياسيّة ومؤسسات الدّولة، معركة لم تكن مفصولة عن معركة الدّيمقراطيّة والتعدديّة و"المواجهة" كانت واضحة، لكن مع سقوط نظام العقيد معمّر القذّافي ومع موجة "الوعود الكبرى" التي جاءت بها "ثورة 17 فبراير" إزداد الأمر تعقيدًا وزاد القمع المسلّط على الصحافيين وعلى حريّة الصحافة والتعبير.

الجماعات المسلّحة، الجهاديّة في معظمها، كانت أوّل الخنادق في مواجهة هذه الحريّة الموعوة، جماعات متصلّبة حول خطاب واحد ماضوي ومغلق، يرفض المخالف تمام ويواجه بكل عنف ودموية المخالفين والمختلفين والكلمة المعارضة، فمفتاح بوزيد رئيس تحرير صحفية برنيق الذي قتل بمدينة بنغازي 26 مايو عام 2014، كان أحد أهم الصحافيين في ليبيا المعروفين بموقفهم الرافض لهذه الجماعات والدّاعي لبناء دولة مدنية واعادة بناء مؤسسات الدّولة من جيش وشرطة، في وقت كانت ترزح فيه ثاني كبرى المدن الليبية تحت سيطرة الجماعات الجهاديّة المتطرفة وعلى ايقاع عمليات الاغتيال المتواصلة للعسكريين والنخب والمدنية والنشطاء والصحافيين.

القمع لا يتوقّف فقط عند حدود هذه الجماعات، والميليشيات المسلّحة وعند التهديدات الجسديّة بالاختطاف والقتل والمنع من العمل، فغياب القوانين الحامية، والمؤسسات القوية القادرة على فرض سلطة القانون، تنعش نزعات أخرى من القمع، لعلّ أخطرها تلك القادمة من المجتمع ذاته، فالمجتمع الليبي محافظ وتركيبته القبلية (وفي ظلّ غياب الدّولة) تجعل من الأعراف الإجتماعيّة هي القيم العليا المسيرة لحياة المجتمع، وهو ما يعمّق من حجم المحاذير الصحافيّة والثقافيّة، التي من المفروض أن تكون محميّة (أساسا) بقوة القانون ومؤسسات الدّولة.


** السيطرة على الإعلام والتوظيف الموجّه: 

الصراع السياسي في ليبيا ينعكس بشكل قوي على الاعلام والصحافة، ومن أكثر المخاطر التي تهدّد ليبيا في هذا الإطار هي محاولة التوجيه والتوظيف، فالجماعات السياسية تبحث عن روافد إعلاميّة لتمرير مشاريعها وأهدافها، وتبدو جماعة الإخوان المسلمين (على سبيل المثال) أحد أهم الجماعات السياسية في ليبيا، بحكم تاريخها الطويل وبحكم صلابتها التنظيمية وقدم نصوصها وأدبياتها وكذلك تخالفاتها الإقليمية والدولية المُعلنة، هي المثال الأقرب لتفكيك هذا التدخل الكبير التي يعانيه الإعلام الليبي في اتجاه التأثير والتوظيف.

وفي الحقيقة، لا يمكن الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، بمعزل عن كلٍّ كامل من الجماعات الاسلاميّة المتحالفة معها والميليشيات والأجسام السياسية التابعة لها، وأيضًا وخاصة بمعزل عن خندق اقليمي كامل يمر عبر الدّوحة وأنقرة وحتّى السّودان.

جماعة الاخوان في ليبيا بتحالفاتها المحليّة والاقليميّة، وبنزعتها الإختراقية لمؤسسات الدّولة، تحت عناوين التمكين، تشتغل ضمن تحالفات سياسية داخليّة تحت عناوين ايديولوجيّة وجهويّة، هذه "الكتلة" المتداخلة تتحرّك سياسيا، وحتى عسكريا، تحت غطاء إعلامي كبير داخل شبكة كاملة من المؤسسات الاعلامية المحليّة والدّوليّة.

هذا التوظيف السياسي للإعلام والصحافة في الحروب والمعارك السياسيّة، يعمّق من أزمة الإعلام في البلاد، ويعرّض الصحافيين للتصنيفات، والتهديدات والخطر.

قنوات ومواقع اخبارية وصفحات للتواصل الإجتماعي، مدعومة من شبكات اعلاميّة خارجيّة في قطر وتركيا، تشتغل بشكل كامل على توجيه الرّأي العام في ليبيا بشكل يخدم مصالح هذه "الكتلة" ذات النواة الإخوانيّة، توظيف للإعلام والصحافيين.

لا يبدو المشهد الإعلامي في ليبيا، صحيا بحسب كل التقارير المحلية والدّوليّة، أوضاع صعبة ومخاطر جمّة، وتوظيف سياسي واضح للاعلام في لعبة الدّم والمال والسياسة، مؤشرات تضع ليبيا في ذيل الدّول حسب حريّة الصحافة، وهو ما يعكس -في الحقيقة- الوضع العام المتشضّي في البلاد.