بعد سنوات على رأس أكبر تنظيم إرهابي في العالم، أُعلن يوم 27 أكتوبر الماضي، في مدينة إدلب شمال سوريا، عن مقتل أبي بكر البغدادي، زعيم داعش، في غارة جويّة مركّزة من قبل قوات أمريكية خاصة تلقت معلومات استخباراتية حددت موقعه. مقتل البغدادي أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كلمة له من البيت الأبيض، قائلا إن "خليفة" التنظيم فجّر نفسه بعبوة في نفق كان يختبئ فيه إلى جانب ثلاثة من أبنائه وعناصر أخرى قتلوا في العمليّة.

وأضاف الرئيس الأمريكي إن عملية متابعة البغدادي بدأت قبل أسبوعين وأن ثماني طائرات شاركت في العملية التي دامت ساعتين واستهدفت النفق الرئيسي المختبئ فيه وقد تعرّضت لإطلاق النار. كما شاركت في الملاحقة كلاب مدرّبة لاحقت زعيم التنظيم إلى أنْ فجّر نفسه بسترته النّاسفة. وشكر ترامب كلّا من روسيا وتركيا وسوريا والعراق لمساعدتها في عملية قتل البغدادي.

مقتل البغدادي الذي يعتبر أخطر الجهاديين في العشريّة الأخيرة، فتح التساؤلات حول مصير القيادة داخل التنظيم، وحول مصير التنظيم نفسه باعتباره مثّل منذ سنوات "الربيع العربي" واجهة المشروع الجهادي في العالم. مسألة الخلافة وديمومة داعش تعتبر مشغل كل تفريعاته في العالم، على اعتبار أن بقاء زعيمه حيا هو نوع من "التحدّي" المعنوي في علاقة بتماسكه والحفاظ على وحدته.

ليبيا التي تعاني منذ أكثر من ثماني سنوات من فوضى سياسية وأمنيّة كانت أحدى أهم فروع داعش منذ نوفمبر 2014، عندما أعلن البغدادي في تسجيل صوتي قبوله لمبايعات الولاء وتسمية "ولايات" تابعة له في درنة شرق البلاد وفزان في جنوبها وطرابلس في غربها. وقبلها أعلنت مصادر مختلفة أن عناصر جهادية من قيادات الصف الأول، كانت تحارب في سوريا والعراق، تنقّلت إلى ليبيا للمشاركة في تركيز التنظيم والحصول على مبايعات الفصائل الموجودة هناك.

خلال الأشهر اللاحقة سيطر داعش على مناطق عدّة في ليبيا من بينها سرت ذات الرمزيّة الخاصة في الصراع الدائر باعتبارها المدينة التي ينحدر منها العقيد الراحل معمّر القذافي، والسيطرة عليها هي "نصر" معنوي لجماعات معروفة بعدائها للزعيم الليبي الذي بقي خلال فترة حكمه معاديا لمشروعها. لكن رغم استهداف داعش لسرت وإقامة مركز خلافته فيها أراد التاريخ أن تكون هي المدينة التي يتحطّم فيها حلم خلافته، على الأقل في مستوى فرعه المعلن، حيث تكبّد فيها خسائر كبيرة بمقتل المئات من عناصره وهروب من بقي منها حيا إلى مناطق أخرى وتحوّل التنظيم إلى مجرّد جيوب متخفيّة في جنوب البلاد.

في ليبيا مثلما في غيرها من المناطق، لمقتل البغدادي أهمية كبرى. المرجّح أن أغلب التنظيمات تتأثر بمقتل زعمائها. تكفي نظرة سريعة على تنظيم القاعدة بعد مقتل أسامة بن لادن. مهما حاول أيمن الظواهري بعد ذلك ملء موقع سلفه لكنه فشل في ذلك، وحتى في مستوى المكانة لدى العناصر الجهاديّة واضح أن التنظيم فقط قيمته، والدليل إسراعه إلى تغيير تسمية فروعه في المناطق التي يقاتل فيها سواء في ليبيا أو في سوريا. نفس الأمر في داعش، التنظيم بطبيعته يعيش حالة اختناق كبيرة، حتى قوى الدعم الإقليمية التي كانت تدعمه أو على الأقل تغض النظر عنه تخلّت عنه، بل إن تركيا إحدى أهم تلك القوى، كانت مساهمة حسب تصريحات الإدارة الأمريكيّة في ملاحقة البغدادي وقتله.

 في المقابل ترى أطراف أخرى أن مقتل البغدادي هو إضعاف لداعش في سوريا، لكنه قد يكون سببا في تقويته في مناطق أخرى من بينها ليبيا. ففي تقرير مطوّل لموقع "بي بي سي" عربي حول السيناريوهات الممكنة بعد مقتل البغدادي تم الاستناد إلى أراء عسكريين في وزارة الدفاع الأمريكية، الذين تنبأوا "ببعث جديد للتنظيم خلال 6-12 شهرا إذا لم يتواصل الضغط عليه ومطاردة أفراده، إذ مازال الآلاف من مقاتليه على قيد الحياة، وليسوا جميعا في السجون، وقد أقسموا على مواصلة القتال من خلال ما وصفوه بـ "حرب استنزاف"، آملين بذلك أن يدحروا أعداءهم من خلال سلسلة من الهجمات التي يخططوا لها في الخفاء". وما العمليات التي وقعت جنوب ليبيا منذ مايو 2019 إلا جزءا من تلك الحرب.

موقع "العين" الإخباري بدوره عاد إلى مستقبل التنظيم الإرهابي في ليبيا بعد مقتل البغدادي، حيث قال الباحث في شؤون الحركات الإسلامية والإرهاب عمرو فاروق في تصريحات للموقع، إن داعش سيعتمد على ما سمّاها "قيادة مسردبة" "ضعيفة تحيطها فروع وولايات أقوى بكثير من القيادات المحيطة." وأضاف أن "ليبيا ستكون المحطة القادمة لزيادة تمركز عناصر داعش."

وقد فسّر تحليله من خلال استعادة التنظيم الإرهابي لتحركاته جنوب البلاد منتصف العام الجاري وقيامه بعدد من العمليات التي استهدفت جنودا ليبيين، بالإضافة إلى ظهور بعض الفيديوات المصورة عن إعلان عشرات الملثمين مبايعتهم للبغدادي وتنظيمه الإرهابي، رغم أن كل تلك العمليّات كانت تتم على فترات متعاقبة وفي مناطق متباعدة الأمر الذي يفسّر على أنها ردود أفعال متشنجة أكثر منها عمليات منظمة ومنسّقة داخل أطر موحدة للفرع الليبي.

الفاروق أشار أيضا إلى أن تنظيم داعش الإرهابي لا يزال يمتلك ما لا يقل عن 100 ألف عنصر مسلح يدينون بالولاء للتنظيم، بخلاف الخلايا النائمة في مناطق متفرقة، لكن هذا العدد قد يكون مبالغا فيه بشكل كبير لأنه من غير المنطقي الحديث عن ضعف تنظيم مسلح وهو يمتلك مثل هذا العدد من المقاتلين.

الضربة النفسيّة القويّة للتنظيم بعد وفاة البغدادي ستكون مؤثرة بالتأكيد، وتداعياتها المستقبلية قد لا تعطي للتنظيم أي أمل في الاستمرار خارج العمليات المتفرّقة والمباغتة، إلا أن بقاءه في ليبيا من عدمه، يتحدد من المسارات المتوقعة في العملية السياسية في البلاد، باعتبار أن الوصول إلى اتفاق بين الفرقاء، يمنع أي إمكانية لداعش من ترتيب صفوفه من جديد، خاصة أن المؤسسة العسكرية بدأت منذ 2014، خيارا حاسما في محاربة الإرهاب وقد نجحت إلى حد كبير في ضمان الاستقرار في العديد من المناطق أساسا شرق البلاد. لكن أي مسار آخر للأوضاع قد يمنح الفرصة لداعش ولغيره من التحرّك مجددا في ليبيا باعتبارها مازالت بيئة مغرية لتنفيذ بعض العمليات.

مصير تنظيم داعش في ليبيا بعد مقتل قائده أبي بكر البغدادي هو مصير المنطقة بأكملها. فخلال السنوات الماضية كانت البلاد فضاء خطيرا حتى على دول الجوار باعتبار أن الفوضى الأمنية التي عاشتها تركت المجال مفتوحا أمام عناصر التنظيم لتنفيذ عمليات راح ضحيتها العشرات من الأبرياء، بل من خلال ليبيا خطط التنظيم للدخول إلى تونس عبر مدينة بنقردان وإعلان خلافته فيها لكن المحاولة أُفشلت في مهدها، وأفشلت مشروعا كاملا كان يستهدف المنطقة.