ما أكثر اعتذارات قادة الغرب وحلف "الناتو" هذه الأيام! إنه يعتذر لأنه تسبب بموت مدنيين خلال قصفه في ليبيا! بل إن مسؤولاً رفيع المستوى فيه تجرأ قبل أيام وصرّح بأن إسقاط نظام القذافي كان خطأً فادحاً لأن ذلك مهد لتدمير ليبيا وسمح للجماعات المتشددة بالاستيلاء عليها! وإذا كان الاعتراف سيد الأدلة، ففي آخر الاصدارات الغربية التي أقر واعترف بها المسؤولون الغربيون بوجود أخطاء خلال حربهم الظالمة على ليبيا التي شنوها تحت حجج وذرائع واهية، هو ما صدر عن تقرير للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني التي وجهت فيه نقدا شديدا لرئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، بسبب قراره بالتدخل العسكري في ليبيا، لأنه تدَخُل استند إلى افتراضات خاطئة، وقالت اللجنة إن أخطاء عديدة اعترت عملية قرار انضمام بريطانيا وفرنسا في التدخل عسكريا بذريعة حماية المدنيين الليبيين من نظام العقيد معمر القذافي عام 2011.‏ 

من جهته سيلفيو برلسكوني، رئيس وزراء ايطاليا السابق، الذي شاركت بلاده في التدخل العسكري في ليبيا اعترف في مقابلة مع وكالة انباء "اينا" الايطالية الرسمية، أن ليبيا لم تشهد "ثورة" وان بريطانيا وفرنسا هما اللتان فبركتا هذه الثورة لتبرير تدخلهما العسكري من أجل الاستيلاء على النفط والغاز الليبيين، والشعب الليبي كان يعيش أوضاعا معيشية جيدة وبلده مستقر.‏ أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقد أقر بذنب بلاده بشكل واضح بمأساة ليبيا حينما قال: (إننا ندين للشعب الليبي بعقد من الفوضى في ليبيا)، ويبدو أن ماكرون ذهب أبعد من الاعتراف، أو الإقرار، حيث أقر بإدانة سياسة بلاده، ومسؤوليتها عن التسبب بعشر سنوات من الفوضى التي دمرت ليبيا وأفقرت شعبها، وأشعلت الحرب الأهلية، التي شكلت البيئة المناسبة للإرهاب التكفيري الذي سيطر على الكثير من مرافق الحياة قابضاً على رقاب الليبيين. ما لم يقله ماكرون وغيره من قادة حلف "الناتو"، أن قرار نشر الفوضى في البلاد العربية جاء من قيادة حلف شمال الأطلسي في قمته العام 2010، حيث قرر (ضرورة تغيير الأنظمة في المنطقة العربية) بإثارة الاحتجاجات، وباستخدام "الإخوان المسلمين"... ولم يكن الدور الفرنسي في ليبيا، إلا الواجهة، التي استندت إلى الدور الأمريكي- البريطاني- الغربي- الإسرائيلي، وهكذا فإن اعتراف ماكرون هو اعتراف للحلف الأطلسي بمسؤوليته عن الفوضى والخراب والدمار والإرهاب الذي انتشر في ليبيا خلال السنوات العشر الماضية.

لقد كانت الجماهيرية الليبية هدفاً أساسياً ومطمعاً استعمارياً كبيراً للغرب الاستعماري مع وضوح مكامن الثروة الطبيعية التي تمتلكها، ودورها الإقليمي في فضح الدور الاستعماري الغربي في القارة الأفريقية... لهذا وذاك فقد تمّ تدمير ليبيا الدولة العربية الأفريقية عن سابق إصرار وترصد، وهي التي حافظت على مستويات عالية من النمو الاقتصادي، كما وثقها البنك الدولي في عام 2010، مع زيادة سنوية في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.5 في المائة، وسجلت "مؤشرات تنمية بشرية عالية" من بينها الوصول الشامل إلى التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي، ولأكثر من 40 في المائة للجامعات. وعلى الرغم من التفاوتات، كان متوسط مستوى المعيشة في ليبيا أعلى منه في البلدان الأفريقية الأخرى، حيث وجد نحو مليوني مهاجر، معظمهم من الأفارقة، عملاً هناك. وتركت الدولة الليبية، التي تمتلك أكبر احتياطيات نفطية في أفريقيا، إضافة إلى احتياطيات أخرى من الغاز الطبيعي، هوامش ربح محدودة للشركات الأجنبية. وبفضل صادرات الطاقة، حقّق الميزان التجاري الليبي فائضاً سنوياً قدره 27 مليار دولار. بهذه الموارد، استثمرت الدولة الليبية نحو 150 مليار دولار في الخارج. كانت الاستثمارات الليبية في أفريقيا حاسمة بالنسبة لخطة الاتحاد الأفريقي لإنشاء ثلاث منظمات مالية: صندوق النقد الأفريقي ومقره ياوندي (الكاميرون)، والبنك المركزي الأفريقي ومقره أبوجا (نيجيريا)، وبنك الاستثمار الأفريقي ومقره طرابلس. كانت هذه الهيئات ستعمل على إنشاء سوق مشتركة وعملة واحدة لأفريقيا. 

وليس من قبيل المصادفة أن تبدأ حرب الناتو لتدمير الدولة الليبية بعد أقل من شهرين من قمة الاتحاد الأفريقي التي أعطت، في 31 كانون الثاني 2011، الضوء الأخضر لتأسيس صندوق النقد الأفريقي في غضون عام. ورسائل البريد الإلكتروني من وزيرة الخارجية في إدارة أوباما، هيلاري كلينتون، التي أبرزتها ويكيليكس، تثبت ذلك. فقد أرادت الولايات المتحدة وفرنسا القضاء على الرئيس الليبي قبل أن يستخدم احتياطيات الذهب في ليبيا لإنشاء عملة أفريقية بديلة للدولار والعملة المحلية الفرنك التي فرضتها فرنسا على 14 من مستعمراتها السابقة. وقد ثبت ذلك من خلال حقيقة أنه قبل أيام قليلة من شنّ الهجوم على ليبيا في عام 2011، كانت البنوك هي التي اتخذت الإجراءات، فقامت بالحجز على 150 مليار دولار استثمرتها الدولة الليبية في الخارج، والتي اختفى معظمها، ومن بين القراصنة هناك بنك غولدمان ساكس، أقوى بنك استثماري أمريكي، والذي كان ماريو دراغي، رئيس الوزراء الإيطالي الحالي نائباً لرئيسه.

لقد اقترفت قوات "الناتو" في ليبيا جرائم حرب، وكذلك جرائم ضد الإنسانية ودانتها آنذاك كل من روسيا والصين والهند إضافة إلى الجامعة العربية. ولتأكيد المؤكد، فقد نشرت صحيفة "ذا هيل" بياناً صحفياً أدلى به السيناتور الديمقراطي الأميركي دينيس كوسينيتش في آب عام 2011 يدعو إلى "محاسبة قيادة الناتو أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب قتل مدنيين ليبيين نتيجة القصف "، كما أكد أن تدخل القوات الأمريكية في الصراع الليبي يعدّ عملاً إجرامياً. وعليه فما حدث في ليبيا لا يمكن تصنيفه إلا حرباً قادها "الناتو" ضد المدنيين، ما يعد خرقاً لقرار مجلس الأمن 1973. ولهذا فإن جريمة الإبادة الجماعة الموصوفة دولياً تنطبق على ممارسات القتل المتعمد التي ارتكبتها قوات حلف "الناتو" ضد المدنيين في ليبيا، وعلى المجتمع الدولي معاقبة حلف "الناتو" لارتكابه هذه الجرائم، طبقاً للاتفاقيات الدولية الملزمة لجميع دول العالم بما فيها الدول الأعضاء في حلف "الناتو". إزاء هذا الواقع، نتساءل هل سيحاسب الجناة على ما اقترفوه من أعمال قتل بحق المدنيين في ليبيا، وعما ألحقوه من أضرار ببلد عمر المختار؟

في تقديري الشخصي، إنّ ما حصل قد حصل، ومحاكمة هؤلاء الجناة لا تعيد الحياة لمن قتل من الليبيين، ولا يُعمّر بلداً خرّبته ودمّرته، ولا تزال حرباً ظالمة، تستعر اليوم بأشكال ونماذج مختلفة، بقدر ما يشير إلى ما يحمله من إسقاطات في السياسة، تحتاج إلى وقفة متأنية.‏ والتوقف هنا ليس لطرح سؤال قد تطول الإجابة عنه أو تصعب إلى حدّ الاستحالة، لكنها الضرورة التي تقتضي التساؤل قياساً... هو كم تحتاج ليبيا، ومن كم مسؤول ومتواطىء من الداخل، قد يقلّون في الحجم والثقل حيناً، ويزيدون طولاً وعرضاً في بعض الأحيان، وكم سنة تحتاج ليبيا كي يقف أولئك جماعة أو فرادى أمام المحاكم الدولية، لإطلاق ما يعتقدون أنها ساعة الحقيقة للإقرار بما اقترفت أياديهم، وما تسببت به سياساتهم ومواقفهم ولا تزال؟‏ بغضّ النظر عن الإجابة، وما تقود إليه، فإن طرح السؤال يبدو كافياً للاقتباس والاستدلال على ما جرى ويجري، وما قد يجري لاحقاً في ظل هوَس بارتكاب الأخطاء إلى حدّ المشاركة في جرائم غير مسبوقة... في محاكاة المأساة الليبية وبيادقها المتحركة حسب الطلب تطول القائمة، وتكثر فيها الانكسارات الناتجة عن خطأ الاعتقاد وكارثية الاتجاه بفصوله وتخوم ما يتورّم فيه، أو على سطح تردداته الحالية، وهي قائمة لا تبدأ عند أركان الإدارة الأمريكية والبريطانية والفرنسية ومعها الرؤوس الإخوانية الحامية في الداخل الليبي، كما لا تنتهي بالتأكيد لدى أردوغان، مروراً بمن بقي منهم أو رحل، والعدّ فيها يحتاج إلى المزيد وفي جعبته المزيد.‏

الخطير ليس في اعترافات لا تعيد ما ذهب، بل في تجليات ما يحضر منها من مقارنة تدفع بالأصيل الغربي،  لتخيّل أن العالم كان أفضل، لو أن القذافي لا يزال على قيد الحياة، وهو حال يتساوى فيه الندم حين لا ينفع الندم، والاعتراف المتأخر حين لا جدوى من الاعتراف أو الإقرار، بينما حفنة من مرتزقة السياسة وأجراء الموقف وموظفي المهمة في زوايا المشروع الاستعماري الذين يصرّون على الخطأ والتغوّل داخله إلى حدّ التورّم والتمسك بأحلام مريضة، سقطت بتقادمها السياسي والمكاني والزماني.‏ والمشكلة أو المعضلة في سياق فهم لدور يعتقدون، أو يعوّلون، أو يتوّهمون، أن مزابل التاريخ يمكن في لحظة غافلة أن تحتويهم، رغم يقينهم أنها لا تتسع لهم، حيث على جوانبها يقفون، أو سيقفون في هوامش منسيّة، وقد ذهب بعضهم أو يكاد، ويتحضّر الكثيرون ممن تبقّى للرحيل السياسي أو العمري بحكم الزمن.‏ في ليبيا، اللائحة تطول إلى حدّ تتعب معها مساحات الجغرافيا على استيعابها، وهي تضم بين صفحاتها عشرات، وربما مئات ممن أخطأ بحق ليبيا وشعبها، ومن ارتكب الخطيئة إلى حدّ الإثم بحق ليبيا، وحبل ارتكابهم وخطيئتهم على الجرّار، ومن دون توقف، فلا اعترافهم منتظر، ولا جرأتهم المفقودة والمهدورة كماء وجههم يمكن التعويل عليها، لكنها تصلُح لتكون وقفة تأمّل إضافية، لنعيد السؤال: كم من مُعتذر سيقف وقد بلع لسانه؟ وكم من معتذر نحتاج وتحتاج ليبيا؟ 

خلاصة الكلام: انتهى عصر الكلمات الحقائق، فما يدور في ليبيا واقع تنفيذي لهذا البلد يراد له أن يكون مختلفاً، وقد صدق الرئيس الأمريكي السابق ترامب حينما اعترف، أنّ ليبيا كانت أفضل مع القذافي، لكن الذي يختبئ وراء الكلمات المشجعة، أن من خطط لرحيل الرئيس الليبي معمر القذافي، كان يعرف أنّ الفوضى ستضرب البلد وسيصل إلى ما وصل إليه، فليس أولا سهلا تغيير نظام حكم متجذر لسنوات طويلة مع كل صعوبة ما تتركه فكفكة مؤسساته والآثار السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية التي يتركها... والنموذج الليبي حاضر أمامنا وموثق تماما بالحالة المعقدة التي بلغتها الساحة السياسية والإنسانية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية، بل صعوبة أن تصل إلى عملية توحد التنظيمات التي تفتك بكل عناصر الوحدة الليبية... ومهما قيل في هذا الذي حدث ويحدث في ليبيا، فهي كارثة بكل معنى الكلمة، وكل عناصره الواضحة تنبئ بأنه لا نهاية له في المدى المنظور... وأن الصورة القاتمة هي الحاكمة، والكل يتحرك وفق ما هو مرسوم، ويجب أن لا يحيد أحد عنه... هي الصورة التي من المؤسف تقديم وصف لها، وليبيا تستعد لاستحقاق رئاسي وتستعد للمزيد من الصراع الذي لم يثبت على شكل، بل على متغيرات لا تلبث أن تلد أخرى في كل مرة.


كاتب صحافي من المغرب.


* المقال يعبّر عن وجهة نظر الكاتب