عندما نريد الكتابة عن ليبيا، قد يختلط علينا الأمر ويلبسنا ثوب الحيرة، إن لم يكن الضياع، فلا نعلم من أين نبدأ! نحن لا نقرض شعراً، ولا نسردُ أدباً عندما نتحدث عن ليبيا العربية المضيافة والمعطاءة... هل ثمة ضرورة إلى جَدَلِ حول إذا كنّا نرى ماذا يجري في ليبيا أو لا نرى؟ والرؤية هنا تنطبق على الحالتين الفيزيولوجية في العينين اللتين كرّمنا الله بهما أعظم تكريم، أو الحالة الذهنية التي جعلنا الله بها نحلّل البصري المرئي ونخلص من هذا التحليل إلى القيم العليا التي تتفق مع إنسانية المواطنين في الوطن الليبي… ولكن ماذا يفعل المرء أمام ما يكاد يترسخ، عبر الوقائع، على صورة حقائق حياة في أرض الواقع الليبي، تشير إلى أن معظم الساسة سماعون لما يطربهم، وينفخهم ما يرفعهم من كلام، ويستطيبون الكذب فتنشرح له صدورهم ويقبلون على أهله إقبالًا عظيماً، لأن الكَذَبة يقدمون لهم ما يطلبون وما يلذ لهم سماعه ومذاقه، ويرفعونهم "قادة أفذاذًا، بل رسلًا برسالات"... بينما ينعكس على الشعب منهم وممن يطبلون لهم ومما يفعلون جميعاً... علقم تُسجر به حلوق معظم الناس... وكم شوه الكذب في ليبيا من حقائق وزور من أوضاع وأضاع من ساسة؟!، وكم صنع تجار سوق الكلام في إعلام السياسة والأيديولوجيا على الخصوص من قامات سياسية ونضالية وثقافية وإبداعية... هذه في حقيقتها قامات سامقات للصوص أو لمدعين أو لنصابين مزورين، يفوقون أهل الكذب في كل زمان ومكان، نفاقًا وادعاء...؟!

ومن عاهات عصر ليبيا، أن للكذب والادعاء والخداع والإجرام نفوذا وجولات بعد جولات، وانتصارات على الأرض الافتراضية المهيمنة على الطبيعية، بعد انتصارات... ومن أسف أن السقوط سيد المعايير في زمن الكوارث، وأن كثيرين من أهل الحكم ومَن في حكمهم، يقبلون على الانتهازيين والمنافقين والوصوليين وتجار الأزمات من كل نوع، إقبالًا يبعد عن ساحة الرأي والقرار والحضور كل ليبي وطني شريف قادر كفء نظيف، وكل ليبي قادر عزيز النفس مخلص لليبيا، يخاف الله ويخدم المواطن الليبي إيمانًا منه بقيمة الإنسان... وإقبال أولئك يكون في ذروته على تجار: "القيم والدين والسلاح والحرب... وعلى من يبيعون ويشترون في الوطن والشعب، ممن يملكون القدرة على أن يلبسوا لكل حالة لبوسها، ويسوِّقوا أنفسهم في أسواق الإعلام والسياسة والثقافة، ويزينوا الشائن لأهل القرار، إذا كان فيه منفعة لهم أو خدمة لأسيادهم، وذلك بخلق معايير ليست المعايير السليمة، وحالات تزري بالمعرفة والحقيقة والقيم والعدل والحرية كل إزراء، حيث البيع والشراء على قدم وساق للضمائر والأرزاق من أشخاص شوهوا كل قيمة ومهنة شريفة وحولوها إلى تجارة يُستباح فيها كل ما لا يُباح.

وبكل أمانة، يُفجع كل شريف وحر في هذا العالم، ما يجري في ليبيا منذ أكثر من عشر سنوات، ويفجع أن يستمر التشرد والرعب والإرهاب والعذاب، ويفجع أن يستمر التوجه نحو البناء وإعادة البناء، لا سيما ما يتعلق من ذلك بالمواطن الليبي، وما يعنيه وما يقيمه وما يغنيه... بأدوات أفسدت البناء، أو أن يتنطح لتلك المهمة مدعون تاريخ معظمهم سقوط، باعوا واشتروا في ليبيا وبليبيا، وأرخصوا المواطن وتاريخه وقيمه ليصلوا إلى غايات ومناصب ومكاسب، أو إلى "ما يقولون إنه أسلوب جديد في ليبيا الجديدة... للبناء والحكم والحياة"، عبر أساليب الخداع والمكر والاحتراب والإرهاب والخراب، سواء من ذلك ما نراه في عربدة الميليشيات أنموذج طرابلس، أو ما رأيناه وتابعناه عبر معارك المدن والقرى عبر ليبيا كلها منذ أكثر من عشر سنوات؟! لا تُبنى المجتمعات تفسد كليًّا أو جزئيًّا بالأشخاص والأدوات والمناهج والأساليب والأدوات ذاتها التي كانت سببا في فسادها، أو عجزت عن إصلاح ذلك الفساد، أو حتى عن تشخيص أسبابه بموضوعية وإيجابية، ولا يُصلح السياسات الفاسدون الذين يفسدونها ولا الخونة والعملاء والإمعات الذين يبيعون ويشترون فيها، ويُباعون ويشترون من بعد بالدينار والدولار والمنصب والمكسب... ولا تُبنى المعرفة بالادعاء الفارغ والفبركة الإعلامية والحزبية والقبلية، ولا يبنيها الحرامية الذين رفعهم الإعلام قامات ثقافية، ولا تُبنى بالميليشيات الأيديولوجية التي شوهت كل شيء بما في ذلك القيم وتاريخ الثقافة والفن، ولا تقوم أسس الدولة الليبية على المدعين والقاصرين والمتطرفين والقامات التي يقيمها الادعاء والإعلام، وليس لها من قوائم وقدرات إلا ما سوَّقه لها الإعلام واللغو المتكاثر من أفعال وإنجازات لا أصول لها ولا قيمة ولا قوام. ولا يقيم صرح الثقافة التي يُراد لها أن تسهم في بناء المجتمع الليبي والقيم وحقائق الحياة على أسس العدل والقوة والاقتدار، ووفق منهج علمي مثمر وإنجاز عملي يتراكم عمليًّا... إلا تغيير المفاهيم والأحكام والأوضاع وفق معيار سليم ورؤية موضوعية ـ استشرافية تستنطق الواقع الليبي وتبني على المعطيات الصحيحة التي تنقذ من الضلال، وتقدر على تحقيق نقلة نوعية وفعلية نحو الصواب وبداية ذلك الخلاص من الادعاء والتلفيق وصولًا إلى راسخ البناء... وإن بقاء هيمنة الميليشيات السياسية والثقافية والإعلامية في ساحات وعلى ساحات ليبيا، وبقاء ما أنتجته وما كرسته ورسخته من أحكام سيئة ومسيئة هو عين الداء، والبناء عليه لن يثمر إلا المزيد من الضلال والضياع والدمار، ومن إشادة "صروح الخواء" في الفضاء الليبي.

إن خبرات الإنسان الليبي على أرض ليبيا، أعطته معاني التنوع، والتعدّد في التخصيب الوطني العام، ومعاني الداخل في فهم منظورات الخارج، ومعاني الاستقلال في فهم منظورات التبعية، ومعاني الوطنية في فهم منظورات الحرص على الوطن، والتمسك به، وعدم تعريضه للتدمير. وليس غريباً أن تعيش ليبيا أزمة صراعات منذ سنوات خلت، لكن الغريب أن يتحول العقل الليبي والسياسي إلى مأزوم، وفاقد للمخارج المناسبة في الزمن المناسب، وعليه فإن عوامل كل أزمة، ومكوناتها يجب أن تبقى أمام النظر، والناظر الوطني والسياسي، ولا بد من ذلك لأن القوى الداخلية، أو الخارجية التي صنعتها لن تتوانى عن خلط الأوراق، وتضليل العقل، وتعطيل مدارات الرؤية وصولاً إلى فهم مقصود لهذه الأزمة يساعد على تقويض البنى الوطنية، وبالنهاية تعطيل الوجود الوطني، وإخراج ليبيا من كل وجود. نعم ليست المشكلة ببروز أزمة، المشكلة أن لا نحسن إدارة هذه الأزمة بفائض من العقل والحكمة، وهذا الفائض المعني هو القادر على تفكيك عواملها القريبة والبعيدة، الداخلية والخارجية، الوطنية، وغير الوطنية. وبناء عليه فالأزمة التي تمر بها ليبيا، ومضى عليها أكثر من عشر سنوات، علمتنا الكثير، وفتحت المجال أمام البصر السياسي والمبصرون حتى يحللوا، ويركّبوا فيها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي كل عملية عقلية، منطقية موضوعية سنصل إلى حديث في المسلّمات، وحديث في المتغيرات، والممكنات المعنية، فحديث المسلّمات يقودنا إلى أن الأزمة الحالية مهما عَظُمَتْ، وتوسّع مداها العنفي، وتعمّقت أضرارها الوطنية لا تزال تحت السيطرة والحلول التوافقية، والذين لا يرغبون تأكيد هذه المسّلمة هم الذين لا يريدون العملية السياسية، والحوار، وإشراك القوى المخلصة داخلياً وخارجياً بإيجاد الحل.

والثابت اليوم في ليبيا، أنّ من يصر على أن يبني أو يتخذ مادة للبناء، في السياسة والثقافة والأفكار والأيديولوجيا... بالرؤى والآراء والنظريات والأشخاص والأدوات ذاتها التي أنتجت بناء فاسدا أو أفسدت البناء... إنما يسلك طريق البغي أو يجانب أصول العلم والعمل السليمين في أحسن الأحوال... فلا بد من اتباع سبل الحق والعدل والعلم والرشاد، والاحترام لكل ما يقيم الفرد والمجتمع الليبي على أسس سليمة: خلقية ودينية ووطنية وإنسانية، في المجتمع الذي داخله خلل كبير في العلاقات والسلوك والحكم والاحتكام، وفي التصرفات والممارسات التي وصلت حد الإرهاب والتخريب والتدمير والخيانة والعمَالة والظلم والحقد والفتن بأنواعها، وإحراق الأخضر واليابس، ولتأكيد المؤكد، ففي ليبيا ليس للشعب الليبي سوى ليبيا. ولا بد في هذه الأوضاع التي تعيشها ليبيا اليوم، ومن أجل إصلاحها، فلا بد من البناء على الصالح من الرأي والموقف والمنهج والمُنتَج... وهذا يحتاج إلى إعادة النظر بالكثير مما يُعدّ مسلمات في السياسات والممارسات والتنظيمات والمرجعيات والمعايير والنظريات والثقافات... بعيدا عن المكابرة والتشنج والتعصب، والعصموية التي يفرخ في ظلالها الجهل ويستمر في مناخها اجترار سماع ما يُستساغ سماعه فقط. ومع أن الأزمة تستدعي مسلمات إضافية فوق ما ذكرناه، لكن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة، والمهم في كل ما نراه من ظواهر هذه الأزمة، ومن ما ورائها، وخفاياها هو الدعوة لجميع الفرقاء أن احتكموا إلى فائض العقل واحتكموا إلى التحليل المنطقي والواقعية الممكنة، واحتكموا إلى أن العدو لا ينقلب إلى صديق بدون غاية، ولا يجوز أن نحوّل الصديق إلى عدو بلا دراية، وكلما رفضنا المتطرف، وأجندة الأعداء، وصلنا إلى حلول الحوار بين العقلاء، فالعقل وحده هو الذي أخرج ليبيا من حكم الاستعمار، والعقل هو الذي سيصل بالليبيين إلى أن يكونوا أحراراً في وطن ذا سيادة.

كاتب صحفي من المغرب.