النقطة الأهم التي يمكن ملاحظتها في الواقع الليبي للعام 2018، أنه كان عام القوى الخارجية بامتياز، رغم أن السنوات التي سبقت لم تكن بعيدة عن ذلك وإن باختلاف التدخلات، لكن المؤكد أيضا أن أغلب الخطوات كانت تتم بعيدا عن أي أدوار واضحة لليبيين الذي جعلتهم محن السنوات الثماني بلا رؤية لمستقبل البلاد. بين الأمم المتحدة وفرنسا وإيطاليا وضوء يراقب من الولايات المتحدة غرق الملف الليبي دون أي تقدّم يذكر. الكل يقدّم المقترحات والمبادرات، والكل يشعرك أن قلبه على الشعب الليبي، لكن الواقع شيء آخر. كل الدلائل تشير أن المسار الذي اختير لهذا الشعب في 2011، كان مسارا تخريبيا تمت هندسته باحترافية كبيرة، واليوم الجميع يريد أن يبحث عن موطئ قدم له خوفا من فقدان غنيمة تسيل اللعاب ليس آكثر.

خلافات الداخل نتيجة لكل الأزمات

مثل السنوات التي سبقته، لم يكن الرهان في 2018، كبيرا على الأطراف الليبية الداخلية للتقدّم بالعملية السياسية في البلاد. فالخلافات العميقة والممارسة الهاوية للسياسة ومناخ عدم الثقة والارتباطات بأطراف السلاح والخارج، قد تجعل أي حل داخلي-داخلي بعيد المنال على الأقل في الفترة القريبة. فبالإضافة إلى الانقسام السياسي بين الشرق والغرب وقيام البلاد على هيكلين سياسيين، كل منهما يسيّر حكومته من مجاله الجغرافي ومن رؤيته للأزمة، وكل منهما يريد حصته من المناصب السيادية في علاقة بالاقتصد والجيش، توجد أيضا خلافات داخل الهيكلين، خاصة في طرابلس، حيث تتنازع عدد من الأطراف الصلاحيات مستعينة في ذلك بسلطة المليشيات التي تبقى حسب أغلب المراقبين المحدد لكل السياسات، وبسبب ذلك تنفلت الأوضاع معلنة أن أمل الانفراجة مازال بعيدا خاصة في غياب مؤسسات أمنية وعسكرية ثابتة وقادرة على الحسم في أي تطور.

ورغم أن الليبيين يطمحون لحل داخلي يفتح الطريق لكل الخيارات السياسية في مستقبل البلاد، إلا أن خفايا الكواليس تثبت أن مثل هذه الخطوة مازالت بعيدة المنال بالنظر إلى عدة نقاط إشكالية وبالنظر خاصة إلى الارتباطات الخارجية لكل طرف تجعله غالبا تحت منطق الخضوع والمسايرة دون أن تكون له أي فرصة لاتخاذ قرارات داخلية حاسمة تنهي حالة الصراع القائمة.

ورغم أن الإشكال في الأصل سياسي، لكن تبعاته كبيرة على أمن البلاد واقتصادها، حيث أن أغلب المؤشرات تشير إلى تدهور على هذين المستويين، رغم أن المشكل الإرهابي تراجع بشكل ملحوظ، لكنه يبقى حسب عدة مراقبين وأمام حالة الانقسام خطرا يتهدد البلاد في أي لحظة، التي عرفت على فترات متعاقبة من العام بعض الهجمات أسفرت عن عدد من الضحايا المدنيين في شرق البلاد وغربها.

الأمم المتحدة ... وعود بانتخابات لم تتهيأ ظروفها

عندما تم تعيين المبعوث الأممي غسان سلامة على رأس البعثة إلى ليبيا، خرجت أصوات كثيرة مستبشرة على اعتبار أن الرجل قادم من بيئة عربية ومتفهم للواقع الذي تعيشه المنطقة، وتم رفع سقف الآمال إلى درجات كبيرة، حتى ذهب الظن بالكثيرين أن توحيد الفرقاء لن يكلف الدبلوماسي اللبناني فترة طويلة لكي يُحقق ما وعد به في إفادته الأولى أمام المنتظم الأممي، التي تحدّث فيها عن جملة من الإجراءات وعلى رأسها تعديل الاتفاق السياسي الذي قد يفرز عديد المخرجات لكنه لم يتم إلى حد الآن رغم المطالبات المتكررة من عدة أطراف في الداخل.

ففي يناير 2018، تحدّث سلامة كثيرا عن الواقع الليبي، لم يخف الرجل حقيقة الوضع القائم، لكنه كذلك لم يدرك أن ما وعد به وقتها مجرّد أمنيات أمام واقع مأزوم. تحدّث عن مشروع الدستور، وعن المصالحة الوطنية وعن الانتخابات. أخذته في ذلك الحماسة أكثر منها الحقيقة على الأرض.

في الحديث الدبلوماسي مسألة طبيعية أن يتحدّث المسؤول وكأنه أمام مشهد وردي يحتاج فقط بعض التزيينات، لكن في الحالة الليبية الأمر يختلف. سنوات التحارب الأهلي وعدم الثقة بين الجميع وغياب الجرأة، كلها عثرات في الطريق كان من الضروري التوقف أمامها قبل التقدّم أي خطوة إلى الأمام. وكان من الأفضل والمنهجي أيضا أمام سلامة أنه اختار مهامه خطوة بخطوة، على الأقل وقتها يصوّب مجهوده نحو هدف واحد، لعله يحققه أو يحقق جزءا منه، لكنه اختار طريقة التكديس دون دراية منه بما هو موجود بين الفرقاء. وبسبب ذلك ورغم ربط خيوط التواصل بينهم لم ينجح لمدة سنة في التقدّم بهم، بل أحيانا تزداد التوترات بشكل يجعل المبعوث الأممي نفسه أمام موقف محبط، مثلما وقع له في نقطة الانتخابات التي كان عاقدا العزم على إجرائها قبل سبتمبر 2018، ليجد نفسه في كل مرة يتراجع عن التاريخ المحدد. وكذلك الأمر في بقية النقاط، باستثناء نقطة المصالحة التي لم يبذل هو فيها جهدا كبيرة، رغم أن بعض الأصداء تشير إلى أنها تسير ولو ببطء نحو التقدّم.

مؤتمر باريس ... ومَثَلُ "كاد المريب أن يقول خذوني"

الحالة الفرنسية في ليبيا ربّما تكون استثناء في الأزمة، اللعب فيها كان على المكشوف. كعادة الفرنسيين، يتعاملون مع المسائل بنوع من الغرور أو النرجسية. هم لا يتعبون أنفسهم قليلا في ملفات بلا نتائج. منذ لحظة "17 فبراير" كان شعارهم الأساسي "ماذا ستقدّم لي لكي أقدّم إليك"، وعلى ضوء تلك القاعدة وكان المسار الفرنسي. بمنطق آخر، "أريد جزءا من الغنيمة التي كانت بعيدة عنّي في عهد القذافي". وبالفعل نجحت في ذلك في عملية أشبه بالخيانة أو بالتفريط في مقدّرات البلاد من طرف المجلس الانتقالي وقتها.

إذن التعامل الفرنسي مع الأزمة الليبية كان براغماتيا وبشكل مكشوف، وبسبب ذلك كان الخلاف مع الإيطاليين مكشوفا حول "من سيربح الثروة". فرنسا من لحظة "الثورة" إلى العام 2018، كانت اللاعب الفاعل المرافق لكل تحرّك يخص ليبيا، سواء على أراضيها أو خارجها.

مؤتمر باريس 2018، كان خلاصة اللقاءات والمشاورات التي شاركت فيها فرنسا، وفيه أيضا دعوة صريحة لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في أقرب فرصة وضرورة أن تتهيأ لها الظروف الأمنية والسياسية الملائمة، وهذا ما لم يحصل.

ما خلص إليه اجتماع باريس هو أيضا ما خلصت إليه اجتماعات سابقة في تونس والمغرب لكن ما دام جماح المليشيات لم يكبح بعد، وما دام التعنت يصيب أغلب الطبقة السياسية في البلاد فذلك يعني أن كل المقترحات تبقى مجرّد ورقات تفاؤل توزع على وسائل الإعلام ويسمعها الليبيون في انتظار الساعة التي يمكن أن تحين لتطبيقها.

مؤتمر باليرمو... عندما ينتهي الحوار بلا قرارات

قد يلخّص مؤتمر باليرمو 2018 عمق الأزمة السياسية في ليبيا. هو في الأخير كان حلقة أخرى من مسلسل الحوارات الليبية في الخارج التي لم تحمل معها أي نتائج، لكنه كشف حجم الخلافات بين بعض الأطراف الليبية التي رفضت حتى الجلوس إلى طاولة، وقد أكدت ذلك خبيرة الشؤون الليبية في مجموعة الأزمات الدولية "كلاوديا غازيني" عندما قالت على هامش المؤتمر: "إن تصرف الوفود الليبية التي شاركت في مؤتمر باليرمو يكشف للأسف ان الخلافات بينهم لا تزال عميقة للغاية". ومظاهر الخلافات ترجمها الحضور الجانبي للمشير خليفة حفتر الذي خيّر المشاركة في اجتماع غير رسمي مع وفود الدول المشاركة.

المؤتمر الذي بدا باهتا منذ بدايته خرج في الأخير بصورة تذكارية ملأتها الضحكة العريضة للمبعوث الأممي غسان سلامة، التي قد تكون ضحكة في ظاهرها تفاؤل لكن حقيقتها قد تخفي إحباطا من كل ما خطط له لحوالي سنتين، أو هي ضحكة المستسلم للأمر الواقع الذي يقول أن أشواطا طويلة مازالت للعمل وهو ما أكدته غازيني في تصريحها أن "استراتيجيات التفرقة تكشف أن الطريق نحو تقارب فعلي بين الاطراف لا تزال طويلة".

في الحقيقة كان اجتما باليرمو 2018 مجرّد استعراض إيطالي ورد فعل على ما تقوم به فرنسا، أو بصورة أوضح هو غيرة إيطالية على بلد كان إلى وقت قريب ساحة حرّة تخسرها تدريجيا لفائدة الجار الفرنسي الذي تشير كل المعطيات أنه أصبح الأكثر نفوذا.


لا جديد يذكر على الساحة السياسية الليبية في العام 2018. مثلما لم يكن هناك جديد في العام الذي سبق والأعوام التي سبقته. السنوات تمر لكن الأزمة نفسها رغم الصور التذكارية التي يلتقطها ساسة البلاد في أكثر من مكان في شكل أصبح يشبه الاستعراض واكتساب زعاماتية مفقودة. ولا شيء يشير إلى حلول للأزمة في 2018 في انتظار آمال قد تعقد في 2019 الذي يكون بدوره صورة للعام الذي سبقه.