باتت فوضى حمل السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية ثقافة راسخة، حيث تشهد كل يوم تقريباً حوادث إطلاق نار... وقد ارتفعت وتيرة حوادث إطلاق النار هذا العام بشكل ملحوظ، وجديدها إعلان الشرطة الأمريكية الاثنين 04/07/2022 عن مصرع 6 أشخاص وإصابة أكثر من 36 آخرين بجروح متفاوتة، في حادث وقع في طريق أحد مواكب الاحتفال بيوم الاستقلال في ضاحية هايلاند بارك "الراقية" في شيكاغو، بولاية إلينوي. وللإشارة فإنّ إطلاق النار وقع بعد نحو أسبوع من توقيع الرئيس الأمريكي على مشروع قانون مراقبة بيع السلاح، ليشكّل صفعة على وجه المؤسسات السياسية والسياسيين الأميركيين. وعلى إثر هذه الجريمة، أمر الرئيس الأمريكي جو بايدن الثلاثاء 05/07/2022، بتنكيس الأعلام الأمريكية بالبيت الأبيض والقواعد العسكرية حتى يوم السبت، حدادا على ضحايا هجوم إطلاق النار في هايلاند بارك بولاية إلينوي. وقال بايدن إن "الأمة يجب أن تتحد في حداد على الخسائر في الأرواح خلال الاحتفال بعيد ميلاد أمريكا". وأضاف في بيان له: "كدليل على احترام ضحايا أعمال العنف التي لا معنى لها من استخدام السلاح".
قبل الذهاب إلى التحليل، لابد أن نؤكد أنّ الأخبار التي تتداولها وسائل الإعلام عن وقوع حوادث إطلاق نار في الولايات المتحدة لا تعتبر مستغربة أو جديدة، فهي تعتبر من أحد السمات البارزة للمجتمع الأمريكي باعتبار حق حيازة السلاح حرية فردية وميزة للديمقراطية الأمريكية! وبكل أسف فقد تسبّب العنف المسلح بألم شديد لأسر الضحايا، إلا أنه لم يزعج ضمير السياسيين الأمريكيين الذين يتحدثون دائماً عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان. وتمثل الولايات المتحدة 4 في المائة من سكان العالم، لكنها تمتلك أكثر من 400 مليون بندقية، أي نحو 46 في المائة من إجمالي عدد الأسلحة النارية الخاصة في العالم، ويعتبر عنف السلاح مرضاً مزمناً في المجتمع الأمريكي، وهو نتيجة لتدهور الأمن العام، واشتداد الصراعات العرقية، والعنف في تطبيق القانون. فأرقام الضحايا صادمة، لكنها لا تغيّر شيئاً، لأن قوانين ولوائح مراقبة الأسلحة في الولايات المتحدة فضفاضة للغاية، ولا عجب أن يقول الناس إنه من الأسهل شراء سلاح من شراء الغذاء في الولايات المتحدة.
لقد حوّلت عمليات إطلاق النار الجماعية ثقافة السلاح في أمريكا إلى ثقافة قتل، فالمعدل العالمي للجريمة المرتفعة في العالم قيس بـ 7.6 لكل 100000 شخص، وهو الأعلى في فنزويلا، ولكن وبحسب مقال نشرته الـ CNN مؤخراً عن تقرير رسمي لمكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي، فإن معدل جرائم القتل في العام 2020 وصل إلى ما نسبته 6.5 لكل ألف شخص في أميركا، وبلغة الأرقام، كان لدى الولايات المتحدة 390 مليون بندقية متداولة في عام 2018 وفقًا لمسح الأسلحة الصغيرة، فيما يمتلك ثلاثة من كل عشرة بالغين أمريكيين بندقية. وفي محاولة لتسخيف وتسطيح قضية أحداث القتل المتزايدة في أمريكا، وصف منتقدو قوانين السيطرة على انتشار الأسلحة النارية، حوادث إطلاق النار الجماعي بأنها أحد الأعراض وليس المرض، مشيرين إلى أمراض الصحة العقلية باعتبارها السبب الجذري الذي يجب علاجه، لكن الحقيقة الثابتة هي التي أوضحتها "ناشونال ريفيو" إذ قالت: "إن معظم علماء علم الاجتماع ـ في أمريكا ـ قد وجدوا أن قانون منع بيع الأسلحة الفردية، والذي كان جزءاً من قانون التشريع القضائي الذي دعمه الرئيس الأميركي جو بايدن عندما كان سيناتوراً، لم يكن بذي فائدة تذكر على معدل الجريمة في الولايات المتحدة، خلال زمن تطبيقه ما بين العامين 1994- 2004". وهذا معناه أن المشكلة هي في العقلية الإجرامية الأميركية التي تمسك بالسلاح وليس فيه.
وللأسف، فالعلاقة الفريدة التي تجمع الولايات المتحدة بحيازة الأسلحة، سخرها الدستور الأمريكي ذاته حيث انتشرت ثقافة حق الفرد في حيازة سلاح ناري برعاية القانون كإحدى مفرزات الليبرالية الحديثة التي تعطي الفرد حرية منفلتة من أي ضوابط والتي تهدد المجتمع الأمريكي والأسرة ولا سيما في ظل انتشار أعمال العنف والانتحار وجرائم القتل الجماعي. ولا تزال الانقسامات السياسية في أمريكا تشكل مانعا وعارضا أمام أي محاولة لإصلاح وتحديث قوانين الأسلحة. فما  دور الدستور الأمريكي في تسهيل عمليات القتل العشوائية؟ ينص دستور الولايات المتحدة على أنه ''لا يجوز مصادرة حق الناس في اقتناء السلاح وحمله". في الحقيقة لم يوحّد هذا النص نظرة الأمريكيين لقضية السلاح، فاختلفوا في تفسيراتهم له، في انعكاس واضح للصراع حول الحق في حيازة المواطن الأمريكي للسلاح، فريق أراد تقنين هذا الأمر، ومنهم الديمقراطيون، وآخرون يرون أن من حق المواطن اقتناء السلاح وحمله، وفي مقدمة هؤلاء الجمهوريون، الذين يعتبرون أن كل تشريع يضيق على هذا الحق لضرورة ما يعدّ خرقًا للدستور. والمفارقات في هذه القضية أن كلّاً من الجمهوريين والديمقراطيين يستغلون بعد كل حادثة دماء القتلى من أجل سن قوانين حرية شراء السلاح أو منعها، الديمقراطيون يريدون وقف العمل بالبند الثاني من الدستور الذي يكفل هذه الحرية، والجمهوريون يقفون ضده. وهذه القضية اليوم هي من أكبر الحملات التي يروج لها بايدن، لأنه سيكسب بها أصواتاً إذا ما نجح خلال الانتخابات النصفية في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2023، والتي ستقرر مصير الديمقراطيين لست سنوات تليها. ولنفس الأسباب يقاتل الجمهوريون.
إنّ دورة العنف المتصاعد في الولايات المتحدة، والتي يتبادل فيها المجتمع والسلطة الأدوار في ارتكاب الجرائم، تذكر مجدداً بالحالة التي تعيشها الولايات المتحدة في ظل أوهام "الليبرالية الحديثة"، فقد بات واضحاً وجلياً تلك الهوة الشاسعة بين الواقع السيئ الموجود والمستفحل داخل المجتمع الأمريكي، وبين ما تحاول تسويقه وتصديره إلينا أمريكا... وبالتالي فما سبق هو أنموذج واحد لما يعرف بالليبرالية الجديدة وثقافتها ومنهجها وهو النموذج الأمريكي الذي يبدو أكثر انكشافاً ودلالة ووضوحاً، وسوف نأتي لاحقاً على نماذج غربية أخرى تعري الأهداف الحقيقية لكل ما يصدِّره إلينا الغرب الاستعماري تحت شعارات وعناوين خادعة وزائفة باتت غاياتها وأهدافها مكشوفة وواضحة...
كاتب صحافي من المغرب.