ذكر موقع صحيفة تاجس تسايتونج الألمانية أن تدخل فرنسا في جمهورية أفريقيا الوسطى في الـخامس من ديسمبرالماضى وضع الجيش الفرنسي في موقف حرج وفرض عليه الاختيار بين خيارين أحلاهما مر. وقالت الصحيفة أن ما تشهده أفريقيا الوسطي من تدخل فرنسي فاشل هو أمر غير مألوف. وأن تدخل الجيش الفرنسي لنزع أسلحة المليشيات كان من المفترض أن يكون قصيرا وبدون خسائر. لكن العملية العسكرية الفرنسية امتدت لأسابيع و بدلاً من تهدئة الوضع في البلاد في العاصمة بانجي أدي نشر 1600 جندي من القوات الفرنسية إلي تفاقم الأزمة وشيوع الفوضى أكثر في البلاد. ولعل سبب تفاقم الأزمة بعد التدخل الفرنسي يرجع إلى أن فرنسا يُنظَر إليها كقوة استعمارية جديدة في هذا البلد فبمجرد أن أرسلت فرنسا قواتها وبعد قيام الرئيس الفرنسي هولاند بزيارة خاطفة إلى بانجي ظن الجميع أن فرنسا ستعزل الرئيس ديوتوديا زعيم تحالف "السليكيا " دون إراقة دماء.

ولكن في الحقيقة أن القوات الفرنسية لم تفعل شيء من هذا القبيل .. بل قامت بعملية نزع أسلحة لمقاتلي "السليكيا" ولم يحدث أي نوع من التفاوض السياسي معها أو وضع حد لمليشيات المعارضة التي لا تقل وحشية في تصرفاتها وأيضا تم إضعاف حكومة ديوتوديا عسكريا بينما لا يوجد أي دعم سياسي لأي طرف. فقد دأبت فرنسا على التدخل في أفريقيا منذ ستينيات القرن الماضي في غمرة جدل ومزاعم بأنها ما زالت ترى نفسها شرطي أفريقيا، وأحياناً بسبب إحساسها بالواجب الإنساني أو ببساطة لأنها القوة المستعدة والقادرة على التحرك على الأرض. يبدو أن هذا هو الحال في أفريقيا الوسطى، حيث نشرت فرنسا 1600 جندي في وقت مبكر من شهر ديسمبر الماضى بموجب تفويض من الأمم المتحدة للمساعدة في إنهاء صراع اندلع بعد أن أطاح متمردون بالرئيس في انقلاب في مارس, وتدهورت الأمور سريعاً ليدخل ذلك البلد الأفريقي في عنف طائفي بين الغالبية المسيحية والمسلمين، وقتل نحو 600 شخص في أقل من أسبوعين.

ومع استمرار الجنود الفرنسيين في أداء عملهم الصعب في نزع سلاح الميلشيات بعد مقتل جنديين فرنسيين، يضغط الرئيس فرانسوا هولاند على شركائه في الاتحاد الأوروبي ليقدموا مساعدات تتجاوز الدعم والمعونات الإنسانية التي تم تقديمها بالفعل, حيث قال وزير الخارجية لوران فابيوس في البرلمان الفرنسي "من المتوقع أن قوات أوروبية أخرى لم يحددها ستصل قريباً إلى أفريقيا الوسطى". بينما قال بول ميلي, الخبير في شؤون سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه أفريقيا "إن طلب فرنسا المزيد من المساعدات في هذه المهمة الأفريقية التي تدخلت فيها وحدها كما فعلت في وقت سابق من العام الجاري في مالي، هو جزء من مسعاها لإضفاء الطابع الأوروبي على سياستها في أفريقيا التي بدأتها قبل 15 عاماً". كما أضاف ميلي "أن فرنسا تدخلت عسكريًا في القارة 19 مرة بين عامي 1962 و1995, ولكن في هذه العقود قامت بهذا تحت شعار ما سمي بسياسة "فرانس-آفريك"، وهو مصطلح يصف علاقات متشابكة غامضة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية، تؤطر المصالح الفرنسية في القارة". بيد أن هذه العلاقات بدأت تتطور بشكل واضح في التسعينيات مع تغير المشاعر الدولية عن التدخل الفرنسي في أفريقيا، وكذلك تغيرت المشاعر في فرنسا نفسها وفي العالم الخارجي, حيث كانت حرب الإبادة الجماعية في رواندا نقطة تحول أيضاً تركت ندوباً في فرنسا بعد اتهام القوات الفرنسية بالفشل في منع المجزرة أو منع تفاقمها.

حتى الآن, ما زالت فرنسا تلعب دورًا دوليًا بارزا, ولها 8500 جندي في الخارج، غالبيتهم في أنحاء أفريقيا، بحسب أحدث البيانات لوزارة الدفاع الفرنسية, حيث تدخلت فرنسا أربع مرات في القارة منذ عام 2011، في ساحل العاج وليبيا تحت قيادة الرئيس اليميني السابق نيكولاي ساركوزي، وهذا العام في ظل الحكومة الاشتراكية مع أولاند في مالي أولاً، والآن في أفريقيا الوسطى أيضاً. كما يقبل الجمهور الفرنسي هذه المهام برغم تقلص الدعم للتدخل في أفريقيا الوسطى،

بحسب ما أشار إليه استطلاع للرأي أجري بعد يومين من مقتل جنود هناك, حيث أشار الاستطلاع إلى أن التأييد للمهمة الفرنسية انخفض إلى 44 في المئة نزولاً من نسبة 51 في المئة في بداية الحملة، وهو ما يعكس بُعد المسافة بين البلد الأفريقي وأوروبا، وأيضًا خيبة الأمل لدى الجمهور فيما قالته الحكومة من أن المهمة ستكون سريعة وسهلة. في مناقشة لمهمة أفريقيا الوسطى في إذاعة راديو فرنسا, قال وزير الخارجية فابيوس، إنها "مشكلة كبيرة أن تكون فرنسا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي له وجود عسكري قادر على التدخل في أفريقيا عند نشوب صراعات", كما نشرت وزارة الدفاع الكتاب الأبيض الذي جادل بأن أفريقيا يجب أن تكون موضع اهتمام محوري للاتحاد الأوروبي.

وتأتي هذه الدعوة لتقاسم الأعباء في الوقت الذي تقلص فيه وزارة الدفاع إنفاقها, حيث اعتبرت لوبيف أن فرنسا "لديها موارد محدودة ولكنها ما زالت قادرة على استخدامها اليوم حتى إذا لم يدعم الاتحاد الأوروبي مهمتها, حيث أن مساعدة جنود أوروبيين آخرين في أفريقيا الوسطى سترسي سابقة لتعاون دفاعي أعمق للاتحاد الأوروبي، ولكن عدداً من الحقائق يقيد احتمالات مثل هذا التكامل. كما أن التنسيق العسكري بصرف النظر عن موقع الصراع يعتبر أمرًا صعبًا, رغم التعاون الاقتصادي، ومن الصعب تخلي بعض البلدان عن سيطرتها في القضايا الدفاعية لصالح التكتل الأوروبي, على سبيل المثال ألمانيا هي أحد اللاعبين الحذرين في السياسة الخارجية منذ الحرب العالمية الثانية، وتتلكأ في إرسال قوات إلى مناطق الصراعات، تحت أي سبب كان.

الدور الفرنسي الحاضر في إفريقيا:

حاولت فرنسا منذ بداية التسعينيات القرن الماضي رسم إستراتيجية جديدة في القارة الإفريقية تتواءم مع المعطيات المستجدة، والأحداث والتطورات في فرنسا، وفي إفريقيا، والتغيرات التي لحقت بالنظام الدولي مع نهاية الحرب الباردة، والتي نتج عنها انفراد الولايات المتحدة بوضعية القوة العظمى والقطب الأوحد في ظل النظام العالمي الجديد, وما يتبع ذلك من تمدد للنفوذ الأمريكي في القارة الإفريقية وتأثيراته في مكانة فرنسا التقليدية في هذه القارة، ويُضاف إلى العامل الأمريكي تمدد اليابان والصين في إفريقيا. وفي مواجهة هذه المستجدات؛ حاولت فرنسا أن تعتمد إستراتيجية جديدة لضمان تحقيق مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية والسياسية في إفريقيا. تتمثل المصالح الاقتصادية الفرنسية في القارة الإفريقية؛ في البحث عن أسواق لتصريف السلع الفرنسية المصنَّعة، وعن موارد أولية لتنمية الصناعات الفرنسية المدنية. أما المصالح الإستراتيجية؛ فتتمثل في الوصول إلى الموارد الطبيعية الإستراتيجية التي تملكها القارة لتنمية الصناعات الثقيلة الفرنسية، والسيطرة على المواقع الإستراتيجية في بعض الدول الإفريقية. وهناك أيضاً المصالح السياسية والدبلوماسية، والمتمثلة في الحفاظ على استقرار الأنظمة الإفريقية، والاستفادة من العلاقات القوية بين فرنسا والدول الإفريقية في ضمان المساندة الدبلوماسية الإفريقية لفرنسا في منظمة الأمم المتحدة؛ بما يسمح لها بالاحتفاظ بمكانتها بصفتها دولة كبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن.

آليات تنفيذ السياسة الفرنسية في إفريقيا:

أما عن آليات تنفيذ السياسة الفرنسية في إفريقيا؛ فتشمل ثلاث آليات أساسية: عسكرية، واقتصادية، وثقافية. الآلية العسكرية: لقد تمثلت السياسة العسكرية في القواعد العسكرية الفرنسية في إفريقيا, والتي تقلّصت من 100 قاعدة في عام 1960م إلى خمس قواعد فقط الآن, وذلك بسبب ارتفاع التكلفة والتطور التكنولوجي في الوسائل العسكرية( 1). وفي ظل النظام العالمي الجديد اضطرت فرنسا لتطوير سياستها في التعاون العسكري مع إفريقيا، فاعتمدت خطة حديثة تقوم على فكرة إنشاء قوة للتدخل السريع، ويتم توزيع الأدوار على القواعد العسكرية حسب خطورة الأزمة الإفريقية. ومن أمثلة التدخل الفرنسي العسكري في القارة الإفريقية «عملية تركوازOperation Turquoise»(2 ) في رواندا على إثر الإبادة العرقية للتوتسي, ويدخل في إطار الآليات العسكرية أيضاً اتفاقات الدفاع العسكري والتعاون الفني. وقد تمّت عملية مراجعة شاملة للسياسة العسكرية الفرنسية في إفريقيا مؤخراً نتيجة الإخفاقات المتتالية التي أصابتها في رواندا والكونغو، بالإضافة إلى تغيّر الظروف الدولية, ولهذا أصبحت فرنسا تركّز في دعم المؤسسات الأمنية الإقليمية؛ من خلال تدريب الجنود الأفارقة على عمليات حفظ السلام ومواجهة الكوارث الناتجة عن الحروب السياسة الاقتصادية:

أما السياسة الاقتصادية لفرنسا في إفريقيا؛ فقد اعتمدت على تنمية التجارة البينية مع غالبية دول وسط القارة وغربها، وزيادة حجم الاستثمارات الفرنسية في إفريقيا, وقد رحّبت فرنسا بالمنظمات الإقليمية التي تشكّلت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وضمّت دول غرب إفريقيا ووسطها، وأهم هذه المنظمات: الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، والاتحاد الجمركي لدول إفريقيا الوسطى. كذلك أنشأت فرنسا شبكة مواصلات كثيفة بينها وبين إفريقيا بهدف تدعيم علاقاتها الاقتصادية والتجارية معها، وتُعَد هذه الشبكة كبنية تحتية للسياسة الفرنسية في إفريقيا. السياسة الثقافية: تُعَد السياسة الثقافية لفرنسا في القارة الإفريقية المجال الذي تنفرد فيه فرنسا وتتميز به عن باقي الدول الغربية، بسبب خبرتها الواسعة والتاريخية في هذا المجال، فهي إلى جانب تمسّكها بمناطق نفوذها التقليدية تحاول أن تهيمن ثقافياً على الدول الأنجلوفونية، كما تفردت جذور السياسة الثقافية الفرنسية في العهد الاستعماري متمثلة في سياسة الاستيعاب والفرنسة لمواطني المستعمرات، ونتج عن ذلك أثر ممتد في علاقات فرنسا بمستعمراتها بعد استقلال الأخيرة حتى اليوم. وتعتمد فرنسا في علاقاتها الثقافية بالدول الإفريقية على عدة عناصر، أهمها اللغة المشتركة، والمؤسسات التعليمية الفرنسية، والمراكز الثقافية في إفريقيا، بالإضافة إلى القمم الفرانكوفونية التي تنعقد كل عامين في باريس أو في إحدى العواصم الإفريقية  وللخروج بحل للأزمة الفرنسية فى أفريقيا الوسطى ستصل في القريب العاجل قوات أفريقية إضافية لحفظ السلام إلى بانجي ولكن حتى وإن خضعت الأمم المتحدة إلى ضغوطات القيادات الدينية بأفريقيا الوسطى وأرسلت قوات لحفظ السلام – ما الذي يمكن لتلك القوات أن تحققه؟ في النهاية يجب أن تدرك القوي الدولية التي تدخلت في الأزمة أن أمامها خيار سهل لكنه غير جيد وهو إما أن تعتبر تلك القوي أن الرئيس ديوتوديا هو الرئيس الشرعي للبلاد وبالتالي تدعمه ليحتكر السلطة أو أنه ليس كذلك وبالتالي إيجاد بديل عنه. وبذلك يكون فرانسوا هولاند وبسبب قراره غير المدروس بالتدخل العسكري قد وضع القوات الفرنسية بين خيارين كلٌ منهما أسوأ من الآخر وهما إما المضي قُدماً في عملية القمع الدموي أوإسقاط هيبة المستعمر الفرنسي الجديد.

 

الهوامش (1 ) والقواعد موجودة في دول: جيبوتي، تشاد، كوت ديفوار، الكاميرون، الجابون، وكانت آخر قاعدة تمت تصفيتها في السنغال يوم 4 إبريل 2010م، والمتواجدة على الأراضي السنغالية منذ عام 1974. (قراءات إفريقية) ( 2) عملية تركواز Operation Turquoise: مهمة إنسانية أطلق عليها الفرنسيون اسم «‏تركواز‏» في نهاية شهر حزيران (يونيو) ‏1994‏م، تحت ستار مساعدة الضحايا الروانديين، لكن يذكر تقرير أعدّه سبعة حقوقيين روانديين، برئاسة وزير العدل السابق جون ديوو موسيو، عام 2008م، يتألف من ‏166‏ صفحة، أن العملية «‏تركواز‏» لم تكن في الحقيقة سوى غطاء لاستكمال مهمة الفرنسيين العسكرية لمساعدة ميليشيات قبيلة الهوتو في الاستمرار بتنفيذ جريمتهم ضد مواطنيهم من أبناء قبيلة التوتسي‏، ويستشهد التقرير بشهادات ناجين من المذابح الرهيبة، ويتحدث أولئك الشهود عن السلوك التآمري الذي اتبعه الجنود الفرنسيون مع مرتكبي المذابح.‏ (جريدة الأهرام المصرية، العدد 44442، بتاريخ 10 أغسطس 2008م). (3 ) السياسة الفرنسية في أفريقيا جنوب الصحراء، د. إجلال رأفت، مجلة السياسة الدولية، العدد 145، يوليو 2001م. .