"في زمن الفراغات والفزاعات، عالمنا المعاصر، ملفات كبرى، الهجرة غير القانونية، مكافحة الإرهاب، الحروب بشتى أنواعها، الكل يرتقب نتائج "كورونا"، والتاريخ يسجل البيانات، والصراع يحتدم بين القيم الإنسانية والعجلة الاقتصادية. لقد عجز العالم الطبي ليومنا هذا، تقديم علاج للوباء (كورونا وما سبق)، كما عجز العالم السياسي تقديم شرح مؤكد للوباء كونه ظاهرة سياسية تحمل نوعا من أنواع الحروب وهو ما يستوجب أن نعيد التفكير للتعايش بشكل دقيق".... بهذه الكلمات استهل الكاتب والمحلل السياسي د. محسن ونيس القذافي، حواره مع بوابة إفريقيا الإخبارية، حول جائحة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد_19) في البلاد، وانعكاساته على المشهد الليبي الذي يعاني حالة انقسام وصراعات وخلافات حادة... وإلى نص الحوار


*الأوبئة لم تمنع الحروب على مر التاريخ

في ظل جائحة كوفيد_19.. كيف ترى تطورات المشهد الليبي من الجانب السياسي والأمني؟

تشكل الحروب والأزمات تغيرات وطفرات سياسية واقتصادية واجتماعية، وهو ما يقود أحياناً لإعادة التوازنات الكونية بأشكال وأنماط مستحدثة، ليصبح الدائن مدين، وهو ما حصل بشكل واقعي وفعلي بعد الحربين الأولي والثانية، أو ما نمر به اليوم من حرب هجينية وفق المساقات السابقة. 

أن تلك التحولات قد تستضيف مخرجات أخرى، ففي زمن كورونا أصبح الإعلام الأكثر ربحاً وتأثيراً فلم يعد يمثل السلطة الرابعة بل تصاعد بشكل غير مسبوق ليمثل السلطة المطلقة والمحرك للسلطات الثلاثة "التشريعية، والتنفيذية، والقضائية"، كما رسمت الأزمة طريقاً جديداً لمسار التعليم واعتماد آليات التعليم عن بعد، ليمثل مصداقية تقنية وعلمية بعدما رفضته العديد من الدول العربية، وبهذا ستصبح التقنيات الرقمية والتواصلية والبحثية ذات أهمية مضافة. 

لم تشهد الأحداث الجارية وأخص الصراع العسكري والأمني بليبيا تغيراً في مسارات وساحات وموازين القتال في ظل انتشار جائحة كورونا، برغم التحذيرات الدولية ومناشدات التهدئة المتكررة عبر منظمة الصحة العالمية "WHO"، حيث ينظر الجانب الليبي لثلاث مرتكزات أساسية، أولها: محدودية الإصابات، وثانيها: الأهمية القصوى للدفاع المشروع على الأرض، وثالثها: النظرة المشبوهة للمنظمات الدولية والتي أصبحت تكيل بموازين مختلفة غير متوازنة، حيث افقدت ثقة الليبيين في إيجاد حلول للأزمة منذ سنوات طويلة، وتغاضت عن تدفقات السلاح والبشر عبر الموانئ الغربية بليبيا، لتستضيف عبر تلك القنوات غموض القادم في زمن الوباء، استمراراً للخلافات الدولية المغذية لحروب الوكالة والحروب المباشرة، وكما هو حال المجتمع الدولي اليوم في فشله لإيجاد دواء أو لقاح للوباء كوفيد 19 وما سبقه من جوائح عديدة انتهت أو انحصرت دون جهد بشري.   

وبالرجوع إلى تاريخ قريب، عام 1918، وفي ظل اجتياح وباء "الانفلونزا الإسبانية" والتي حصدت أكثر من 50 مليون نسمة، نود أن نشير إلى أن تلك الأزمة لم تمنع المعارك الدائرة حينها، وانتقال الجيوش بقيادة دول كبرى، مما تسبب في نقل العدوى وصولاً لما يقارب نصف مليار نسمة، فانتقال الجيوش واستمرار فتح الحدود نتيجة للصراع حينها ساهم بشكل مباشر في نقل العدوي وتفشي الوباء بشكل دراماتيكي.


*الدولة الليبية وجهود مكافحة الوباء

في ظل جائحة كورونا.. هل كان للانقسام الليبي دور في خلق نوع من التنافس بين الأطراف الليبية على احتواء الأزمة لتبادل الاتهامات بالتقصير بشكل غير مباشر؟ 

في ظل التشظي والانقسام السياسي ومن ثم الاقتصادي والاجتماعي غير المبرر، وبعد فشل المحاولات الدولية -متضاربة المصالح- لإيجاد أبواب الاصلاح بالاتفاق السياسي الموقع في ديسمبر عام 2015، حيث فقد الاتفاق المشار إليه كافة قواعده وأسسه، بل لم يحقق واقعاً حقيقياً ومنهجاً تأسيسياً لمرحلة الانتقال التحضيرية، بل على العكس تماما، فقد فاقم الأزمة وانحرف بالمسار السياسي والعسكري والأمني، وعمق الخلافات الاقتصادية وانقسام مؤسساتها المرهقة والمتداعية، فلم يعد ذلك الاتفاق يمثل أرجل الحكم الثلاث، القاعدة-القوة-الشرعية. 

يستوجب مكافحة كل وباء على مر التاريخ القيام بخطوات منهجية ومشتركة وبشكل أو آخر، هي تلك الخطوط العريضة لإدارة الأزمات بشكل عام، وذلك لبلوغ الهدف ومنع أو حجب الانتشار أو تخفيف الحدة، وأهمها هو الحجر (مع إيجاد البديل الغذائي)، والكشف وفق الدرجات والأولويات (الأصل ثم الفرع)، ونأتي بعدها للتعقيم والتحليل والاحصاء والمراجعات، وهي ما يعرف بسياسات حماية القطيع...لحين الوصول للعلاج أو إيجاد اللقاح. وبشكل أخر، الثقافة المجتمعية مع إيجاد الميزانيات القوية والداعمة والمعززة والمخصصة من الدولة وهو ما يدفع ويسارع بوتيرة الخروج المبكر من الأزمة تطبيقاً وقياساً وملائمة. 

تقوم الدولة الليبية بجهد رائد وبإجراءات حكيمة رغم محدودية الامكانيات البشرية والمخبرية لمكافحة الوباء، في الوقت الذي يسعي الجميع حرصاً على تنفيذ التعليمات الصادرة من الأجهزة المكلفة، حيث تمثل فرصة  أمام الدولة للمسح الشامل وتجهيز قاعدة بيانات ستسهم في التدقيق والفرز بشكل مختبري وإحصائي،  غير أن الأمر في طرابلس رغم حسن النوايا والمقاصد والمهنية لدى الأجهزة المسؤولة ك "المركز الوطني لمكافحة الأمراض"، لم يتمكن في فرض استراتيجياته نظراً للهيمنة على قرارات اللجان الموكلة والتي لا تزال تخضع في جلها لسلطات خارج تلك الدوائر. 

لقد حملت إجراءات الدولة الليبية في مكافحة الوباء هموماً انقسامية وانعكاسات واضحة توافقاً مع كل انقسامات المؤسسات السيادية وما يتبعها، فما صلح لبرقة وشرق ليبيا لم يلقي قبولا في طرابلس والغرب الليبي والعكس صحيح، الأمر الذي أنتج ساعات مختلفة من الحظر وسياسات أخرى تتمثل في إجراءات الوقاية وغيرها امتثالاً للبيانات الصادرة من المركز الوطني، فقد قامت الحكومة الليبية (المؤقتة) منذ أواخر شهر فبراير بإغلاقٍ كامل للمعابر والموانئ والمطارات، بالإضافة إلى فترات الحظر التي تم اتخاذها وتنفيذها، وتفعيل الكثير من المؤسسات الخيرية كالهلال الأحمر والكشافة وبعضاً من مؤسسات مجتمعية تطوعية، في حين أننا رأينا اللجنة المشرفة في طرابلس لم تستطع تحقيق تلك الرغبة، للعديد من الأسباب، وهو ما أدى إلى تباطؤ إجراءات احترازية وازدياد التدفقات البشرية بشكل غير خاضع للحجر أو الحظر -في أغلبه- وهو ما تسبب في وقت لاحق بظهور حالات متفرقة وصل عددها في شهر مايو إلى 60 حالة، نسأل الله الشفاء العاجل لهم، الأمر أيضا يبين فقدان القرار وغلبة الجماعات المصلحية داخلياً وخارجياً علي المشهد بشكل عام.  

لقد شكل أيضاً ملف العالقين الليبيين بالخارج تحدياً اخراً لكلا الطرفين، وتم إدارة تلك الأزمة في كل من الشرق والغرب بشكل مهني، غير أن تدخل أطرافاً سياسية تابعة لمجلس الدولة قد ساهم في خرق إجراءات المركز الوطني لمكافحة الامراض بالغرب الليبي وفق ما أكده تقرير هيئة الرقابة المؤرخ في 7/5/2020 بالخصوص.  

والحقيقة، ما يشهده الملف الطبي للوقاية والعلاج في زمن كورونا يؤكد بما لا يدع للشك بأن مصير المركز الوطني لمكافحة الأمراض كغيره من المؤسسات والهيئات والوزارات بالغرب الليبي، مسلوب الإرادة ولا يزال يخضع لضغوط المصالح والمطامع، وبأن قيادات الحرب الدائرة هي قيادات متداخلة ومتقاطعة ومتوغلة في كل أطراف الجسد الليبي. 


*دعوة لإعادة التفكير وتفعيل كافة المنظومات

ما رأيك في الإجراءات الاحترازية والوقائية التي تم اتخاذها في ليبيا؟ وهل هي كافية؟ 

لقد استطاعت دول عربية ومنها ليبيا تجفيف وتخفيف مصادر انتقال العدوى واتخاذ توصيات وإجراءات ملزمة في مجال الانتقال والنقل والسفر والحجر والبعد الاجتماعي، دفعاً للضرر وحرصاً على المواطن، غير أننا لا نستطيع الجزم والقول بأن الإجراءات التي تم اتخاذها لمكافحة أزمة كورونا بأنها كافية ووافية، فالعالم  الغربي والمتطور قد تعثر في المواجهة والتصدي، بل تعدى الأمر للصراع فيما بين دوله ما دفع للقرصنة وافتكاك وحجز الأدوات والمعدات والأجهزة بين دول كبرى تدين بواقعها إلى منظومات إنسانية وحقوقية، فتساقطت الأقنعة من خلال ما تم توثيقه بوسائل إعلام ومصادر رصينة.

إن إفلاس دول أوروبية كثيرة وعدم قدرتها على مواجهة تحديات الوباء تمنح دول الجنوب "عالمنا الثالث" فرصة لوقفة صادقة لنفض الغبار، وإعادة الثقة والعزم  لمواجهة تحديات القادم والتجرد من تركة الاستعمار ومخلفاته (الفوقية الغربية). 

لا زالت الكثير من دول العالم تخاطب مواطنيها بشكل الإجبار وليس الاختيار، وهذا قد يكون مبرراً في أحوال كثيرة، غير أن التعامل مع المواطن (القطيع) وحجب الحقيقة أو تمييعها لا نجد له مبرراً الا تلك النظرة الدونية والانتقاص من الكرامة واعتبار القطيع معاقاُ، وفي ظل ظروف ما يمر به عالمنا، وفي ظل تلك الأزمات أو الحروب الغامضة بين الولايات المتحدة الامريكية من ناحية والصين من ناحية أخرى، يجب أن نسعى من خلال المنظمات الدولية برفع الأمر لكونه جريمة تعاقب عليها القوانين الدولية وبالأخص تلك الجماعات أو الدول التي ساهمت في نشر الأوبئة سواءاً بشكل بيولوجي من خلال مراكزها البحثية، والتي تسبب بكل خطر محدق تجاه البشرية، والا سنواجه سيناريوهات أكثر تضررا. فكل الأخطار المحدقة تأتينا من عالم يطلق على نفسه العالم الأول وليضع أمامنا كل الأزمات -بيئية ووبائية وبيولوجية ونووية وغيرها- ونحن من سندفع الثمن الباهض.  

نحتاج اليوم بشكل ملح إلى إعادة التفكير والتفعيل في كافة المنظومات السابقة تأسيساً وتشريعاً، وبالأخص تلك المتعلقة بالبحوث، ومن الضرورة أن نضع أطر وميزانيات داعمة تخصص للبحوث والمعامل والتجارب سواءاً بالجانب الصحي وكافة الجوانب الأخرى، فعالمنا اليوم يتطلب حزام العلم والمعرفة للتصدي والمواكبة واستشراف القادم. 


*كورونا يعاقب البشرية نصرة للبيئة

فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي.. كيف أثرت أزمة كورونا على الاقتصاد؟ 

لقد عاقب فيروس كوفيد الجديد البشرية نصرة للبيئة، ولا يمكن أن يكون إطلاقاً اعتباره صناعة اقتصادية، فالضرر الاقتصادي وأبعاد ما بعد انتهاء الأزمة ستكون أطول وأعمق، بل ستكون البطالة الأزمة الطويلة من ضمن الأزمات الرئيسة، لتأتي ضمن انعكاسات انتشار الوباء وتساقط الكثير من المؤسسات العملاقة وإعادة تشكيلها، ليبدو أن هناك دوافع أكبر تتجه بالعالم لتقويض ما بني خلال المائة عام المنصرمة. 

لقد أتت أزمة كورونا لتزيل الكثير من الغبار والأقنعة والسواتر، فالاقتصاد العالمي لم يقم على أسسه الواقعية بل بني بشكل فقاعي أو بأشكال وهمية (Virtual)، وقد تبين الكثير من الخلل العالمي والتصارع الصناعي والتجاري، فلن تذهب الأزمة دون جرح اقتصادي دولي كبير، ومن سيدفع ثمن العواصف القادمة والتغييرات هي تلك الأسواق الهشة وغير القادرة على تجميع موقف موحد، وبالمقاربة، كما كان الحال في ما يعرف بالطفرة النفطية رغم تعدد المسارات الحالية، أيضا لم يعد لدينا متسع من الوقت في مواجهة سياسات دولية مجحفة وبالأخص تلك الدول المصدرة للنفط وتحديدا عربياً وخليجياً، فالاستثمار البشري والصناعي لهذا القطاع وغيره  اقتصر على خبراء وشركات ومصانع أجنبية، الأمر الذي حول تلك الموارد الريعية تحت التصرف والاخضاع الكامل لهم، وهو ما نحاول خلال القادم -أن تم تحسين السياسات وتوظيفها- للاهتمام والتطوير الوطني وإعادة التدوير وإعادة الاستثمار. 


*تحذيرات من تغيرات قطبية 

كلمة أخيرة.. أو رسالة تحب توجيهها؟ 

ستكون الفترة القادمة بعد كورونا نقطة تحول وتأسيس وتأريخ، وستنعكس آثارها بشكل غير مسبوق، ومن ضمن المؤشرات، على الجانب السياسي والاقتصادي، ستكون هناك تغيرات قطبية مع بروز أقطاب ثنائية بدلاً من الأحادية، وتنافسات بين كل من الصين والولايات المتحدة الامريكية، مع اجتذابات لكل مكونات أوروبا والتي ستشهد ضعفا وقصوراً وكساداً اقتصادياً وانقساماً سياسياً، حيث ستكون البطالة الهم الأكبر والأوضح والأبرز لتلك الأسواق الأوربية، كما ستهدد بقاء واستمرار الاتحاد الأوربي بشكله الحالي، اما على الأمد البعيد، فهناك انقسامات أوربية من داخلها ستجتذبها تلك الأقطاب الرئيسة. في الوقت الذي ستقوم دول كبرى بنقل أزماتها للخارج بشكل حروب غير تقليدية وبصياغات قادمة. كما ستغطي التأثيرات المباشرة الأخرى مجالات عديدة، كالتعليم والنقل والهجرة والبيئة والكثير. نسأل الله السلامة التعافي لكل البشر.

كما أننا اليوم وأمام تلك الجائحة وما يستجد لا قدر الله، يحتم ويلزم ليبيا والدول العربية والافريقية لوضع منهجيات مستقبلية ممنهجة وعلمية قابلة للتطبيق، فنحن في عالمنا الثالث تم اقتحامنا واختراقنا دون حول لنا ولا قوة، ودون ذنب منا، ولن نتمكن في القريب العاجل أن نصنع الأدوية والمضادات واللقاحات أو غيرها من التحصينات، علينا الاستعداد لرصد ميزانيات ضخمة.