تقف البلدان التي شملها ما يسمى بـ "الربيع العربي" تقريبا في حالة يرثى لها. ويبقى الاستثناء الوحيد هو تونس، البلد الصغير. وقد بدت الأمور لفترة من الوقت، تسير في منحى إيجابي عند الجارة ليبيا، البلد الكبير والغني بالثروات النفطية. لكنه انزلق بسرعة إلى براثن الفوضى، شأنه في ذلك شأن سوريا، أصبح يستهوي الدخلاء ويشكل تهديداً للدول الغربية.
في الوقت الراهن لم تعد دولة ليبيا تحمل من الدولة سوى الاسم. إن الفصائل التي توحدت لإزاحة معمر القذافي هي عينها التي فشلت اليوم في محاولة تسوية خلافاتها عن طريق التفاوض. فشرق ليبيا يوجد تحت سيطرة تحالف يمكن وصفه بالعلماني، ومقره طبرق. وفي الغرب، هناك خليط من الجماعات من طرابلس ومصراتة، مدعومة بالميليشيات الإسلامية المتشددة. هناك صراع بين حكومتين وبرلمانين، ومجموعتين من المطالب لقيادة البنك المركزي وشركة النفط الوطنية، في ظل غياب شرطة وجيش وطنيين، مقابل انتشار مجموعة من الميليشيات ترهب المواطنين وتنهب ما تبقى من ثروات البلاد، وتدمر القليل الذي تبقى من بنياتها التحتية، دون الحديث عن عمليات التعذيب والتقتيل الذي يطبع تدخل هذه الميليشيات أينما حلت وارتحلت.
وفيما تفضل تركيا وقطر والسودان مساندة الفصائل الإسلامية، تدعم مصر والإمارات العربية المتحدة التحالف الشرقي المعترف به على نطاق أوسع من منافسيه. وقد بدأت آثار الأزمة 'المسمومة' في ليبيا تتسرب خارج الحدود عبر الأراضي القاحلة الشاسعة للساحل الإفريقي، جنوب الصحراء الكبرى، من مالي في الغرب، مرورا بالنيجر وشمال نيجيريا إلى السودان والصومال شرقا، بل إلى حدود صحراء سيناء المصرية المتاخمة لإسرائيل. وهناك قبائل عربية وجماعات عرقية أخرى في الجنوب المتميز بطبيعته الوعرة، ينتشر فيها الفساد وتهريب الأسلحة والأشخاص وتوفير الملاذ الآمن والعون للخارجين عن القانون والجهاديين الموالين لتنظيم القاعدة، بل حتى المقاتلين الذين بايعوا تنظيم 'الدولة الإسلامية في العراق وسوريا' الدامي.
لقد حاول الغرب تجنب التدخل في ليبيا. فأمريكا وفرنسا وبريطانيا تدخلت مُرغمة للإطاحة بالقذافي لمنعه من ذبح المواطنين الليبيين، لكن فشل التحالف الغربي في العراق وأفغانستان جعله يقرر عدم المغامرة بالإشراف على الانتقال الديمقراطي المرجو في ليبيا، ناهيك عن الحديث عن أي تدخل على الأرض. وبدلا من ذلك، تم تفويض المهمة للأمم المتحدة وإلى الليبيين أنفسهم، خصوصا مع إصرارهم على الإشراف على إصلاح البلاد بأنفسهم.
إن فشل القذافي في بناء إطار مؤسساتي في البلاد صعب مهمة الليبيين ذوي النيات الحسنة لإصلاح بلدهم. ووعيا بصورة الغرب في أعين العرب، فإن الأمم المتحدة متلكئة في طلب أي تدخل بري أجنبي في ليبيا. أما الولايات المتحدة وبعد مقتل سفيرها هناك، فقد قرر رئيسها، باراك أوباما، الابتعاد عن المنطقة. هذا ولم يبد الأوروبيون أي تسرع لسد الفراغ الذي خلفه دور أمريكا في ليبيا.
وضع ميؤوس منه تقريبا، لكن مازال هناك بريق أمل
إن هذا الإهمال خطأ. فبالتأكيد، يجب ألا يفكر الغرب في التدخل العسكري. لكن دبلوماسية أكثر نشاطا كانت على الأقل ستمكن من احتواء الصراع. ليبيا تبعد ب 300 ميل فقط عن جنوب أوروبا. فحمام الدم الذي يجتاح البلاد قد يدفع بآلاف من سفن اللاجئين لعبور البحر الأبيض المتوسط. كما أن هناك معاقل جهادية ساخنة، من تورا بورا إلى اليمن والصومال، تقدم عادة الرعاية والدعم للمتطرفين الذين يتربصون بأهداف غربية كنيويورك وباريس.
ولذلك ينبغي على الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والحكومات الغربية جميعا الانضمام إلى المعركة الدبلوماسية بدينامية أكبر. وهناك الحاجة أيضا إلى مؤتمر "أصدقاء ليبيا"، حيث ينبغي للقوى الإقليمية التي تستخدم ليبيا كساحة معركة بالوكالة الحفاظ على تعهداتها السابقة بفرض حظر على الأسلحة. لكن يبقى الحل الوحيد المعقول هو إنشاء حكومة وحدة وطنية مدعومة بدستور جديد يخول الحكم الذاتي للمناطق والمدن الرئيسية (على الرغم من أنه لا بد من الاعتراف بأن هذه السياسات نادرا ما نجحت على مستوى العالم العربي حيث يحصل المنتصر على كل شيء). كما يمكن تحويل بعض أموال النفط إلى حساب مضمون تحت إشراف الأمم المتحدة ليستخدم في تمويل الخدمات العمومية على الجانبين. وفي حال التوصل إلى اتفاق متفاوض عليه، على الأمم المتحدة إرسال قوات حفظ السلام تابعة لها للإشراف على ذلك.
وفي نهاية المطاف، على الليبيين أنفسهم الحفاظ على بلدهم. وستكون مهمتهم أسهل بكثير من نظرائهم السوريين والعراقيين أو اليمنيين، لأن ليبيا بلد غني وبه عدد قليل من السكان يعيشون في تجانس ديني وطبقي وعرقي. لكنهم لا زالوا في حاجة للمساعدة. أما الفوضى التي تعم ليبيا فهي أكبر خطرا على العالم من أن تترك لحالها.