يتناول الباحث، عبدالوهاب بدرخان، في تحليل نشره مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، التجربة الانتخابية في تونس، التي يرى أن نجاحها ضروري ليبرهن أن الوفاق لا يزال ممكنا بين مكوّنات أي مجتمع عربي.

يؤمَّل أن تكون تونس تخطّت العراقيل التي حالت دون عودة الاستقرار بعد الانتفاضة الشعبية أواخر 2010. ولا مبالغة في القول بأن هناك حاجة عربية ملحّة لأن ينجح “النموذج” التونسي ويبرهن على أن الوفاق لا يزال ممكنا بين مكوّنات أي مجتمع عربي بالنظر إلى الصعوبات التي لاحت هنا وهناك، من مصر إلى ليبيا واليمن، فضلا عن سوريا والعراق. وكان أبرز ما قدّمته التجربة التونسية أنها رجّحت الحوار وقبول الاحتكام إلى ما يُتفق عليه، ولكن بعد صراعات وضعت البلاد على شفير الفوضى.

يجدر التذكير بأن الانتخابات البرلمانية التي شهدتها تونس في السادس والعشرين من أكتوبر 2014، والرئاسية التي أعقبتها في الثالث والعشرين من نوفمبر، تأخرتا عمليا سنتين عما كان يُعتقد سابقا أنه ممكن. وبمقدار ما كان هذا التأخير مكلفا بانعكاسه على الأمن والاقتصاد، بمقدار ما يمكن الاعتراف الآن بأنه كان طبيعيا بمعنى أنه تطلّب الوقت الضروري للمجتمع كي يستوعب الواقع الجديد من جهة ويُجري نقاشاته لإعادة تشكيل الوسط السياسي. فالخريطة التي ارتسمت في يناير 2011 غداة سقوط النظام السابق كانت واقعية ولكن سطحية، إذ أبرزت القوى الإسلامية وغير الإسلامية المعارضة التي أقصاها ذلك النظام ومارس ضدّها القمع والاضطهاد، فتعاطف الناخبون معها في الاقتراع الأول الحر، ثم تبيّن لهم أن معاناة هؤلاء الظلم والقسوة لا تؤهلهم بالضرورة للحكم وإدارة البلاد.

نعم، كانت لحركة “النهضة” شعبية في الشريحة الإسلامية من المجتمع، لكن النتيجة التي حققتها في الاقتراع السابق لم تكن متناسبة مع حجمها الحقيقي. كذلك حصل حليفاها حزبا “التكتل” و”المؤتمر من أجل الجمهورية” على تأييد من أرادوا المراهنة على “قوى الثورة”. فكانت “الترويكا” التي تقاسمت المناصب العليا والحقائب الوزارية في الحكومتين المتعاقبتين برئاسة القياديين “النهضويين” حمادي الجبالي وعلي العريّض.

أما الانتخابات الأخيرة فغيّرت المشهد السياسي بشكل جذري، إذ تراجعت “النهضة” ليتصدّر حزب “نداء تونس” الواجهة جامعا أطيافا من حزب التجمع الدستوري (الحاكم سابقا)، ما يؤكّد أن التونسيين لم يكونوا معترضين على القيم الأساسية للنظام السابق الذي أسسه الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية، بل كانوا ناقمين على الشدّة الأمنية المبالغ فيها لدى زين العابدين بن علي وعلى الفساد الذي رعته عائلته.

لذلك باشروا باحتجاجات متواصلة ما أن استنتجوا أن الحكام الجدد بقيادة إسلاميي حركة “النهضة” يسعون إلى تغيير وجه النظام وطبيعته المدنية وتوجّهاته الليبرالية، ويتيحون عن قصد أو غير قصد فسحة من النفوذ للإسلاميين الأكثر تطرفا، ولم تهدأ تلك الاحتجاجات.

وكان يمكن لتونس أن تشهد سيناريو مشابها لما حصل في مصر لو كان للجيش التونسي الموقع المحوري نفسه في النظام، و”النهضة” أدركت أن استمرارها في الحكم أصبح خلافيا ولم يعد مقبولا، فارتأت الانسحاب المنظّم، على أن تواجه احتمال السقوط في الشارع.

على أي حال، كان للاقتراع الأخير وقع المحاسبة لحكم “الترويكا” بقيادة “النهضة”، ومن المتوقع أن يستكمل الناخبون مسارهم بانتخاب الباجي قائد السبسي، زعيم “نداء تونس”، رئيسا للجمهورية؛ إذ أن الانتخابات البرلمانية فرضت منطقها على الرئاسية، فالمرشحون المنافسون له إما سقطت أحزابهم في البرلمانية، أو أنهم لم يبرهنوا سابقا على أنهم يملكون قاعدة شعبية كالتي استطاع السبسي تحصيلها خلال العامين الأخيرين.

*نقلا عن العرب اللندنية