على عجل اجتمعت القوى الدولية والإقليمية في مدينة برلين لبحث مصير ليبيا، بعيداً عن الشعب الليبي، وفي الحد الأدنى دون حضور طرفي النزاع. وانتهى المؤتمر، الذي لم تتجاوز مدته السويعات القليلة، ببيان أقرب إلى إعلان النوايا منه إلى قرارات، يمكن أن تؤتي أكلها في القادم من الأيام. المؤتمر، الذي علق عليه العالم أمالاً عريضة بإيجاد تفاهمات صلبة تطفئي فتيل الحرب في محيط العاصمة طرابلس، بدا نسخة رديئة من مؤتمر الصخيرات، الذي وإن فشل، إلا أنه خرج حينذاك باتفاق سياسي واضح، بل التقى فيه الطرفان وجهاً لوجه وتصافحا، عندما كان هناك بقية من ودّ ونقاط مشتركة يمكن البناء عليها لجمع الفرقاء، أما اليوم فالهوة أصحبت عميقة جداً، ولا يبدو أن تجسيرها ممكن في المدى القريب.

وجاءت مقررات المؤتمر، نسخة مطابقة للأصل لما ورد في اتفاق الصخيرات، غير أنها اتسمت بالإطلاق وغياب السقف الزمني، في ظل أزمة ليبية خانقة لم تعد تحتمل الإطلاق ولا الأوقات الضائعة. حيث طالب المشاركون بـ "تجنب التدخل في النزاع المسلح في ليبيا أو في شؤونها الداخلية وحث كل الأطراف الدولية (...) على القيام بالمثل". والطريف أن هؤلاء المشاركين اجتمعوا وبحثوا مصائر ليبيا والليبيين دون أي مشاركة ليبية. وفي نقطة ثانية التزم المشاركون بـ "احترام حظر الأسلحة (المفروض في 2011) وتنفيذه تنفيذا تاما"، وفيما كانوا يصغون هذه النقطة كانت الطائرات الليبية بصدد نقل، لا السلاح فقط من تركيا، بل المئات من المقاتلين السوريين الموالين لتركيا، في إطار مشروع أردوغان لاحتلال ليبيا بذريعة دعم حكومة الوفاق. وأردف البيان الختامي: "ندعو كل الأطراف إلى الامتناع عن كل عمل من شأنه أن يفاقم النزاع (...) بما في ذلك تمويل القدرات العسكرية أو تجنيد مرتزقة" لصالح مختلف الأطراف في ليبيا.ودعا المشاركون إلى تطبيق عقوبات مجلس الأمن الدولي بحق أولئك الذي "ينتهكون بدءا من اليوم" الحظر.

لكن النقطة اللافت في البيان، والتي بدت وكأنها مأخوذة بالحرف والفاصلة من اتفاق الصخيرات هي مسألة نزع سلاح الميليشيات، فقد نص البيان على نزع سلاح الجماعات المسلحة والميليشيات في ليبيا وتفكيكها، على أن يُتبع ذلك بدمج عناصرها في المؤسسات المدنية، الأمنية والعسكرية. ودعيت الأمم المتحدة إلى دعم هذا المسار. والطريف أن القوى السياسية والميليشيوية المسيطرة على المنطقة الغربية قد التزمت منذ العام 2015، بذلك، لكنها لم تحقق منه شئياً. بل على العكس تماماً فقد تعاظم نفوذ الميليشيات منذ ذلك التاريخ وأصبحت تحكم سيطرتها على جميع نواي الحياة في العاصمة طرابلس، وشكلت شبكات اقتصادية مافيوزية، واخترقت مصالح الدولة الإدارية بشكل غير مسبوق.

ولنفترض تجاوزاً أن حكومة السراج ستلتزم بهذه الدعوة وستذهب في اتجاه تفكيك المجموعات المسلحة، وستقوم بخطوات جدية نحو إعادة إدماج أفرادها في الحياة المدنية أو استيعاب بعضهم في المؤسسات الأمنية والعسكرية للدولة، لكن السؤال الملح الذي يبقى قائماً، هل ستنجح في ذلك، بل هل تستطيع أصلاً أن تقوم حتى بخطوة بسيطة في هذا الاتجاه؟  سيكون الجواب قطعاً سلبياً، لأن سيطرة هذه الميليشيات على العاصمة ومدن المنطقة الغربية أصبح قوة أمر واقع، لا يمكن بأي حال تفكيكها من خلال المراسيم والقرارات التي يصدرها فايز السراج من مكتبه، الذي يحرسه عدد ن أفراد هذه الميليشيات. فحكومة الوفاق اليوم أصبحت رهينة لدى هؤلاء، وفاقدة تماماً لسلطة اتخاذ القرار. والأمر ليس ببعيد، فقد شاهد العالم كيف تم اقتحام بيت رئيس الوزراء السابق علي زيدان وجره بملابس النوم من طرف إحدى الميليشيات المتنفذة بسبب قرارات اتخذها الرجل، ظنا منه أنه يمارس صلاحياته القانونية، ليكتشف لاحقاً أن السلطة الحقيقية ليست في يده، بقوة القانون، بل في يد أصحاب البنادق السائبة.

لكن اللافت في مؤتمر برلين، هو المخاوف الأوروبية. فالمؤتمر بدا سعي أوروبي إلى جمع كل الأطراف الفاعلة في المشهد الليبي، وشرح مخاوف أصبحت تتحول إلى مخاطر حقيقية. مداخلة الرئيس ماكرون، والتي كانت موجهة أساساً إلى الجانب التركي للتحذير من عمليات نقل المرتزقة إلى الساحة الليبية، عبرت في جنب منها على المخاوف الأوروبية من تركز المقاتلين الأجانب في ليبيا، غير بعيد عن السواحل الأوروبية الجنوبية، وما يشكله ذلك من مخاطر أمنية. ويأتي ذلك بعد التهديدات التي أطلقها أردوغان نفسه في مقالة نشرها في مجلة "بوليتيكو" السبت الماضي، أي يوماً واحد قبل المؤتمر، من أن المنظمات "الإرهابية" ستجد موطئ قدم لها في أوروبا إذا سقطت حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة. وكتب أردوغان أن "أوروبا ستواجه مجموعة جديدة من المشاكل والتهديدات إذا سقطت الحكومة الليبية الشرعية. ستجد منظمات إرهابية على غرار تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، اللذان تعرّضا لهزائم عسكرية في سوريا والعراق، أرضًا خصبة للوقوف مجدداً على قدميهما". ويبدو أن الأوربيون متخوفون من أن يعيد أردوغان السيناريو نفسه الذي قام به في سوريا، من رعاية الجماعات الإرهابية واستعملها كورقة في "ديبلوماسيته الإبتزازية". في ظل توارد التقارير، عن إمكانية انتعاش تنظيم داعش في أعقاب التدخل التركي في ليبيا. وقال بول سيلفا، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية إن إدارة الرئيس دونالد ترامب بدأت ملاحظة طفرة “صغيرة” في أعداد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا منذ بدأ الجيش الوطني، المعركة في العاصمة طرابلس قبل أكثر من شهرين. ونقل موقع المونيتور عن سيلفا قوله إن المعركة المتوقفة حاليا من أجل استعادة طرابلس تعطي مساحة للتنفس للإسلاميين وعودة تنظيم الدولة الإسلامية إلى البلاد.

أما الخطر الثاني الذي تخشاه أوروبا، هو إمكانية تدفق موجات من اللاجئين من السواحل الليبية نحو سواحلها الجنوبية، فانهيار الأوضاع تماماً في المنطقة الغربية سيؤدي، وفقاً للتقديرات الأوروبية، إلى خروج الألاف من الراغبين في الهجرة من مراكز احتجاز المهاجرين، المنتشرة على نطاق واسع في طرابلس والزاوية، والذين لن يتوانوا أبداً في محاولة الإبحار نحو أوروبا، كما توجد تخوفات أوروبية حقيقية من أن يتحول المرتزقة السوريون، الذين بدأ أردوغان في شحنهم نحو ليبيا، والذين بلغ عددهم وفقاً لتقديرات صحافية نحو الثلاثة ألاف مقاتل، أن يتحولوا إلى مشاريع مهاجرين هم أيضاً وباحثين عن مواطن لجوء في الدول الأوروبية.

قصارى القول، لا يبدو أن مصير مقررات مؤتمر برلين سيكون أفضل من مصير اتفاق الصخيرات، الذي انهار باكراً. فالصرع الدولي حول ليبيا منذ 2011، لم يترك مجالاً لأي حل سلمي، وأصبحت مسألة الحسم العسكري السريع، الحل الأقل كلفة في الوقت الراهن، بعد أكثر من تسع سنوات من الفوضى وغياب الدولة. والمؤسف أن الدول نفسها التي اجتمعت في 2011 لإقرار الحرب على ليبيا ورفضت كل محاولات حلّ الأزمة سلمياً، يحاول جزء منها اليوم مد حبل النجاة للميليشيات، وفرض تفاهمات، تعلم هي قبل غيرها أنها لن تجدي نفعاً.