اليوم ونحن في الذكرى 11 للأحداث التي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011، يبدو واضحاً حجم الكارثة التي لحقت بـليبيا الغنية بالموارد النفطية، وأن ما حصل قوض عقوداً من حكم العقيد معمر القذافي، ونهايته كانت مأساة حقيقية على صعيد انتهاك المعايير الدولية والإنسانية والأخلاقية والمواثيق الخاصة بحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية.

والثابت اليوم بشأن الصراع في ليبيا، أنّ الأمر للأسف احتاج لوقت طويل، ودماء غزيرة كي يفهم كثيرون أن ما يجري في ليبيا منذ عام 2011 هي حرب، أو بالأصح عدوان موصوف لكن بأدوات غير تقليدية بمعنى أنه عدوان بأدوات: الإرهاب المتعدد الجنسيات، والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والحرب الدبلوماسية والحرب الاستخبارية، والمنظمات غير الحكومية، والكثير من الأدوات التي طبقت في ليبيا وشكلت درساً، لا بل دروساً للعالم أجمع، وللكثير من الدول التي اجتاحتها مخططات قلب الأنظمة، وتغييرها للوصول إلى أهداف جيوسياسية ترتبط بمنظومة الهيمنة الغربية. 

وقد يسأل مراقب للأحداث في ليبيا منذ انطلاق ما سمى "الربيع العربي" عن كيفية تمرير الخديعة الكبرى التي سوقها الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والمتمثلة (بنشر الديمقراطية) في هذا البلد والهجوم غير المسبوق على نظامه السياسي الذي كان قائماً وإلصاق تهمه (الديكتاتورية والقمع) به وما إلى ذلك من تهم باطلة بهدف تسويغ ضرب هذا البلد والسيطرة عليه واقتسام خيراته وثرواته وإشعال نار التناحر والفرقة بين مكونات شعبه، وقد يسأل أيضاً أين أصبحت ليبيا من كذبة الديمقراطية! اليوم في الذكرى الـ 11، نقول إن ما تكشف عن البدايات كان كثيراً، وما بقي خافياً بالتأكيد هو كثير أيضاً، إلا أن الأول كاف للجزم بأننا كنا في مواجهة حرب كبرى، ولم نكن في مواجهة ثورة، والفرق بين الحالين كبير، فالحرب تقوم بالإلزام والقسر، على حين الثورة ما من ملزم لقيامها سوى نضج ظروفها وضغوط موجباتها التي غالباً ما تكون بفعل وجود عوامل معيقه أمام مسيرة الحياة، وفي هذا السياق من المفيد القول، طالما أن الحديث هو بمعايير وسنن التطور، أن الحكم على أي نظام بالمقياس التاريخي لا يتم من حيث مقاربته لقيم مطلقة مثل الحق والعدالة والحريات… وإنما تتم من حيث إنه قدم، أم لم يقدم، منهجاً معرفياً كان قادراً في ظرفي الزمان والمكان اللذان وجد فيهما، على النهوض بمجتمعه الذي يقوده صعوداً على سلم التطور الاجتماعي. 

الثابت لدينا اليوم، أنّ ليبيا غير مستقرة، ومع ذلك ما يزال البعض يخرج على الشاشات، بمناسبة الذكرى الـ 11 لانطلاق ما يسمى "الثورة" التي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011، ويطلقون البيانات السياسية، أو التصريحات، أو التغريدات بالقول: لو أن الدولة الليبية لم يكن لديها مقاربة أمنية، وعسكرية لما وصلنا إلى هنا، ولو أننا عملنا على الحل السياسي لما وصلنا إلى هنا، ولو أننا تحدثنا مع ما يسمى (المعارضة) لما حدث- ما حدث! لكن الأدلة، والوقائع، والتصريحات، والمعلومات تتكاثر كل يوم لتصفع هؤلاء على وجوههم، وتكذبهم، وتقول لهم أن الحرب على ليبيا، ليست من أجل ديمقراطية مزعومة، أو حرية مفقودة، أو حقوق إنسان، أو ثورة مأفونة، إنما من أجل تقسيم البلاد، ورهن ليبيا للغرب والأغراب. في بداية الأحداث في ليبيا، تلطى كثيرون خلف شعارات براقة، وأطلقوا أصواتهم، وصرخوا كثيراً على الفضائيات، حول شكل النظام السياسي في ليبيا، وآفاقه، والمرحلة الانتقالية، بالرغم من أن أياً منهم لم يصف لنا المرحلة الانتقالية، كما أن أياً منهم لم يشرح لنا كيف تتم العملية الانتقالية... وبأي طريقة ديمقراطية جداً.
 
البعض يخلط عن قصد بين حقائق داخلية بحاجة إلى إصلاح، وتطوير وتغيير، وإن شئتم تبديلاً جذرياً في التعاطي، والمقاربة، وبين أهداف غربية ـ إخوانية - عثمانية لا علاقة لها إطلاقاً بذلك بل تستغلها لتحقيق أهداف أخرى ترتبط بمشاريع تقسيم المنطقة، وتفتيتها، وإضعافها، وقتل النور، والحضارة، والمعرفة، وإحلال التخلف، والتبعية، والأخوانية بقذارتها في كل مكان- وإلا فبماذا يبرر لنا (الثوار الفطاحل) أن من يحمل السلاح منذ بداية الحرب هم أنواع، وأشكال مختلفة، لكن المهيمن عليهم هو المال، والقبلية، والجهل، وأما صاحب اليد العليا على كل هؤلاء فهي تنظيمات القاعدة، وداعش المرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع أجندات التقسيم، ومع الأخوانية الابن الشرعي للصهيونية.

الآن، ونحن في الذكرى الـ 11 لانطلاق ما يسمى "الثورة" التي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011، تبدو الأوضاع أبعد ما تكون عن الاستقرار برغم تصريحات الحكام الجدد الكثيرة في هذا المجال، فليبيا لا زالت بعيدة من الوحدة على الرغم من وقف إطلاق النار المدعوم من الأمم المتحدة، وحكومة وحدة وطنية أخرى ومحاولة جديدة، أُجِّلت، لإجراء انتخابات ـ رئاسية وتشريعية ـ كان يمكنها أن تؤدي إلى الديموقراطية والاستقرار، لم تنتخب ليبيا أبدا رئيسا ديموقراطيا، ولم تُجرَ انتخابات برلمانية منذ العام 2014، ويبدو من غير المرجح أن يكون هناك رئيس للجمهورية الليبية في أيّ وقت قريب. وإنه مع الوضع في الاعتبار التعقيدات العديدة على الساحة الليبية، وتقاطعات وصراعات المصالح الإقليمية والدولية والتدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، فإن مخاطر الاستقطاب الحاد تبدو صارخة ومعلنة بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة وبين مجلس النواب الليبي في طبرق برئاسة عقيلة صالح. فرئيس مجلس النواب وعدد من أعضاء المجلس أنهوا حكومة الدبيبة وسلموا مفاتيح تشكيل حكومة جديدة لباشاغا، غير أن موقف مجلس النواب الليبي ورئيسه لم يدفع الدبيبة وحكومته إلى ترك السلطة ولا التفكير في تسليمها، ليس فقط لصعوبة ذلك وخطورته في ظل الأوضاع الراهنة في ليبيا، ولكن أيضا انتظارا لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع والمشاورات بين الأطراف الليبية وحسابات الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة وما قد تتطلبه مصالحها في هذا الخصوص. 

وبمنطق البحث عن صاحب المصلحة، فإنه يمكن القول إن الأطراف التي عرقلت إجراء الانتخابات، ومن ثم تأجيل ما يمكن أن يعقبها من إجراءات وخطوات لاستعادة استقرار ليبيا، على الأقل تدريجيا، هي تلك التي تستفيد من الوضع الراهن واستمراره، وفي مقدمة تلك الأطراف الميليشيات الليبية في طرابلس وفي مناطق ليبيا الأخرى، فقد تغولت الميليشيات وتحوّلت إلى قوى مؤثّرة وقوية للغاية بحيث لا يُمكن نزع سلاحها. إنها تسيطر على واحد من أغنى احتياطات النفط والغاز في أفريقيا، وتُجنّد الشباب العاطلين من العمل مقابل 5.000 دينار في الشهر (1000 دولار)، مُقارنةً بمتوسط الأجر العام البالغ 900 دينار. وتستخدم حق النقض ضد المرشحين. ولغاية كتابة هذه السطور، فلا تتضح بعد سبل ولا كيفية استيعاب هذه الميليشيات ضمن القوة المسلحة الوطنية الليبية التي من المقرر أن تندمج فيها كل التشكيلات العسكرية الليبية شرقا وغربا وجنوبا، وأن تكون الحكومة الليبية وحدها هي التي تحتكر استخدام القوة على الأراضي الليبية. والمؤكد أن هناك أطرافا ليبية داخلية وإقليمية ودولية لا تتعجل ذلك، وتريد الاطمئنان بشكل أو بآخر على مستقبل مصالحها وحجم دورها، ولعل ما يؤكد ذلك أنه برغم الدعوات المتكررة لخروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا وحل الميليشيات، فإنه لم يتحقق شيء على الأرض، برغم اتصالات عديدة مع الدول المعنية، بل ودعوات من مجلس الأمن ومن قوى دولية عدة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. 

اليوم في الذكرى الـ 11 لانطلاق ما يسمى "الثورة" التي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011، يرى الليبيون أن الحرية التي قتل عشرات الآلاف من أبنائهم تحت شعارها، لم تكن سوى الانقسام والفوضى وانتشار السلاح بين أيدي كل من هب ودب، وتردي الأوضاع المعيشية، والتدخل الخارجي السافر بكل صغيرة وكبيرة بالشأن الداخلي، وأحيانا المغرقة بالمحلية والقبلية... فالتطورات في ليبيا تمر بمفترق طرق خطر مفتوح على مختلف الاحتمالات، وللأسف في ظل هذه الأجواء تتجدد الدعوات لتبنّي الفيدرالية أو حتى تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق تتمتع بالحكم الذاتي، كما حدث خلال الحقبة الاستعمارية، عندما احتل البريطانيون والفرنسيون ليبيا في العام 1943 وقسّماها إلى ثلاث مقاطعات: إقليم طرابلس في الشمال الغربي، وبرقة في الشرق، وفزّان - غدامس في الجنوب الغربي. والحقيقة الثابتة التي لا ينكرها إلا جاحد، أنّ ثوار ليبيا استبدلوا نظام القذافي الذين وصفوه بأرذل وأقبح الصفات، بنظام تحكمه مليشيات متمردة، وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول أفكار القذافي أو تصرفاته، فلا يستطيع منصف التشكيك في وطنيته ولا إنسانيته، ولا في إخلاصه لبلده وأمته العربية وقارته الإفريقية، ونظافة يده، يكفي أنه ترك ليبيا دولة غنية، تمتلك 320 مليار دولار احتياطي نقدي من العملات الصعبة، وصندوقاً سيادياً يحتوي على أكثر من 60 مليار دولار، وغطاء من الذهب للعملة يتجاوز 120 طناً، كل هذه الثروات تركها ملكاً للشعب الليبي لم ينهبها أو يهربها لحسابه في بنوك أوروبا، كما فعل غيره من الحكام الذين أطيح بهم في دول الجوار... وبعد استيلاء الناتو على جزء من الاحتياطيات، والتهام الصراع المسلح بين الجماعات المتناحرة على السلطة والثروة في ليبيا جزءاً آخر مما تركه القذافي الذي قتل غدراً وظلماً. ولأن الشعب الليبي افتقد الأمن والاستقرار والرخاء، فقد جاء قرارهم بدعم سيف الإسلام القذافي للترشح للرئاسة حتى تعود ليبيا مستقرة وآمنة،  وثمة اليوم، في ليبيا، حنين إلى الجماهيرية الليبية، الحنين إلى عهد القذافي يقوم على عامل مهم للغاية، هو ضمان سلامة حياة المواطنين، ذلك ما تعجز عنه الدولة ممثلة بالدبيبة.