كم هو غريب ولافت حال المجتمع الدولي ومؤسساته الأممية، فهو لم ينهض حتى اللحظة بمسؤولياته تجاه شعب تيغراي الأثيوبي، ولم يحاسب، أو يسائل، أو يتجرأ حتى على وضع حد للنظام الأثيوبي، لارتكابه جرائم، وخرقه للقانون الدولي، وكل المواثيق والأعراف الأممية، وارتكابه الجرائم بحق الإنسانية، ولم يتحرك أيضا في اتجاه معاقبة هذا النظام. وفي هذا السياق دعت الأمم المتحدة الأربعاء الماضي، إلى فتح ممرات إنسانية في إقليم تيجراي في إثيوبيا الغارق في الحرب، محذرة من أن المنطقة التي تواجه خطر المجاعة قد تشهد انقطاعا للإمدادات الغذائية. والأسبوع الماضي فرض حصار مطبق على إقليم تيجراي في إثيوبيا بعدما قطع الطريق الوحيد الذي تمر عبره المساعدات إثر هجوم استهدف قافلة لبرنامج الأغذية العالمي. 

ووفقا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإنّ أكثر من 400 ألف شخص "دخلوا في مجاعةٍ" في إقليم تيغراي شمالي إثيوبيا، الذي يشهد حرباً منذ أشهر. فيما هددت السلطات الإثيوبية بمنع إدخال المساعدات بسبب سيطرة المتمردين من جديد على عاصمة الإقليم. وبدورها عبرّت الولايات المتحدة عن قلقها من التقارير التي تشير إلى توسع القتال في إقليم تيغراي، في حين أكدت أديس أبابا استعدادها للرد على هجمات "جبهة تحرير تيغراي". وقالت وكالة الأنباء الإثيوبية إن نشر القوات الخاصة التابعة للأقاليم، هو خطوة لردع ما وصفته بـ"الأعمال الاستفزازية" لجماعة "جبهة تحرير تيغراي" على حدود إقليمي أمهرا وتيغراي.

والثابت اليوم، أنّ عدم استعداد الحكومة الإثيوبية الواضح للسماح للمجتمع الدولي بتعزيز وسائل الوصول السريع وغير المشروط وغير المُقيد والمُستدام للمساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء تيغراي كان سببا في تفاقم الوضع السيئ الذي تعيشه المنطقة، وتشير بعض تقارير الأمم المتحدة ومُنظمات أخرى في تيغراي إلى احتمال وقوع انتهاكات خطيرة لاتفاقيات جنيف وغيرها من جوانب القانون الإنساني الدولي التي تحظر تجويع المدنيين والعقاب الجماعي، فهناك أيضا تقارير عما يمكن أن يُشكل عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية بقيادة الدولة، فضلاً عن عدد كبير من عمليات الاغتصاب، فقد تم فصل عشرات الآلاف من التيغراي العاملين في مجالات حفظ السلام والأمن والجيش والشرطة والاستخبارات في إثيوبيا من وظائفهم وأحيانًا تم احتجازهم. وقت سابق، دعا وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الاتحاد الأفريقي وشركاء دوليين آخرين، إلى المساعدة لمواجهة أزمة آخذة في التفاقم في منطقة تيغراي بشمال إثيوبيا، وأدان الفظائع التي تشير تقارير إلى ارتكابها هناك، وأشار بيان بلينكن إلى خيبة أمل متزايدة إزاء تعامل إثيوبيا وإريتريا المجاورة مع ما وصفه "بأزمة إنسانية آخذة في التفاقم" وجاءت تصريحات بلينكن بعدما أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا يتهم القوات الإريترية بقتل مئات المدنيين في تيغراي خلال 24 ساعة من العام الماضي، في واقعة وصفتها المنظمة بأنها ربما تكون جريمة في حق الإنسانية.  

وللأسف الشديد، فلغة الصلف والغرور والعنجهية تتصاعد في الخطاب السياسي والإعلامي الأثيوبي، وفي الممارسات اليومية على الأرض. ومنذ مجيء آبي إلى السلطة، دخلت أثيوبيا في اضطرابات واشتباكات عنيفة بين مجموعاتها العرقية، ويُلقي الصراع في إقليم تيجراي والتطورات الراهنة على الساحة بظلاله على مستقبل العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيجراي التي استطاعت بسط سيطرتها على الإقليم مجددا، والتي يبدو أنها قد وصلت لطريق مسدود، مما يجعل فرص الوصول إلى حلّ سياسي لهذا الصراع مستبعدا حاليا، في ضوء تصاعد بعض الأصوات داخل شعب تيجراي التي تطالب بالانفصال عن الدولة الإثيوبية، وقيام دولة تيجراي التي تمثل حلمًا منذ سبعينيات القرن الماضي؛ لا سيما أن الدستور الفيدرالي يمنح هذا الحق وفقًا لمادته 39 الخاصة بحق تقرير المصير للأقاليم الإثيوبية بشروط محددة.

وللتذكير، فإقليم تيغراي يمثّل أحد أقاليم إثيوبيا العشرة، ويمثل سكانه نحو 6 بالمائة من مجموع سكان البلاد، الذين يتجاوز عددهم نحو 100 مليون نسمة، يتوزّعون بين نحو 80 مجموعة إثنية. وتعدّ "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" أبرز تنظيم مسلّح ظهر منذ ثمانينيات القرن المنصرم، عندما تردّت الأوضاع إبان حكم الرئيس منغستو هايلي ماريام، ذو التوجهات اليسارية، وأدّت لانتشار مجاعات ذهب ضحيتها نحو 8 ملايين من سكان البلاد. وظلّت المجموعات المسلّحة التي كانت تنتمي لقومية محدّدة تقاتل عبر عمليات صغيرة، والاستثناء الوحيد كان هو الجبهة الشعبية لتيغراي، حيث كانت أكثر تنظيماً، ولديها تحالفات خارجية أبرزها التحالف مع "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا". وفي عام 1988، عقد مؤتمر لـ "المعارضة" داخل الأراضي السودانية، ضمّ ممثلين عن أربعة عشر تنظيماً إثيوبياً مسلّحاً، وأعلنت هذه التنظيمات أنها ستقاتل موحدة لإسقاط منغستو، وأعطيت قيادة التحالف لتيغراي، لأن قواتهم كانت الأكثر تدريباً وتسليحاً وتنظيماً. واستمرّ التحالف يقاتل على مدى ثلاثة أعوام، وعندما اقترب من الإطاحة بمنغستو عام 1990، عقد مؤتمر لندن للمعارضة الإثيوبية برعاية أمريكية بريطانية من أجل تنظيم المجموعات المعارضة تحت لافتة واحدة، ليتفق المؤتمرون مجدداً على قيادة تيغراي للتحالف على الرغم من وجود قيادات تقليدية لمجموعات قبلية بين المشاركين إضافة للقوات العسكرية والسياسية. 

وبعد عدّة أشهر دخلت قوات تحالف جبهة شعوب إثيوبيا، واستولت على الحكم ونصّب تاميرات لاينه رئيساً للبلاد في 28 أيار1991، وهو من قومية التيغراي، ثم خلفه مليس زناوي في 1995، عقب إجازة دستور جمهورية إثيوبيا الفدرالية. وشغل زناوي المنصب حتى وفاته عام 2012، ما جعل التيغراي يحكمون إثيوبيا على مدى أكثر من 20 عاماً تحت راية تحالف يسيطرون على مفاصله، إضافة إلى أن مليس زناوي استطاع السيطرة على التناقضات داخل التحالف ما جعل حتى الذين يتذمّرون من سيطرة التيغراي من المجموعات الأخرى يكتمون الأمر، ولم تظهر الحالة الاحتجاجية على سيطرة التيغراي إلا بعد وفاة زناوي وانتخاب سلفه هايلي مريام ديسالين، الذي ينتمي لمجموعة تحالف شعوب جنوبي إثيوبيا.

ومن باب الإنصاف، كان استهداف رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد لـ"جبهة تحرير شعب تيغراي" مطروحاً منذ توليه السلطة قبل أكثر من عامين في الإدارات الإقليمية التسع في أثيوبيا، وعندما أصبح آبي أحمد رئيساً للوزراء في نيسان 2018، وهو أول رئيس حكومة من عرقية أورومو، الأكبر في البلاد. وباستلامه فقد التيغراي مناصب وزارية وبعض المناصب العسكرية العليا. والجدير بالذكر، أنّ "جبهة تحرير شعب تيغراي"، كانت تتمتع بنفوذ كبير في الحكم، فقام آبي أحمد بتهميش دورها وقمع سكان الإقليم وممارسة التمييز ضدهم، و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" تتكون من عدة أحزاب إقليمية ذات طبيعة عرقية، والإقليم قريب من الحدود السودانية والأريترية، وتمتلك الجبهة خبرة كبيرة في القتال نتيجة مشاركاتها في الحرب الحدودية التي استمرت سنوات بين إثيوبيا وجارتها أريتريا، وتسيطر الجبهة على القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي الذي يتكون من أربع جبهات، وتقدر المليشيات المحلية في إقليم تيغراي بنحو 250 ألف جندي، وهو ما يشكل خطراً على انقسام الجيش الإثيوبي الذي يتشكل على أسس عرقية. 

أما الأسباب القريبة للصدام المثير للقلق في إثيوبيا بين الحكومة الفدرالية والحزب الحاكم في منطقة تيغراي الشمالية، حسب مصادر أثيوبية، فتعود لاشتباه أهل تيغراي في أن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، هو شخصية حصان طروادة هدفه إضعاف الاستقلال السياسي والاقتصادي لأثيوبيا من أجل إعادة تنظيم الدولة المهمة استراتيجياً بعيداً عن الشراكة مع الصين، لتكون منفتحة على رأس المال الغربي، ومن المفارقات أنه يتهم معارضة التيغراي بالخيانة. هذه هي الخلفية الجيوسياسية لاندلاع الحرب في أثيوبيا، حيث تهدف واشنطن فصل أثيوبيا عن خطط الصين للتنمية الاقتصادية العالمية، المعروفة باسم "طريق الحرير الجديد"، لذلك إن ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان تنغمس في حرب كارثية تهدد بابتلاع القرن الأفريقي.

خلاصة الكلام: إنّ الوضع بمنطقة تيغراي مأساوي، حيث يوجد الآن مئات الآلاف من الأشخاص شمالي إثيوبيا في ظروف مجاعة... هذه أسوأ مشكلة مجاعة شهدها العالم منذ عقد من الزمان، منذ أن فقد ربع مليون صومالي حياتهم في المجاعة هناك عام 2011. ويمكن القول أنه حتى وقت قريب، كان يُنظر إلى إثيوبيا، الحليف العسكري الموثوق به لدى الغرب، على أنها المحور الاستراتيجي للقرن الأفريقي، لكن مع استمرار الصراع، ثمة شعور متزايد بالقلق من أن إثيوبيا أصبحت مصدرا لعدم الاستقرار في منطقة تمثل بحد ذاتها مركبا أمنيا بالغ التعقيد والتشابك، مما قد ينذر بممارسة المزيد من الضغوط الأمريكية والدولية على حكومة أديس أبابا لوضع حدّ لتلك الأزمات والدفع نحو تسويتها، أو ربما تشهد إثيوبيا انقلابًا ناعما للسلطة خلال الفترة المقبلة وربما خشنًا، وذلك في محاولة للحفاظ على الدولة الإثيوبية من التفكك والانهيار الذي يُشكِّل تهديدا صريحا للمصالح الدولية الاستراتيجيَّة في القرن الإفريقي، على اعتبار أن أديس أبابا بمثابة ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي في المنطقة.


*كاتب صحفي من المغرب.