متحدياً سيادة ليبيا، وفي زيارة لم تكن مفاجئة أو مستغربة في ظل الوجود غير الشرعي للقوات التركية على الأراضي الليبية، حطّ وفد تركي في مطار معيتيقة، مكون من وزراء الخارجية مولود جاويش أوغلو والدفاع خلوصي أكار والداخلية سليمان صويلو، إضافة لرئيسي هيئة الأركان والاستخبارات. والأكيد أنّ الزيارات التركية المتوالية إن كانت بعلم السلطات الليبية أو من دون علمها، هي رسائل يحاول من خلالها النظام التركي "شرعنة" وجود قواته في ليبيا رغم عدم شرعية الاتفاق الذي جاء بها، ناهيك عن أن هذه الزيارة استبقت عقد المؤتمر الدولي "برلين2" حول ليبيا المقرر عقده في 23 حزيران الجاري، في إشارة تركية صارخة لأن اتفاق جنيف الذي نص على خروج كافة المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا لا يشمل القوات التركية. والمثير أنه في الوقت الذي كانت فيه السلطات الليبية وبخاصة سلطات مطار معيتيقة آخر من يعلم بزيارة وفد النظام التركي، كان الجنود الأتراك على علم مسبق بها، حيث طلبوا من الحراس الليبيين الابتعاد عن مكان هبوط الطائرة، التي كانت تحمل الوزراء الأتراك. وفي هذا السياق، قال اللواء خالد المحجوب، مدير إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة الليبية، "أنّ الوفد التركي الذي زار العاصمة دخل بكل عنجهية وبدون أي تنسيق مع السلطات الليبية"!


وفي هذا السياق عقد أكار فور وصوله اجتماعاً مع الضباط الأتراك في مقر قيادتهم من دون حضور أي مسؤول ليبي، ما يشي بأن هذه الزيارة تأتي في إطار ترتيبات جديدة قادمة على الساحة الليبية. وفي تحدي سافر، قال وزير أكار، السبت 12/06/2021، إن تركيا ستواصل الوقوف إلى جانب ليبيا التي تربطها بها علاقة أخوة تاريخية منذ 500 عام، حسب قوله، مشددا على أن قوات بلاده المتواجدة في ليبيا "ليست قوة أجنبية". مبينا أن "تركيا هي وطن من أجل الليبيين، وليبيا وطن من أجل الأتراك". ولفت آكار إلى أن "تركيا ستواصل القيام بالمطلوب من أجل وحدة وأمن ليبيا، لذلك يجب فهم سبب وجودنا هنا جيدا". كما أفاد بأن "تركيا موجودة في ليبيا بناء على دعوة من الحكومة الشرعية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة وفي إطار الاتفاقات الثنائية بين البلدين". واستمر أكار بتصريحاته المستفزة والمعادية للمجتمع الدولي ضارباً المناشدات الدولية التي تدعو تركيا للتوقف عن انتهاكاتها، قائلاً: "لا يشك أحد في موقفنا هذا أو يعتقد بأننا سنتراجع عنه"، متحدياً: "القوات التركية البحرية في المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود، تقوم بكل ما عليها من واجبات على أحسن وجه"!


تصريحات أكار وتصرفاته العدوانية ضد ليبيا، من تجنيد المرتزقة الإرهابيين وإيوائهم واحتضانهم وتدريبهم وتمويلهم وتسليحهم وشحنهم إلى الداخل الليبي لارتكاب أبشع المجازر والجرائم تشير بشكل أو بآخر إلى أن مشغله إما مجرد دمية مبتذلة يتحرك وفق مشيئة أسياده الأمريكان والغرب... ويعمل وفق أجندة غربية مرسومة ومعدة له سلفاً، وإما أنه فقد رشده واتزانه وصوابه فغدا يتفوه بترهات هنا ومغالطات هناك أو أنه يلعب حالياً لعبة بوكر سياسية قاتلة، يلفق الأكاذيب ويحرض ضد ليبيا لتمرير أطماعه بتحقيق هيمنة سياسية واقتصادية وجغرافية على ليبيا والمنطقة عموما.‏ ومن المعروف أن أنقرة لها اليد العليا في النزاع الليبي اليوم وهي التي تحاول وضع العراقيل أمام توافق الليبيين على حل سياسي ينهي أزمتهم، حيث تعمل بشتى الطرق والإمكانيات الملتوية من أجل دعم أذرعها الأخوانية والعسكرية على حساب مصالح الشعب الليبي العليا، ومن المسلّم به، أن أنقرة تسيطر بقراراتها على حكومة الوحدة الوطنية ! ولتأكيد المؤكد، فقد صرح اللواء خالد المحجوب، مدير إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة الليبية، السبت 12/06/2021، "أنّ العاصمة طرابلس باتت محتلة من قبل تركيا".

وللأسف المأسوف على شبابه، أنّ خلوصي أكار، في العديد من خرجاته وتصريحاته، لم يستطع في جملة الأكاذيب التي يعيد سردها أن يعدّل المشهد في ليبيا، حين لم يحالفه الحظ هذه المرة في الرهان على رماد يتطاير من حرائق تمتد وتتسع في الزمان والمكان‏، فالأصابع التركية توغل من خلف الستار في عرقلة أي خطوة بهذا الاتجاه، عبر مواصلة النفخ في موقد القتلة والمرتزقة، والعزف على وتر داعمي الإرهاب ومموليه.‏ ليس من الصعب قراءة ملامح اليأس التركي من المحاولة، وقد برزت حتى في المقاربات التي تلاعبت بمفرداتها الدبلوماسية التركية، وتلوّنت حسب الحاجة الإقليمية والدولية، وبالتالي كان لابد من التمعن في تفسير الكثير من الظواهر المرتبطة بذلك اليأس مباشرة أو المتعلقة بما نتج عنه على أرضية الدور ومشاهد التورط في رسم ارتداداته على الداخل التركي في توقيت تبدو قائمة خيارات حكومة العدالة والتنمية معزولة عن سياقها السياسي، كما هي محاصرة بدورها المتواصل في عملية الربط بين مخرجات المنتج الإرهابي في نهاية المطاف.‏ 

لذلك قد يستطيع خلوصي أكار، أن يعيد رسم صورة ذهنية خادعة على المنوال ذاته، لكن ليس بمقدوره على الإطلاق أن يجادل في مسلمات الدور التركي، وما فتحه من أقنية إضافية وخنادق ومتاريس في الطريق نحو الإرهاب، ليكون جزءاً من لوحة يتكامل فيها دور حكومة أردوغان مع الأدوار القطرية والغربية المتبدلة تقديماً وتأخيراً... إبرازاً وتحييداً.‏ والمفارقة أن ذلك المنتج الإرهابي يطابق إلى حدّ بعيد مفرزات الزمرة الأردوغانية، ويماثل اتجاهات دورها الإقليمي مع بعض التعديلات الآنية القائمة على الصورة الافتراضية بمفاعيلها الإقليمية، الصادرة عن موقعها في حلقة الإرهاب الجديدة، وبالتالي من العبث النقاش في هذه الدائرة المغلقة، لأن الطريق المسدود حتى نهاياته لم يعد متاحاً إعادة السير عليه في ظل هلع غربي من الأصابع التي تتلاعب بصواعق انفجارها على مستوى المنطقة والعالم.‏ 

لو تحدث وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، عن أي شيء آخر إلا علاقته بالإرهاب وبالجماعات الأخوانية الإرهابية، ربما كان أجدى له، ولو أنه اكتفى بالكذب المفضوح والدجل المعتاد ربما وجد له البعض المبررات، باعتباره المجال الوحيد الذي يجيده إلى حدّ الاتقان هو ومشغّله، أما أن يتنطح للحديث عن ليبيا والمنطقة، فقد ذهب أوانه، وبات من المنسيات مع حكومة حزب العدالة والتنمية، وقد أورثت شعوب هذه المنطقة ودولها رماداً وجمراً ونيراناً تتقد تحت الرماد وفوقه، وشرارات ما أوقدته الأذرع التركية يتطاير في أرجاء المنطقة ويهدد بالانتقال إلى خارجها.‏ ما فات الوزير الأردوغاني أكثر بكثير مما استدركه، وما راكمه من مغالطات في السياسة والدبلوماسية وفي العلاقات بين دول المنطقة أخطر مما تتمكن الانعطافة المتأخرة من تجاوزه أو إصلاحه، ولم تسعفه "حذاقته" السياسية في منع مرتزقته من إشهار قبضتهم داخل فنادق ضيافته بعد أن ضاقت الأرض على إرهابهم، خصوصاً عندما تحين جردة الحساب، حتى لو تأخرت بعض الوقت أو حاول بعض الأطراف والقوى في المنطقة وخارجها تجاهلها أو التغاضي عنها.‏


خلاصة الكلام: إن الأطماع التركية في ليبيا، ليست وليدة الساعة، وإنما تعود إلى عقود سابقة، فالأطماع التركية التاريخية في المنطقة، والتي تسعى إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية، هو ما يبدو واضحاً في أبواق الدعاية التركية من خلال الترويج بأن تركيا بوسعها استعادة أراضٍ كانت تابعة لها، وهو ما يكّرره أيضاً الكثير من السياسيين والإعلاميين والمحلّلين الأتراك، وفي مقدمتهم أردوغان نفسه الذي ادّعى، في أوائل كانون الثاني الماضي، أن ليبيا إرث لأجداده، وفيها مليون تركي يحتاجون إلى حمايته ودفاعه عنهم! فالنظام التركي لا يزال بعهوده المختلفة "علماني أو إسلامي" ينظر إلى المنطقة العربية "كممتلكات تجب استعادتها"، مستغلاً الظروف الدولية، التي جعلت من المنطقة العربية مشتتة ومنقسمة على نفسها وحاجة غربية لهذا النظام في وجه استقرار المنطقة، فالتدخل التركي بالشؤون الداخلية العربية يزداد بتصاعد الشقاق العربي- العربي.