في كل كتابة من الصعب أن يتجرّد الإنسان من ذاته، وخاصة في ما هو سياسي أين يبقى الموقف الخاص ملازما لصاحبه مهما سعى إلى الموضوعية أو الكتابة بلغة المراقب والمتحكم في أهوائه. وفي الحالة الليبية لا خروج عن هذا الإطار، حيث جاءت عملية إقصاء سيف الإسلام من الانتخابات الرئاسية محيّرة لجزء من شعب ليبي يعتقد في أن النجاة من الوضع الحالي لا يقدر عليها إلا من خبر الدولة وعرفت معه استقرارا في مستويات مختلفة، رغم ما يؤاخذ عن تلك الدولة من هفوات كان يمكن التعامل معها بحكمة أكبر، لكن أن يتم تقييد الشخص بقوانين موضوعة على الإطار أو بإجراءات مزاجية غير خاضعة للقانون ولا للمنطق وقتها نكون أمام ديمقراطية كاذبة متحكم فيها بمنطق الأمر الواقع.

وفي السياسة كما في الأدب أو السينما أو الدراما، البطل ليس شرطا أن يكون رابحا خلال الأحداث بل أحيانا يكون ضحيتها، لكنه غالبا هو محرّكها ومحور دورانها إلى أن تأتي لحظة الإنصاف التي يرتفع معها الحق الذي لا رادّ له. كما أن التتويج عادة ما يكون في آخر القصة، أين يحكم العدل، ويقف البطل في لحظة ينتهي معها الظلم أو المأساة التي سادت على كامل الأحداث، معلنا عن النجاة من كل الطبات التي وجدت في السيناريو، وما يحصل في ليبيا هذه الأيام ليس بعيدا عن هذه الصورة إن صحّ التمهيد لها وناسبت القصد من إدراجها، بعد أبطلت محكمة سبها ترشح سيف الإسلام القذافي، وهو البطل السياسي هنا بمعناه الرمزي، ترشحه للانتخابات الرئاسية بزعم عدم انطباق إحدى المواد الانتخابية عليه.

فبعد يومين من تقديم ترشحه للرئاسيات، أعلنت المفوضية العليا للانتخابات عن رفض الترشح، استنادا إلى فصول غير واضحة وغير ملزمة إلا لمن كتبها، باعتبار أن الجنائية الدولية التي استند عليها قرار الإسقاط، تعتمد أصلا على ملفات من محاكم ليبية كانت أصدرت حكما ببراءة سيف من كل التهم التي نسبت إليه وبالتالي تكون المفوضية إما أمام تناقض أو أمام عدم الالتزام بأحكام قضائية محلية وقرارتها ستجعل قائمة الترشيحات منحصرة في أطراف تمارس نفوذها مناطقيا بعيدا عن كل امتداد شعبي جامع.

وما يؤكّد عملية التصفية السياسية لملف سيف الإسلام القذافي هو رفض الطعن الذي تقدّم به، حيث غادر محاموه "قاعة المحكمة بعد امتناع القضاة بمحكمة سبها الابتدائية عن عقد جلسة النظر في الطعن المقدم ضد قرار المفوضية العليا للانتخابات رفض ترشحه"، وهي سلسلة تعطيلات بدأت بهجوم مسلحين على المحكمة بالتزامن مع وصول فريق فريق الدفاع لتقديم ملف الطعن ضد قرار استبعاده من انتخابات الرئاس، في حادث استنكرته حتى  الأمم المتحدة عبر بعثته في ليبيا معبرة عن انزعاجها من مثل هذه التجاوزات.

الإشكال في إقصاء سيف الإسلام أنه ينهي أكذوبة الديمقراطية التي رفعها القادمون على أجنحة "الناتو"، ويفتح الجدل عن المشهد الذي يسعى إليه هؤلاء؛ هل هي ليبيا الجديدة التي تنهي كل تمييز سياسي أو جغرافي أو اجتماعي أم ليبيا المشكلة على مزاج المتنفذين الجدد والذي يتبنون الإقصاء ضد كل مخالف لهم بمزاعم مختلفة وسيف في هذه الحالة مثال من بقية أمثلة باعتبار أن قائمة المقصين مازالت تتوسع كل يوم، ما يهدد العملية الانتخابية برمتها، إذا تواصل العمل بمثل هذا المنطق.

لكن رغم الممارسات الإقصائية ضده، بقي سيف محافظا على الهدوء في تصريحاته مطالبا الليبيين في رسالة قصيرة، بسحب بطاقاتهم الانتخابية، لكي يتمكنوا من المشاركة في موعد 24 ديسمبر، خاصة بعد أن قام عدد منهم بتمزيقها في ردّة فعل غاضبة على القرار، وكأن الرجل لديه ثقة أو على الأقل أمل بأن قرار إسقاطه هو الذي سيسقط وأن عودته للمنافسة ستكون بمجرّد سير الأمور في إطارها القانوني السليم.

وفي تعليق له عن إسقاط ترشح القذافي قال النائب في البرلمان الليبي سعيد مغيّب أن المجلس صاغ قوانين غير إقصائية ومانحة لكل الليبيين حق الترشح للرئاسية، بهدف بناء دولة ديمقراطية حديثة. وقال مغيب في تصريحات إعلامية أن مثل هذه الإجراءات من شأنها أن تعطل العملية الانتخابية.

إقصاء سيف والكثيرين غيره آخرهم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، من الانتخابات الرئاسية يعتبر إشارة سلبية عن نزاهة العملية الانتخابية برمتها، بل إن الأخير أشار في تصريحات سابقة على هامش مؤتمر باريس حول ليبيا، إلى أنه لن يتخلى على السلطة إلا إلى شخصية منتخبة انتخابا نزيها بما قد يعني رفضه للانتخابات إذا واصلت في هذه الفوضى والإجراءات غير المحسوب، وكل هذا قد يجعل البلاد من جديد أمام كابوس عدم الاستقرار، خاصة أن أطرافا كثيرا تعرف جيدا أن ستكون خارج دائرة الاهتمام مستقبلا وبالتالي من صالحها الإبقاء على الحالة الراهنة.

يرى كثيرون أن سيف الإسلام ليس ابنا لزعيم ليبي سابق، ولا هو شخصية رمزية قادم بسجل مليء بالتجارب كما هو مليء بالأسئلة والاستفهات. لكنه اليوم أملا لكل الليبيين في أن يعود بهم إلى فترة كان كرامة الليبي محفوظة في أي مكان يدخله، وكان الوضع الاقتصادي للبلاد مريحا حتى للطبقات الضعيفة التي تراهن على الدولة في كل احتياجاتها.

بالعودة إلى بداية المقال ورمزية الأبطال في الأفلام والروايات، يكون سيف الإسلام هو البطل الذي تجسّدت حوله لحظة الظلم، لكنه يقفز عليها بإصرار المتحدّي الذي يعرف أن التاريخ دائما ما ينصف أهل الحق وأن إرادة الناس أقوى من قفزات المندفعين وضيقي الأفق، وما الآيات التي تلاها لحظة تقديم ترشحه، إلا ثقة منه في أن العدل باق مهما حاول المعرقلون إسقاطه وأن صوت العقل سيكون أعلى من كل أصوات التشويش التي تقفز على سطح الأحداث، لكن الأسئلة التي تطرح حتى بعيدا عن سيف، هي مدى قدرة البلاد على الوصول إلى لحظة 24 ديسمبر في ظل حالة التوتر التي لا يكاد أحد ينجو منها.