في ليبيا المقسمة سياسيا والمضطربة عسكريا يبدو جليا دور الدول الكبرى في تشكيل صورة البلد الجديدة، وذلك لأن تسوية الأزمة بات مطلبـــاً عاجلاً للقوى الإقليمية والدولية في ظل تصاعد التوتر العسكري وعجز العملية السياسية عن تحقيق أي نقاط تقدم، رغم الإجماع الدولي على رفض الحل العسكري، والتمسك بالحل السياسي القائم على مرجعية اتفاق الصخيرات.

وبرغم إعلان جميع المعنيين بالشأن الليبي دوليا دعمهم للاتفاق السياسي والمجلس الرئاسي والحكومة المنبثقة عنه، فان المواقف الدولية غير موحدة تجاه الازمة الليبية.حيث باتت ليبيا صيدا ثمينا وهدفا لعدة أطراف إقليمية ودولية، ترغب في الاغتنام بالحصة الأكبر من هذا الصيد، تحت ذريعة محاربة الارهاب أو إعادة الإستقرار للبلاد.

وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية، إحدى أبرز القوى الدولية المتواجدة في الساحة الليبية، حيث كانت على رأس قوات حلف الناتو التي قصفت ليبيا في العام 2011.لكن الحال تغير تمامًا بعد أبريل من نفس العام عندما قتل السفير الأمريكي في هجوم جماعة أنصار الشريعة على القنصلية الأمريكية في بنغازي، بعدها تم نقل السفارة وباتت تعمل من تونس، وأرخت أمريكا الحبل للدول الأوروبية الثلاث المؤثرة في الملف الليبي، وهي فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، لقيادة الملف الليبي وأقتصر دورها على الضربات الجوية للتجمعات الإرهابية. 

وبعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة في أمريكا، التزمت الإدارة الأميركية الجديدة الصمت حيال ما يحدث في ليبيا، وقال الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب،  في أبريل 2017، إنه لا يعتقد أن على الولايات المتحدة مواصلة القيام بدور في تحقيق الاستقرار في ليبيا.وأضاف ترامب خلال مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الإيطالي، باولو جينتيلوني، عقب اللقاء بينهما في البيت الأبيض: "لا أرى دوراً لأمريكا في ليبيا، " وأضاف ترامب: "أعتقد أن الولايات المتحدة تقوم حالياً بالعديد من الأدوار، بما فيه الكفاية، في أماكن مختلفة من العالم".

وجاءت تصريحات ترامب بعد لحظات من وصف جينتيلوني لدور الولايات المتحدة في ليبيا بـ"الحاسم".وقال جنتيلوني: "أعتقد أنه يجب أن يكون هناك هدف واضح واحد، وهو أننا بحاجة إلى المنطقة، ونحن بحاجة إلى الدول مثل مصر وتونس القريبة من ليبيا، ونحن بحاجة إلى ليبيا مستقرة وموحدة." وأضاف: "دور أمريكا في هذا حاسم".

هذا التناقض بين موقفي الرئيسين، اشارت له شبكة السي ان ان الاخبارية الأمريكية، عندما ذكرت في تقريرها أن الرئيس الأمريكي لم يكن يضع سماعة الترجمة من الإيطالية إلى الإنجليزية على اذنه عندما القى بقنبلته هذه، في إشارة إلى انه قد لايكون سمع تعليق جنتليوني بخصوص الدور الذي يرى أن امريكا قادرة على لعبه في ليبيا، وبالتالي بدت إجابتيهما مختلفتين.وأضافت الشبكة الأمريكية "تعليقات ترامب قد تكون مؤشراً على تحول كبير في السياسة الخارجية ألأمريكية عما كانت عليه زمن إدارة الرئيس السابق "باراك أوباما" والذي حاول أن يرعى حلاً دبلوماسياً للصراع بين الفصائل المتمردة المتحاربة".

ويشير الكثيرون إلى أن الرؤية الأمريكية في الملف الليبي، واضحة لا تدخل مباشر، ولكن جاءت خطوة تعيين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، القائمة بالأعمال الأميركية السابقة لدى ليبيا، ستيفاني ويليامز، نائبة لرئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، لتعكس ربما اهتماما متزايدا من قبل أمريكا، عبر التدخل للدفع ويليامز في هذا المنصب.

وبالإضافة لشغلها منصب القائم بالأعمال، تعتبر ويليامز من الدبلوماسيين الأميركيين القريبين من الملف الليبي، فقد سبق أن شاركت في منتدى الحوار الاقتصادي الليبي، الذي عُقد في تونس، حول الأزمة الاقتصادية في البلاد، بحضور رئيس المجلس الرئاسي بحكومة الوفاق، فائز السراج، وعدد من رؤساء المؤسسات الاقتصادية السيادية في ليبيا.

وتختلف تفسيرات مراقبي الشأن في ليبيا لوجود وليامز في هذا التوقيت، وبدفع من ترامب شخصيًا، وفيما إذا كانت عودة واشنطن، تحت غطاء الأمم المتحدة، سعيًا سياسيًا ومحاولة لتثبيت قدمها في البلاد؛ أو جاءت لحل الخلافات الأوروبية المتزايدة مؤخرًا بشأن ليبيا.

وبعيدا عن السياسة، تصر الولايات المتحدة الأمريكية على إبقاء وجودها العسكري فى المشهد الليبي، وهو ما يكشفه إستمرار الغارات الجوية التي يشنها سلاح الجو الإمريكي في مناطق مختلفة من البلاد، والتي كان آخرها الغارة التي استهدفت الإرهابي في تنظيم داعش وليد بوحريبة، في 28 أغسطس الماضي، في منطقة الظهرة بني وليد.

وتعتبر هذه الضربة الثانية التي تنفذها القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (الأفريكوم) في بني وليد خلال الثلاثة أشهر الماضية، إذ سبق أن تبنت مطلع يونيو الماضي غارة جوية "شديدة الدقة"، مؤكدة أن الولايات المتحدة لن تنسى مهمتها في تدمير واستهداف المنظمات الإرهابية وتحقيق الاستقرار في المنطقة.وخرج حينها المتحدث الرسمي باسم رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق محمد السلاك مصرحاً أن الغارة الجوية كانت بالتنسيق مع القوات العسكرية التابعة للمجلس الرئاسي.

وتحرص أمريكا على تقديم الدعم لحكومة الوفاق الليبية، والذي بدأ فى مطلع شهر أغسطس 2016، حين شنت القوات الأمريكية هجمات جوية على ما وصفته بمعاقل تنظيم "داعش" فى سرت بليبيا بطلب رسمى من حكومة الوفاق الوطنى الليبية لتكون تلك العمليات العسكرية الأمريكية هى الأولى التى يتم تنفيذها بالتنسيق "المعلن" مع حكومة الوفاق.

ومنذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترمب السلطة في يناير 2017، نفذ الطيران الأميركي عدّة ضربات جوية في ليبيا، مستهدفاً فلول وقيادات تنظيم الدولة والقاعدة.وأشارت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا ، بأنها " لن تتوانى في مهمتها المتمثلة في تحطيم وتعطيل، وتدمير المنظمات الإرهابية وتحقيق الاستقرار في المنطقة"، مؤكدة التزامها بالحفاظ على الضغط المستمر على شبكة الإرهاب ومنع الإرهابيين من إنشاء ملاذ آمن خاصة في ليبيا.

ومؤخرا، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" النقاب عن عزم الولايات المتحدة تنفيذ ضربات جوية على مواقع "داعش" و"القاعدة" في ليبيا انطلاقا من قاعدة بدولة النيجر.ونقلت الصحيفة عن مصادرها، أن القاعدة استخدمتها قوات أفريكوم في تنفيذ ضربات على مدينة أوباري، جنوب ليبيا، بشكل علني بدءاً من مارس/آذار الماضي.

وتحدثت الصحيفة عن توسيعات أجرتها الولايات المتحدة على قاعدة في بلدة ديركو النيجرية في فبراير/شباط الماضي، استعدادا لتنفيذ هجمات وطلعات استطلاعية بواسطة طائرات مسيرة.وكانت القوات الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" قد أعلنت عن مسؤوليتها في تنفيذ ضربات جوية على أوباري نهاية مارس ويونيو الماضيين استهدفت قادة من تتظيم "القاعدة" من بينهم، موسى أبو داوود، الذي وصفته بالقيادي البارز في تنظيم القاعدة.

وفي الطرف المقابل، يبرز الدور المتنامي لروسيا، التي ألقت بشكل ملفت بكامل ثقلها في الفترة الأخيرة في الملف الليبي الذي فضلت التواري عنه لفترة، وباتت مؤخرا إحدى أبرز القوى الدولية نشاطا في الساحة الليبية.حيث سارع نشاط الدبلوماسية الروسية بشكل ملحوظ في هذا الملف، وتجسد في زيارات متبادلة بين أطراف الأزمة ومسؤولين روس، وكذلك تنسيق في المواقف مع دول جوار ليبيا.

وأدى فشل المبادرات الدولية لتوحيد مختلف الفصائل الليبية من ناحية، وتعاظم الدور الروسي في الشرق الأوسط إثر تدخلها في سوريا من ناحية أخرى، إلى منح موسكو فرصة العودة إلى ليبيا، حيث تراهن على الصعيد الإقليمي على نجاحها المحتمل في مصالحة مختلف الجماعات المتنازعة على السلطة. 

وأعرب المسؤولون الروس في أكثر من مناسبة عن استعداد بلادهم للعب دور الوسيط في الأزمة الليبية، ففي أبريل الماضي، أكد رئيس مجموعة الاتصال الروسية لتسوية الأزمة الليبية ليف دينجوف، فى تصريح لوكالة أنباء سبوتنيك، أن موسكو مستعدة للمساهمة فى عقد حوار بين أطراف الصراع فى ليبيا وتنظيم لقاء بين رئيس المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق الوطنى فايز السراج والقائد العام للجيش الوطنى الليبى المشير خليفة حفتر.

وفي ديسمبر الماضي، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن بلاده "ستقوم بكل ما يلزم" لتسهيل التوصل إلى اتفاق بين طرفي النزاع في ليبيا من أجل إنهاء الأزمة السياسية في البلاد.وقال لافروف في مؤتمر صحافي عقب لقائه نظيره الليبي محمد طاهر سيالة في موسكو "سنساعد في حل جميع المسائل في المفاوضات بين سلطات طرابلس وطبرق التي نحن على تواصل منتظم معها.

وشهدت روسيا زيارات عدة لمسؤولين ليبيين، بعضهم من حكومة الوفاق الوطني وأعضاء مجلس النواب وزيارات عدة قام بها القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر إلى موسكو، إضافة لزيارته إلى حاملة الطائرات الروسية "الأدميرال كوزنيتسوف"، في يناير 2017، وذلك خلال عبورها المياه الإقليمية الليبية في طريق عودتها من سوريا إلى روسيا.وقالت وزارة الدفاع الروسية حينها في بيان لها أن المشير حفتر، تواصل مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، وبحث معه محاربة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط.كما ذكر البيان أنه تم تسليم حفتر، في ختام الزيارة شحنة من الأدوية الأساسية الضرورية للجيش الليبي والمدنيين.

وفي أغسطس الماضي، أثارت تصريحات المتحدث باسم الجيش الليبي، العميد أحمد المسماري جدلا واسعا في الأوساط الليبية بعد أن طالب روسيا بالتدخل في ليبيا.ورأى البعض إن الدول الكبرى تتدخل في ليبيا، وإن روسيا ليست صاحبة نوايا طيبة، مؤكدين أن موسكو تريد تثبيت حضورها في المنطقة التي تعتبر امتدادًا للنفوذ الغربي.ويندرج الاهتمام الروسي بليبيا، حسب العديد من الخبراء، في إطار إستراتيجية أوسع تهدف من خلالها موسكو إلى استعادة دور جيوسياسي بارز في المنطقة.

وتحدثت عدة تقارير عن امكانية التدخل العسكري الروسي في ليبيا، ففي يوليو الماضي، نشرت صحيفة "إكسبرت أونلاين" الروسية تحت عنوان "روسيا ذاهبة إلى ليبيا"، تقريراً ناقشت فيه الأنباء المتداولة حول إمكانية إقامة قاعدة عسكرية روسية شرقي ليبيا، وذلك استناداً إلى ما نشرته صحيفة واشنطن تايمز الأمريكية التي نقلت عن "وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية" معلومات عن عزم موسكو توسيع نفوذها العسكري خارج حدودها، وقالت الصحيفة الأمريكية إن لدى روسيا طموح في التوجه إلى ليبيا بعد سورية.

وحسب الصحيفة الروسية فإن خيار روسيا في ليبيا هو بالطبع قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر الذي زار موسكو سابقاً، فضلاً عن علمه المسبق بروسيا بشكل عام لدراسته فيها ومعرفته لغتها، حيث سرت أنباء عن طلب حفتر من الجانب الروسي بناء قاعدة عسكرية في المناطق الخاضعة لسيطرته شرقي ليبيا، وذلك ما لم يتم التعليق عليه بشكل رسمي، بينما تضاربت روايات وسائل الإعلام بين مؤكد لقبول موسكو ذلك العرض وبين نافٍ له ومؤكد على عدم قبولها.

من جانبه علق رئيس لجنة الدفاع في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور بونداريف، على تلك الأنباء في مقابلة مع وكالة "ريا نوفوستي" قائلاً إن "موسكو ليس لديها نية لبناء قواعد في هذه الدول"، مضيفاً أن موقف روسيا من قضية القواعد العسكرية في الخارج "عقلاني ومتوازن"، دون توضيح مقصده من هذه العبارة، وذلك رغم الدعم العسكري الذي تقدمه روسيا فعلياً للجيش الوطني الليبي الذي يسعى إلى إنهاء حالة تقسيم البلاد وسيطرة التنظيمات المدعومة من الخارج على بعض مناطقها.

ويبدو أن ليبيا باتت تشكل ساحة للتنافس الدولي، وبالتالي فإن روسيا تطمح إلى إيجاد موطئ قدم ثابت لها فيها يمكّنها من العودة للمشهد السياسي الدولي، كفاعل مؤثر، وتوجيه رسالة إلى خصومها من الدول الكبرى، خصوصا الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، بأنها تستعيد دورها العالمي.

ومثل إلتحاق روسيا بالصراع الليبي، دافعا لمخاوف غربية خاصة أميركية من طبيعة الدور والحضور الروسي في ليبيا ومحاولات تأثيره على سير العملية السياسية والعسكرية في البلاد. وكان المبعوث الأممي، غسان سلامة، أشار إلى أن هدف روسيا الأساسي في ليبيا هو العودة إلى السوق الليبية لأنَّها كانت مصدرًا أساسيًّا للسلاح، وتملك هناك عقودًا ببلايين الدولارات، تعطلت منذ عهد معمر القذافي.وأكد سلامة أن العلاقات "غير السوية" بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكيّة تؤثر على الوضع الليبي.

وفي ظل تواصل الإنسداد السياسي منذ 2011 من إنفلات أمني وغياب واضح لمعالم الدولة، بات هذا البلد الغني بالنفط لقمة سائغة للتدخلات الأجنبية، وساحة صراع وتنافس بين القوى الدولية الباحثة عن تدعيم مصالحها، في وقت يأمل فيه الليبيون في إنهاء الإنقسامات وعودة الاستقرار وبناء دولة قوية قادرة على حماية أراضيها والحفاظ على سيادتها في وجه التدخلات الخارجية.