يتناول "لويز مارتينز" الباحث بمركز الأبحاث والدراسات الدولية CERI في ورقة تحليلية له بعنوان “ليبيا من القوات شبه العسكرية إلى الميليشيات: بناء صعب لجهاز الدولة الأمني” البُعد الأمني في بناء الدولة الليبية بعد الإطاحة بالقذافي، إذ اعتبر أن عجز الدولة عن إنشاء جهازي شرطة وجيش وطنيين موحدين معضلة أساسية في تجربة التحول الديمقراطي في ليبيا.

لا تزال ليبيا تعاني من الفوضى الأمنية، في وقت تتجه الأنظار إلى أداء الحكومة الجديدة برئاسة رئيس الوزراء الجديد أحمد أمعيتيق، الذي يعتبرثالث رئيس للوزراء في ليبيا خلال الشهرين الماضيين، بعد تصويت في البرلمان سادته الفوضى.

ويرى محللون أن التصويت الذي أثار الجدل من حوله وانعدام التأييد الواسع لأمعيتيق سيشجعان الجماعات السياسية في ليبيا المنقسمة على معارضته، و خاصة الميليشيات الانفصالية والمجموعات المسيطرة على الموانئ النفطية والتي تعهد رئيس الوزراء المنتخب بمحاربتها.

وسيؤدي هذا إلى تعقيد الجهود الرامية إلى إقناع المعارضين، الذين يسيطرون على مينائين حيويين في شرق البلاد، بفتحهما، وهو ما يجعل من المستبعد أن يعود إنتاج النفط الخام إلى مستوى 1.4 مليون برميل يوميا الذي وصل إليه قبل موجة الاحتجاجات في المنشآت النفطية التي بدأت الصيف الماضي.

و بالعودة إلى بداية الانفلات الأمني يشير الباحث لويز مارتينيز إلى أن المعطيات التي حكمت التصور الأمني في المرحلة التي تلت رحيل القذافي تختلف عن الواقع الآن، فالثوار والأهالي رحبوا بمليشيات القبائل ليس فقط لدورها في الثورة ولكن لأهميتها في حفظ الأمن بعد سقوط القذافي، لكن سرعان ما انعكست المعطيات وتصاعدت أصوات الحكومة الانتقالية المشددة على ضرورة بناء أجهزة أمنية موحدة، بعد تصاعد الغضب الشعبي والسخط المتزايد ضد الفوضى الأمنية التي تسببها الميلشيات المسلحة واستغلالها لنفوذها.

وأكد الباحث أن الحكومات الليبية كانت الطرف الأضعف أمام الميلشيات القبلية، فتلك الأخيرة استطاعت تعطيل مجهودات الحكومة عن طريق سيطرتها على موانئ النفط وتسببها في عجز الموارد، هذا بالإضافة إلى استنادها إلى دعم بعض الأشخاص الذين تحولوا إلى “شركاء سياسيين للميليشيات”.

وبينما يستعرض الباحث الأسباب السابقة، فإنه يؤكد أن الانتفاضة في ليبيا لم تخلق هذا المشهد من العدم، فالطريقة التي أدار بها القذافي الدولة عززت من فكرة مجتمع القبائل، كما قضت على دور الجيش كمؤسسة وطنية مسؤولة عن حماية البلاد، خاصة قراراته التي ألغت وزارة الدفاع عام 1991 وإعلانه حل الجيش في 1995 لصالح ميلشيات شعبية على إثر محاولات انقلابية فاشلة.

الجيش الليبي

لم تعتمد السلطة الليبية على جيش قط، بل على قوات شبه عسكرية، إذ ضمنت هذه القوات بقاء الجماهيرية الليبية سابقا حتى عام 2011، فمنذ عام 1987 بدأت المليشيات الشعبية تفوق الجيش أهمية. إذ كان الجيش قد أصبح كوصمة عار بعد إخفاقه في تشاد وفي مواجهة القصف الأميركي الذي لم ينجح في التصدي له. وقد أدت العقوبات الدولية المفروضة على البلاد، من عام 1991 وحتى عام 2003، إلى انهيار الجيش الليبي الذي حرم من الموارد اللازمة لصيانة معداته العسكرية، وبذلك فقد العناصر الخمسة والأربعون ألفا ما كان قد تبقى لهم من أهمية ومكانة، ومن ثم ألغيت وزارة الدفاع في عام 1991، ولم تتم تعبئة الجيش لمواجهة المعارضة الإسلامية المسلحة بين عامي 93 19 و98 19. وجاءت محاولات الانقلاب العسكري بين عامي 93 19 و 95 19 ليفقد الجيش مكانته نهائيا وذلك لصالح الحرس الثوري والكيانات شبه العسكرية والمدافعة عن النظام.

وتبين الورقة التحليلة أن المليشيات الحالية كانت نتيجة لفلسفة القذافي الثورية، إذ أراد أن تبقى ليبيا في حالة توتر مستمر، فهو كان يؤيد نظرية “الشعب المسلح” لكي تتحول كل مدينة إلى ثكنة يتدرب فيها السكان يوميا، لذلك كان على الجماهيرية أن تبقى على هذا “التوتر” من خلال ما يسمى باللجان الثورية.

وفي عام 1995 ومن أجل تطبيق هذا المبدأ، أعلن القذافي حل الجيش لصالح كتائب شعبية يفترض أن تضمن الدفاع عن الدولة ضد أي شكل من أشكال الاعتداء. وبعد سقوط نظام القذافي في انتفاضة 17 فبرابر 2011 قام عشرات الآلاف من المقاتلين المجتمعين في كتائب على مستوى المدن والأحياء باحتلال أماكن عامة هجرتها قوات الأمن التابعة للنظام السابق، وحظيت المليشيات وقتها بشرعية ثورية بفضل نضالها ضد نظام القذافي، غير أنها بدأت تواجه اعتراضات تدريجية من أصحاب الشرعية السياسية أي الفائزين بانتخابات 7 يوليو 2012. فبالنسبة إلى الممثلين السياسيين لليبيا الانتقالية، يبقى نزع سلاح المليشيات ودمجها في قوات الأمن رهانا أساسيا للمضي قدما في العملية الانتقالية.

سطوة المليشيات

في ليبيا ما بعد القذافي أصبحت إعادة بناء الجهاز الأمني أولوية بالنسبة إلى الحكومة السابقة لرئيس الوزراء السابق علي زيدان، التي أدركت أن تولي المليشيات مسؤولية النظام والأمن لم يعد أمرا محتملا، وهو الأمر نفسه الذي ينظر إليه الليبيون في تجاوزات المليشيات التي أصبحت تزعزع الأمن وترهب السكان، مما يشجع على ارتكاب المزيد من الهجمات وعمليات السرقة والخطف.تتفاوت التقديرات حول أعداد المليشيات، ولكن ثمة 1700 مجموعة على الأقل مجتمعة في300 ميليشيا أسهمت في التمرد، حيث كان عدد حاملي السلاح في ليبيا يقدر بمئة وخمسين ألفا في عام 2012، وقد بلغ 200 ألف إلى 250 ألفا في عام 2013.

والواقع، بعد مرور أكثر من 3 سنوات على سقوط النظام، أن عدد عناصر الجيش والشرطة بدا لا يذكر مقارنة بعناصر الكتائب التي تشكل ميليشيات المجلس الأعلى للأمن وقوات الدرع الليبية، وهم 200 ألف عنصر دون ولاء ثابت، أما الجيش فيضم 6 آلاف عنصر موزعين بين أربع كتائب إحداها من القوات الخاصة والثلاث المتبقية من كتائب المشاة، وثمة 76 ألفا من عناصر المليشيات فضلوا إنشاء شركات أو متاجر مع الاحتفاظ بسلاحهم.

وتبقى الحكومة ضعيفة بشكل لا يسمح لها ببسط سيطرتها، وتتفاوض السلطات بشكل مستمر من أجل البقاء، فهي مهددة من المليشيات، التي تتحكم في البلاد عوضا عن الحكومة، وهذا ما يأكده عدد من الخبراء والجامعيين الليبيين، فيما أصبح البرلمان مقرا لأفراد يمثلون المليشيات.

نزعات انفصالية

يقول المراقبون إن المعضلة في ليبيا تكمن في كون غالبية المواطنين لا يثقون في الحكومات بصفة خاصة وفي المؤسسات السياسية بصفة عامة، كما أنها تكمن في وجود انزلاق نحو نموذج مافيا حقيقية في تنظيم شؤون البلاد، فالمليشيات تنظر إلى الدولة بنفس الريبية التي كانت تميز نظام القذافي، فبالأمس كانت قبيلة القذافي تحتكر موارد ليبيا النفطية، أما اليوم فقد حلت المليشيات المستندة أحيانا إلى بعض القبائل محلها، وأوقفت تصدير المحروقات وقلصت موارد الحكومة لإرغامها على قبول أجنداتها السياسية على غرار مطالب الميلشيات في ما يعرف بإقليم برقة.

ومع صعوبة نشأة أجهزة أمنية قادرة على تأمين الاستقرار في البلاد، تنعكس رغبة مختلف الأطراف المشاركين في الانتفاضة، التي أطاحت بحكم العقيد، من ميليشيات وأحزاب سياسية، في العمل على إنشاء دولة فدرالية غير مركزية، حيث تتطلع عدة مناطق، على غرار برقة والجنوب ومنطقة البربر في جبل نفوسة إلى الحصول على الحكم الذاتي على المستوى الأمني والمالي، ولا سيما في ما يخص التحكم في الموانئ النفطية والحدود. وقد سعت هذه المناطق إلى خنق طرابلس العاصمة اقتصاديا من خلال أزمة تصدير المحروقات عام 2013، مما أرغم الحكومة على الاعتراف بضعفها.

ويقول مارتينز إن الظروف التي سمحت بنجاح تونس حيث تعثرت ليبيا، لا ترتبط بالمستويات الاقتصادية بقدرما ترتبط بمتطلب أولي وهو الوحدة الوطنية، فالمواجهة بين النخب الليبية لا تقود إلى الديمقراطية، كما هو الحال في تونس، لأن الصراع يتعلق بإعادة تشكيل سيادة الدولة على أراضيها، وليس مجرد التوصل إلى قواعد جديدة لإنشاء حكومة ممثلة للشعب.

وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد وصفت مؤخرا الحالة التي تعيشها ليبيا، بأنها لا تزال في حالة فوضى عميقة، حيث تتنافس الميليشيات المختلفة على السلطة السياسية والاقتصادية، وتنفيذ هجمات تعصف بالحكومة الهشة.

وتحدثت الصحيفة عن أجواء التصويت على الدستور الليبي، حيث تم إنشاء جمعية مكلفة بإعادة كتابة الدستور في فبراير الماضي، ولكنها غير كاملة، وقاطعت بعض الأقليات التصويت؛ لتوقعها بإغفال حقوقهم، ووقعت هجمات متفرقة شنها متشددون إسلاميون في الجزء الشرقي من البلاد، ومنعت بعض الليبيين من التصويت، وقالت الصحيفة أن العديد من المنتخبين لم يشاركوا في كتابة الدستور؛ لأنهم ينظرون إلى المؤسسات السياسية بأنها غير فعالة، واصفة الوضع العام للبلاد بالكارثي.

ويخلص لويز مارتينز الباحث بمركز الأبحاث والدراسات الدولية CERI إلى أن وجود الدولة بحد ذاته بات موضوع تساؤل في ليبيا، مع وجود مؤشرات تنذر بازدياد سطوة الميليشيات لصالح نشوء كيان سياسي لا يتجنب السلطات في طرابلس وحسب، بل يتوصل إلى استراتيجيات تمكنه من البقاء ومن النمو خارج الإطار الوطني، مما يهدد تماسك ليبيا الهش، بسبب تزايد النزعات الانفصالية في بعض مدنها.

*'العرب الدولية''