لقد تغيرت الكثير من المفاهيم بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وتبعاته الاوروبية، وتهاوي النظام الأممي لـ"ويستفاليا"، او ما يعرف بعدها بالقانون الدولي العام، وأصبحت التطبيقات تخضع لكم آخر من المعطيات والتي لا نري خضوعها للدولة القومية. ومن أهم ما نستطيع أن نقره اليوم ثلاث فواعل رئسية؛ أولها: بأن الدولة لم تعد الفاعل الوحيد، وقد نتج من خلال ذلك، إغفال حقيقة تزايد تأثير الفاعلين المسلحين خارج الأطر الشرعية للدولة او ما يعرف بالفاعل المهجن وهو من يعيش في منطقة رمادية، وثانيها: تغير أنماط التحالفات ومنها التحالفات المرنة او المحدودة والمؤقتة، وأصبحت الدول أكثر برغماتية في إدارة علاقاتها مع دول الجوار والنفوذ، وهو ما يعرفه فقهاء العلاقات الدولية بمصطلح التحالفات المرنة او التوافقات المحدودة، وثالث المتغيرات تكمن في البحث عن قائد رغم كثرة القيادات وذلك للتحول الى ثقل مركز القيادة وهو ما يعرف بالوزن السياسي.

إن تلك العناصر التقليدية التي كنا نقيس من خلالها ضعف الدولة او قوتها وتحديد ما اذا كانت الدولة اداة فاعلة ولاعب رئيسي على الساحة الدولية او الإقليمية ام لا قد تغيرت بشكل جوهري، وأضحت الدولة ذات طبيعة نسبية وليست مطلقة، وذات طبيعة مؤقتة وليست دائمة، كما ان الدولة تستسقي قوتها من ظاهرة علائقية... وللعديد من الظروف والتغيرات التي طرأت علي المجتمع الدولي وأهمها ما حدث فيما بات يعرف ب "الربيع العربي" ، أضحت الساحة الليبية اليوم أكثر سيولة، وأظهرت الخلافات بين مكونات الشعب الليبي، سواء علي الصعيد الديني، او النزعات القبلية العشائرية وجها آخر يلوح بآفاق رمادية ويلوح بانقسامات إقليمية.


التجاذبات و الشراكات تحت مفاهيم التدخل الإنساني:


لقد أوجد وضع التدخل الإنساني او ما يعرف بالحماية الدولية في الشأن العربي وتحديداً في الملف الليبي منذ عام 2011 مسوغات بناء معادلة أمنية مستحدثة والتي نستطيع وصفها بأنها مهددة للأمن والإستقرار الداخلي، كما دعمت تنامي الإختراق الخارجي، وذلك نتاجاً لإضعاف مفهوم الدولة واتساع نطاق وعمق صراعاتها وازماتها البينوية، وتنامي ظواهر عديدة وأهمها ظاهرة الإرهاب وما تبعها من بروز جماعات مسلحة خارج الدولة بفعل التغذية الخارجية مالاً وسلاحاً وعتاداً.

وفي ظل هذه التعقيدات وفي إطار هذا الجدل، تشكلت ثلاثة تيارات رئيسية؛ التيار الداعي إلى توظيف مبدأ التدخل بوصفه أداة لخدمة مصالح القوى الكبرى، وهو التيار الواقعي لمجريات ما يحدث، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ويكون الاهتمام بالتدخل هنا مدفوعا في الأساس بمصالح الدول الكبرى وقائمة الأوليات الخاصة، وهناك التيار الداعي إلى الحفاظ على سيادة الدول المستقلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وفق النظرية الماركسية في العلاقات الدولية، وهو موقف العديد من دول عالم الثالث، والذي لم يعد مثالياً وواقعياً في ظل النظام العالمي الجديد والعلاقات الدولية المعاصرة، كما أن هناك التيار الداعي (الوسطي) إلى ترشيد مبدأ التدخل الدولي الإنساني، بحيث يتم الاعتراف به وقبوله، ولكن مع وضع ضوابط وتدابير كفيلة بضمان موضوعيته وتطبيقيته وهو أيضاً أصبح مجال دراسة في العلاقات الآنية والمستقبلية في ظل القطبية المنفردة وتأثيراتها علي مبادئ النظام الدولي والقانون الدولي العام والهيمنة على قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وهو ما نراه اليوم في تخبط توجهات المبعوثية الأممية في الملف الليبي وعدم القدرة علي اختيار منهج مستقيم، وتفعيل قنوات اتصالات خارج الشرعية الوطنية والدولية، وتقليص الدور الانتخابي وما انتجه من مؤسسات تشريعية وتنفيذية.


استعادة الدور الأمريكي المباشر


بالرغم من الإنقسام والتشظي والاختلاف والشقاق الذي يحيق بليبيا منذ زمن، الا ان الأسوء من ذلك هو عدم وجود رؤية حقيقية أو رؤية قابلة للتنفيذ من قبل كل الأطراف الدولية والمحلية تبعاً، فهل دول الوصايا او دول المصلحة لم تتفق بعد على منهج موحد؟، أم أن بعضها يعاني أزمات حقيقية علي مستويات سياسية واقتصادية؟ الأمر الذي يعيق الكثير من التقدم في شؤون دول خارجية، أم هناك تقدمات فعلية لإرادة محلية وطنية رافضة ومعرقلة لمحاولات التثبيط ومغامرات التجزئة والتقسيم؟.

استشرافاً، الوضع الليبي بات مهدداً لكثير من دول الطوق والجوار وشمال المتوسط، و اشعال المنطقة وعدم استقرارها سيتكفل بفوضى مناطقية واقليمية، ولن تكون محدودة، ومن ثم الدخول في منعطافات وعواصف تغيير جذري، فهل ستنتظر الولايات المتحدة الأمريكية شركائها للوصول الى بر الأمان، والذي بات صعب المنال؟، أم أن الوصايا ستنتهي ونرى تدخلاً فعلياً وواقعيا ومباشراً؟ أم ان البناء سياتي على أيدٍ وطنية رافضة لكل تلك التوجهات؟؟.