لقد مضى العام 2021 والحياة الوطنية في ليبيا لا تزال تشهد معارك وصراعات... ورؤى الوجود الكريم بالسيادة والاستقلال والإرادة الكاملة... لم تكن مطمئنة نهاية العام 2021 مثلها مثل العام الذي سبقه، وحين يرى المتابع رؤوس الأفاعي ترتفع وتنفث سمومها، ويرى إلى الأحقاد تموء بها وجوه بكل ما هو معتق من عداوة وكراهية تفوقان كل وصف، ويستمع إلى افتراء مفترين من كل لون دربوا على الكذب، يجولون في ميادين التصور المستقبلي بخيال متورم وضمير معطوب وعقل غارق في التطرف والتشنج والشوفينية والفتنة والرغبة في التشفي من الليبيين... يشعر هذا المتابع للشأن الليبي، بمدى الخطر الذي يهون معه شأن الأخطار القائم على هوله وشدته. واذا كانت مفردات العام الماضي تشكل مجتمعة جملة مفيدة في دفتر حل الأزمة في ليبيا، فإن طول الطريق، الذي يحاول أعداء ليبيا أخذها من خلاله إلى المجهول، يجعل من العام 2022 ميدان امتحان لمصداقية من يحاول إظهار الحرص على إيجاد حل في ليبيا، ومحاربة الإرهاب. كثيرة هي الاتفاقيات والمؤتمرات والاجتماعات التي أكدت على ضرورة إنهاء الأزمة الليبية، ولا نبالغ أو نحاول رسم صورة سوداوية إن قلنا بأن الحل لا يخط بالكلام، فتجارب الشعب الليبي مع وعود وعهود المجموعات الإرهابية وداعميها تؤكد أن الاعتداد بكلمتهم أمر فيه الكثير من المخاطرة، ومبررنا فيما نقول تنوع أهداف ومخططات تلك المجموعات وداعميها، وتضاربها مع مصلحة الشعب الليبي.‏

الثابت لدينا اليوم، أنّ العام الذي ودعه الشعب الليبي، غير آسف عليه، حيث يواجه إرادات عالمية متنافرة، منها ما يستهدف البقاء الجيوتاريخي لليبيا، ومنها ما يرفض هذا الاستهداف. والعالميةُ التي طبعت المسألة الليبية منذ بدايتها تشعرنا بأن الغاية ليس أن تنتقل ليبيا إلى دولة التعددية والتداولية، والديمقراطية، بل الغاية أن تدخل المجهول والأنفاق المظلمة التي لا يمكن معها أن تتلمس خيوط النور والمخرج والوصول إلى ساحة الحرية والاستقرار والأمان. نعم لو كان الهدف الواضح هو إدخال ليبيا في جوٍّ أفضل لحياة الشعب الليبي وتقدمه، وازدهار مستواه المعيشي، وإشاعة القيم الروحية والإنسانية حتى تتعاضد المكونات الوطنية أكثر فأكثر، وحتى تظهر في مشارف ليبيا شوامخ التطور والتقدم العلمي والتقني، والعمراني، والتنموي لكان في الصورة مذهبٌ نتطلع إليه، ولكن ما ظهر هو تعقيد شبكة الأزمة الليبية، والشروع بتدمير أوابد التاريخ ومنجزات العقل الليبي، ومن ثم فك أواصر العَقْدِ الاجتماعي، وعرى التعاقد الثقافي التاريخي بين مواطني الوطن الواحد لكي يتمَّ لمن خطط من خلف الحدود التدميرُ الكامل لعناصر القوة الليبية، ولرموز القوى السابقة التي أمسكت بزمام المراحل الماضية وأبقت الشعب الليبي في دائرة العمل الجماهيري، وفي ثقافة العزة...

إن الحصاد السياسي للعام الذي مضى يسجل لليبيين أنهم صمدوا وأنهم صبروا وأنهم قاتلوا في ميادين الحياة وعلى جبهاتها المختلفة، من لقمة الخبز إلى الاقتصاد والمعرفة والثقافة والتاريخ والجغرافيا... في الطرقات والشوارع والأزقة... وفي بيوتهم التي كانت أيضاً هدفاً للإرهاب.‏ وليست هذه الخلّةُ غريبة على الناس الذين عاشوا على أرض عمر المختار أن يكونوا كذلك... ولذلك فلم تدخل إلى العقل الليبي أضاليل الميديا الإعلامية الدولية عن حكايا الربيع الآتي من الحلف الأمروصهيو - أوروبي ولم يغتسل العقل الليبي إلا برؤى الانتماء للأرض الليبية المعطاءة، ولم يُغسل من وسائل الإعلام المغرضة التي لا تريد التعبير عن الواقع واقعياً، ولا السماح للمواطن بأن يتحرّى الحقائق الحية التي تحركه على أرضه، ويحركها بإرادته وطنياً، وبناء عليه فقد سُدَّ الطريق أمام الجماعات التابعة لجماعة الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي، المتدثرين باسم الإسلام السمح والاعتدالي والإيماني، ويمارسون أفظع قيم الخروج عليه. ومنه فقد تمسكت الغالبية من الشعب الليبي بما بناه النظام السابق، ورصَّت صفوفها في وجه الأغيار، ومن خارج المشاريع الوطنية، ومن خارج أحلام المواطن بوطنٍ للحرية والأمان والتقدم، وصارت القلعة الليبية تصمد يوماً بعد يوم مع أنهم جيّشوا ضدها الإعلام وحاولوا تطويقها بآلاف الإرهابيين، والمجموعات المسلحة التي لم تقدّم للمواطن لحظة هدوء، أو اطمئنان بل دخلت بيته، وقتلته أمام أسرته، أو أضرمت النار في ممتلكاته، كما قطعت عليه طرق عيشه، ووسائل نعمته التي أنجزها بعرقه ودمه حين كان يبني ليبيا الاستقرار والوفرة الاقتصادية المأمولة...

وإذا كان من الصحيح أنه من الأفضل أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً، إلا أنه من المؤلم أن يكتشف بعضنا اليوم، ونحن نودع العام 2021 أن "بعض التدخلات الخارجية تأخذ طابعاً سلبياً"! فسلبية الخارج كانت واضحة من اللحظة الأولى، ومحطاتها أكثر من أن تحصى وتعد... وفصول التدخلات الخارجية السلبية لم تتوقف لحظة واحدة طوال السنوات الماضية، تمويلاً وتسليحاً وتحريضاً وتقتيلاً، عبر الشيكات المفتوحة، والفضاء الإعلامي المفتوح، في إطار مشروع منظم لتأزيم الأوضاع، والدفع بها باتجاهات عنفية متصاعدة، ليتأكد للجميع، ومنذ البداية، أن المطلوب القضاء على ليبيا وتحويلها لدولة فاشلة وتقسيمها... لذلك نستغرب أن يعتبر "البعض" أن "الجهود العربية والدولية ما زالت دون المستوى"، لأن الاتكاء على ارتفاع جهود الخارج مهما صدقت، لا يفيد كثيراً، ما لم ترتفع جهود الأوفياء في الداخل والخارج إلى مستوى ليبيا، لأن الخارج لا يبحث سوى عن مصالحه، ونكرر: مصالحه فقط وليس مصالح الليبيين. ولأن الأمر كذلك، ولأنه عام مضى نتمنى ألا يعاد على الليبيين مثله، فإن المطلوب اليوم ممن يخاف على ليبيا، بكل ما تمثله وتعنيه، أن يبادر فوراً للانتقال إلى طاولة الحوار، لأنها، أي الطاولة، ستخلق لاحقاً ديناميكيتها الخاصة بها، وتقنع، بجديتها وعمقها، من يرغب حقيقة بالحل السلمي للمساهمة فيه، كما أنها ستفرز المتطرفين والرافضين والملتزمين بالأجندات الدولية الخفية منها والمعلنة... 

وعلى الرغم من سلبية المؤشرات التي ما انفكت تتراكم في المشهد الليبي بشكل لافت، لكن يمكن ترجيح القول إن عام 2022 سيحمل بين طياته بوادر انفراج في الأزمة الليبية، وسيودع فيه أبطال المسرح التآمري منصات الأضواء ليُركنوا في الزوايا المنسية التي خرجوا منها في لحظة غفلة من التاريخ، وسيسجل غياب أصوات بُحّت ومنابر اعتلتها شراذم وأشباه ساسة ومنظرو مشاكل وحاملو رسائل خاطئة في العنوان والمضمون... ثمة من يراهن على قرب الحل في ليبيا، ونحن منهم، طبعا مع اختلاف الأسباب الداعمة لهذا الرهان أو ذاك، فإذا كان البعض يراهن على حل الأزمة الليبية عبر الإدارة الأمريكية، أو النظام التركي، أو على سقوط رأس هنا وآخر هناك، وإفلاس هذا الممول وتراجع آخر، فإن الرهان الأقوى هو رهان الشعب الليبي على أحقية قضيته، وصموده، وثبات موقفه. نأمل أن يلد العام 2022 حلا للأزمة في ليبيا، ونأمل أن يستكمل الليبيون في العام الجديد ما تأخروا فيه بعض الوقت، ويستدركون فيه ما فاتهم إلى حين، ويضعون النقاط على الحروف التي لم تستقر بعد، ويخطون الكلمات التي لم تكتب إلى الآن بعناوين، توضح من جديد أن ليبيا كانت وستبقى كما عهدها التاريخ وكما سجلتها صفحات الحضارة موطناً جديداً قادراً ومقتدراً... أميناً وآمناً.‏ 


كاتب صحافي من المغرب.