رأى الكاتب والمحلل السياسي الليبي الدكتور محسن ونيس القذافي، أن هناك اتفاق على أن المناهج الدولية تسير وفق منظومة مسيرة وممنهجة بحثاً عن كل فرصة للسيطرة والتوغل ومن ثم التسيير والريادة.

وفي ورقة تحليلية بعنوان (الترانسيتولوجيا ... والعلاقة الليبية الأمريكية) سلط محسن القذافي، الضوء على الموقف الأمريكي من الأزمة الليبية، حيث جاء نص الورقة كما يلي:

بالرغم أن حديثنا يخص الشأن الليبي والأمريكي، الا أن كل ما يدور حول عالمنا العربي والافريقي قد يكون سبباً في تأزم الأوضاع أو انفراجها، كما قد يكون خياراً لتحقيق بدائل مستحدثة وفق منهجيات وديناميات العلاقات الدولية وتوازن المصالح، تأكيداً لما قاله صانع السياسة الخارجية الأمريكية الأسبق "كسنجر" من يسيطر على الغذاء يسيطر على الشعوب، ومن يسيطر على الطاقة يسيطر على القارات، ومن يسيطر على المال يسيطر على العالم بأسره". كما نؤكد، بأن كل تغيير يقابله مقاومة، وكل تدخل وامتداد يزيد من عمق الصراع، ومع كل تحول دولي تأتي الحروب.

في الوقت نفسه، يجب أن لا نحمل القوى الكبرى بشكل مطلق الإخفاقات والانتكاسات بدول الجنوب، في إعادة صياغة وصناعة العالم بالشكل الذي يتوافق ومصالحها، الا أن التغيير قد يصب في مصالح ضدية، فليبيا اليوم ليست بأحسن حـالاً مما كانت عليه عشية التدخل الغربي المباشر 2011، والتدخل التركي بـ طرابلس 2019.

كما أن النفط والغاز الليبي لا يتصل بشكل مباشر بالمصلحة الأمريكية، فالولايات المتحدة الأمريكية توقفت معظم شركاتها وعقودها منذ عام 2008-2009، غير أن الحرص الأمريكي يأتي  (من الجانب الاقتصادي) دعماً وحرصاً وتأميناً لمصادر الطاقة لحلفائها في اوروبا (المملكة المتحدة-إيطاليا) وصيانة حقوق الحليف بشرق المتوسط.

قرارات أمريكية تجاه ليبيا

قررت الولايات المتحدة الأمريكية التدخل في ليبيا بالتوافق مع الشركاء الدوليين، والقيادة من وراء الستار وفي دوائرها المغلقة، مع تحمل معظم تكاليف القيادة وأعباء المواجهة، والتي دفعت مجتمعة بأكثر من 25 ألف طلعة جوية، وأمور لوجستية أخرى، وهو ما تسبب في انتهاك الحقوق والسيادة بدلاً من جلبها والمحافظة عليها، وأصبح يزيل ستر الأنظمة الموالية بالباطن، ويعمق الرؤية المستقبلية لمفهوم مستحدث وبديل عن الحماية، الا وهو مبدأ تقرير المصير، مخالفا بذلك ميثاق الأمم المتحدة بمادته الثانية.

كانت ردود فعل الولايات المتحدة الأمريكية صارمة وحازمة في مواجهة التهديدات التي  أطلقها النظام الليبي الأسبق عام 2008 بشأن التحكم الوطني في مصير مستقبل النفط والتقليل من الإنتاج، وطرد الشركات الأجنبية ((تهديد وشبح التأميم الجديد))، والعمل على بيئة الأعمال والوظائف والشركات، إضافة إلى التمدد الليبي بأفريقيا وإنشاء المصرف المركزي الأفريقي وعملته الذهبية الموحدة وجيشها، تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، كلها أعطت إشارات غامضة ومهددة ومزعجة لمستقبل استقرار الاستراتيجية الطاقوية الأمريكية بليبيا، وهو ما تسرب من خلال وثائق «ويكيليكس» في موقف السفير الأمريكي القلق وبرقيته لحكومته ذاكراً «أنه من الظاهر أن الليبيين سيسلكون بوتيرة متصاعدة سياسات وطنية في قطاع الطاقة التي يمكن أن تهدد الاستغلال الأمثل لاحتياطيات ليبيا الهائلة من النفط والغاز». كما أشارت برقية من الرئيس التنفيذي لشركة كونوكو فيليبس عام 2008، بعد لقاء جمعه بالرئيس الليبي الأسبق، انزعاجه وقلقه من إمكانية اتخاذ الدولة الليبية قرارات بشأن تخفيض الإنتاج النفطي، ومشروعات بطرد الشريك الأجنبي.

وهو ما أكدته صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر يوم 11 يونيو 2011 إلى أن ليبيا قد اتخذت خطوات عملية في هذا السياق، حيث قامت بتعديل قوانين العمل، وقامت بالضغط على الشركات لتوظيف أبناء البلد في مواقع قيادية.

 

العلاقة الليبية الأمريكية

باستمرار الأحداث والصراع ومراحل التكوينات المستحدثة، تمر ليبيا بالكثير من التغيير في ملامحها وأحوالها وثقافتها، وتشكل الحالة الليبية تعريفا حقيقياً لمعني "ديستوبيا" المجتمعات المعاصرة، حيث أثار الصراع السياسي والعسكري والفوضى غير المحدودة، ظواهر لم تكن ضمن حسابات الكثير من الدول المتدخلة، الا تلك القوى التي استفادت من توظيفها وتحصينها ودمجها ضمن استراتيجيات أعمق.

خلال الأعوام 2011-2020، نستطيع أن نصف المراحل التي تخللت فترة الانتقال الليبي) مرحلة التردي إلى مرحلة الصراع السياسي-التشريعي، استمراراً إلى الصراع العسكري، وصولا اليوم إلى مرحلة الانزلاق الخطرة كــ "الحرب الأهلية" وتمهيداً يلوح لــ "التقسيم والانفصال"، علماً بأن التقسيم الثلاثي أو الرباعي لن ينتهي الا بأشكال متنوعة من محاصصات التنافس القبائلي ما يضع الأمر برمته تحت موازين التعقيد والعبث والتعثر.  في المقابل، فشل منظمة الأمم المتحدة في تطويق الأزمة، ومعالجة خلافات الكبار الخمس، ومن ثم فقدان دورها الحقيقي في صنع السلم والأمن الدوليين.

لم يكن الدور الأمريكي واضحاً، وبعد تردد الدخول العسكري من قبل  الرئيس الأمريكي الأسبق "براك أوباما" والإدارة الأمريكية، استطاعت (بريطانيا وفرنسا) إقحامها بالحملة العسكرية لإسقاط النظام الليبي الأسبق عام 2011، وبعد انتهاء المهمة، أقفلت وأغفلت الولايات المتحدة الأمريكية الملف الليبي، وسلمت  القيادة للشريك الأوروبي الدائم  "المملكة المتحدة" بإدارة الأزمة، كما فوضت ومنحت الإذن لــ "إيطاليا" بحكم قربها الجغرافي، ولعبها دور الوصي، وحقوقية الشاطئ الرابع حسب زعمهم، أو بحكم الوعد الأمريكي عام 1948  (وفق ما نشرته صحيفة تربيون دي ناسيونال) بإعادة مستعمرات إيطاليا بـ ليبيا وافريقيا بشرط احتفاظ الولايات المتحدة الأمريكية بقواعدها في ليبيا.

 

استيقاظ أمريكي

تخبطت السياسات الأمريكية كثيراً بعد تغير الدفة لصالح الجمهوريين وانتخاب الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب"، (مسارات دعم الإسلام الوسطى البديل– إن صح التعبير –، أو المعارضة المعتدلة، وهو ما عبر به الرئيس الأمريكي الأسبق "أوباما" في دعمه المالي للمقاتلين المعارضين في سوريا)، الأمر لم يعد يليق بالسياسات الخارجية الأمريكية الحالية، غير أن مقاومة التغيير، ولوبي المصالح ومراكز الأبحاث والدراسات والاستراتيجيات، ذات الجذور الواسعة، والشبكات العنكبوتية، قد عطلت أو أخرت الكثير من القرارات الضدية تجاه الكثير من القضايا، ومنها الملف الليبي، وفي كل حال، لم يعد لتلك الجماعات القوة والقدرة كما كان الحال في السابق إبان حقبة الديمقراطيين.

ساهم الفشل الأوروبي والابتعاد الأمريكي في معالجات الملف الشائك الليبي، في ظل إقسام مجتمع دولي، وهو ما أشار إليه المبعوث الأممي الأسبق "غسان سلامة" خلال حوار المتوسط بروما 2020، وما قامت بنشره بوابة أفريقيا الإخبارية تحت عنوان (سلامة معلقاً علي الأزمة الليبية: هل ينتقد نفسه أم ينتقد مساراً كاملاً؟) معتبراً بأن الولايات المتحدة الأمريكية توقفت عن لعب دورها كشرطي عالمي، مع عدم جدية الأوروبيين للمعالجات والاهتمام بملفاتهم الضيقة، وهو ما أنعكس بشكل فوضوي، ودفع قوة جديدة للاقتحام المباشر وطرح الحلول كــ بديل ومنقذ.

كما دفع الاستهتار الدولي بمصالح الشعوب إلى انعكاسات صادمة، ظناً بأن تلك القوي بعيدة عن ليبيا جغرافياً، الا أن الصراع الليبي، رغم محدودية نطاقه، سيطال الكثير من الدول، وقد يدفع لتغيير خارطة سياسية وجيوسياسية، ويقلب موازين أنظمة حكم، ويسهم في تحقيق انتصارات لآخرين.

لقد ساهم كل ما سبق (هشاشة الوضع الأوروبي-الابتعاد الأمريكي-الانقسام الدولي بمنظمة الأمم المتحدة)، في  تدخل تركي مباشر وصريح، لصالح شرعية دولية مصنوعة، وزاد من شهية الاهتمام والضغط الروسي المتعافي للعب الدور الجديد، الموازي والخفي، بين كل الأطراف لتحقيق مصالح في شرق المتوسط والبلقان، كل تلك المستجدات، دقت نواقيس خطر  وإنذار للولايات المتحدة الأمريكية، بل لفتت انتباه ساسة البيت الأبيض لقادم أخطر، وأوضحت بأن الحلول الأوروبية وتفويضات الشريكين بالإدارة وغيرها لم تعد كافية بل قد ستفقد التطويق والسيطرة والريادة، ومن ثم تراجع الموقف الأوروبي وأصبح تابعاً ومسيراً.

لن تسمح الولايات المتحدة بتمدد تركي في ليبيا دون تطويق وضمانات، غير أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه ليبيا مستمرة بنفس المنهج والاتجاه الثانوي والرقيب، فما أفصح عنه بيان السفارة الأمريكية بتاريخ 12/7/2020 وفق ما تم نشره ببوابة أفريقيا تحت عنوان (بيان السفارة الأمريكية حول ليبيا يدق جرس الإنذار)، بتاريخ 13/7/2020، وهو ما يؤكده بيان مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين في 4/8/2020، فالمصالح الطاقوية والأمنية ونصيب الحليف والشريك هي أولويات البيت الأبيض دون غيرها، وبهذا نقرأ الموقف الأمريكي بأنه لم يتغير أو يتقدم، فلن تخسر أمريكا شيئاً بوجودها غير المباشر والانتظار ثم القفز، وربما ستحقق أعلى المكاسب، وهو ما تم بالحرب الثانية إبان حقبة الرئيس الأمريكي الأسبق "روزفلت".

وبهذا قد تذهب الولايات المتحدة الأمريكية إلى مسارات قادمة ومن ضمنها:

المسار الأول: الحرص على استمرار فترة المراوحة والجمود والتهدئة، أي استمرار الحال بشكله الحالي، لحين الانتهاء من الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، كما سيتجه المسار إلى خلق مناخ تفعيل آليات الإصلاح والتنمية، وذلك من خلال تأسيس حكومة مركزية شاملة، وصناعة منطقة خضراء "منزوعة السلاح"، تطابقاً مع التجربة العراقية، ودفعاً لتأمين مصادر الطاقة، ومنع الانحراف المضاد للتوسع.

المسار الثاني: منح الضوء الأخضر غير المباشر، لتركيا والوفاق في المواجهة والتمدد والتوسع، وذلك لحل الأزمة بالصدمة، استنزافاً واستمالة لــ (الوفاق) وتركيا من جهة، في مواجهة التفويض الليبي (البرلمان والجيش الليبي ) والجيش المصري من جهة أخرى.

يبدو بأن الولايات المتحدة الأمريكية، تعاملت بثانوية الملف الليبي – رغم الخطورة -، ويبدو بأن قرار البيت الأبيض أصبح معطلاً بشكل مؤقت، ويبدو بأن هناك تفاوضات تدور في ساحات أخرى كـــ الساحة السورية واليمنية والإيرانية والخليجية، وكلها مؤثرات وعقبات تنعكس إيجابا وسلبا، ولذا، لم يعد القرار الأمريكي مؤيدا بشكل مطلق لأي الطرفين الليبيين المتنازعين، والدول المتدخلة، كما أن الأولويات الأمريكية نستطيع إيجازها، في محورين وهما: دولياً، الملف الإيراني وتبعاته إقليمياً، وداخلياً، الملف الاقتصادي والانتخابات القادمة.