هناك قاعدة يعرفها التونسيون، الأسعار في بلادهم تصعد و لا تنزل. قاعدة العرض و الطلب في الأسواق التونسية هي مجرّد إشاعة لا وجود لها على أرض الواقع. لا بضاعة في أسواق تونس ارتفع سعرها ثمّ انحدرت بفضل توفر العرض أو انخفاض الأسعار في الأسواق العالمية. أسعار البترول خير مثال على ذلك، فالأخبار التي تتحدّث عنها كل وسائل الإعلام العالمية، لا أثر لها في برامج الحكومة التونسية بل على العكس من ذلك نجدها تسبح ضد التيار و تقرر الزيادة في أسعار المحروقات في سنة 2015 .

تولت الحكومات التونسية المتعاقبة منذ الاستقلال في منتصف القرن الماضي التراجع عن الأسعار في مرّتين فقط. الأولى كانت في سنة 1984 في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، في ما عرف في ذلك بثورة الخبز، وعندما تراجع بورقيبة عن الزيادة في سعر الخبز ، لكن بعد ثورة اجتماعية ذهب ضحيتها العشرات من الضحايا بين قتلى و جرحى مساجين.

و المرة الثانية التي تم التراجع فيها كانت في آخر أيام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، عندما رغب في تخفيض حدّة التوتر الاجتماعي بالدعوة إلى تخفيض أسعار بعض المواد الأساسية، لكن المحاولة لم تؤت أكلها. فيما عدا هاتين الحالتين، تشهد السوق التونسية تحريرا لأكثر من ثمانين في المائة من السلع و المنتجات، و البقية هي سلع تحدد أسعارها الدولة التونسية و من بينها طبعا أسعار المحروقات.
تراجع
خلال الأشهر الخمسة الماضية تراجع سعر البرميل من 115 دولار للبرميل إلى حدود 55 دولارا خفيف برنت، بمعنى أنه فقد 65 دولارا كاملة في البرميل أي ما يوازي أثر من 50 في المائة من سعره في يونيو الماضي. ويتوقع الخبراء أن يستمر هذا التراجع نتيجة عدّة ظروف وعوامل عالمية تتعلّق بتوفّر العرض بما يفوق الحاجة و دخول الولايات المتحدة رهان المنافسة العالمية بإنتاج يومي يقارب 9 ملايين برميل و هو ما يعني تخفيض حصتها من الواردات العالمية إلى أدنى حدّ، فضلا عن العوامل الاقتصادية التي تتعلق بالركود الاقتصادي العالمي و الذي جعل الاستثمارات تتراجع بشكل واضح. كل هذه العوامل ستجعل الانخفاض في أسعار البترول في الأسواق الدولية تتراجع بشكل ملحوظ ولفترة ليست بقصيرة. وهو ما سيسمح للبلدان غير المنتجة بالحصول على هذه المادة بأسعار مناسبة. كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي قالت إن انخفاض أسعار البترول هو مؤشّر جيد بالنسبة للاقتصاد العالمي و للدول غير المنتجة. فهل تنسحب هذه التحليلات على الواقع التونسي.

لا انخفاض
بحسب الموازنة الجديدة التي ناقشها مجلس نواب الشعب فإنّ الحكومة التونسية اعتمدت مقاربة طاقية بعيدة كل البعد عن الأسعار العالمية للطاقة. فقد بنيت الموازنة على سعر مرجعي تم تحديده ب97 دولارا للبرميل، أي ما يفوق السعر الحالي بنحو 30 دولارا.

وأقرت الموازنة زيادة في أسعار الكهرباء بحسب ما صرّح به كمال بن ناصر وزير الصناعة والطاقة والمناجم أن تتم الزيادة في أسعار الكهرباء والغاز خلال سنة 2015 فى حدود 7 بالمائة وذلك مرة واحدة .وأفاد أن هذه الزيادة تظل رهينة بقاء الأسعار العالمية للغاز فى المستويات الحالية وكذلك أسعار برميل النفط 75 دولار للبرميل حاليا .

ويشار إلى أن سنة 2014 شهدت إجراء تعديل فى أسعار الكهرباء والغاز فى مناسبتين فى حدود 10 بالمائة لكل تعديل الأول فى مطلع العام والثانى فى شهر ماي . وفي ما يتعلق بتعديل أسعار المحروقات قال عضو الحكومة إن مشروع قانون المالية للسنة الجديدة تضمن إجراء تعديل أسعار المحروقات.

وينتظر أن يمكن التعديل حسب مشروع قانون المالية 2015 من التقليص من قيمة الدعم ب150 م د. وأكد الوزير على أن هذا التعديل المدرج يرتبط أساسا بعنصرين إثنين يتصل الأول بسعر برميل النفط ويهم الثاني سعر صرف الدولار. الحكومة التونسية تضع هدفا وهو التخفيض في دعم المحروقات إلى حدود النصف اي التخفيض في كلفة الدعم حاليا و تقدر ب3.8 مليار دينار تونسي إلى حدود 1.8 مليار دينار أي العودة إلى المستويات التي كانت موجودة قبل سنة 2010 .

الحكومة ستجني من هذا الانخفاض أموالا طائلة ستمكنها من دعم الميزانية فكل انخفضا بدولار واحد للبرميل سيعني أن الحكومة ستوفّر 49 مليون دينار وهو ما يعني أن انخفاضا بثلاثين دولارا يساوي توفير 1470 مليون دينار. لكن الحكومة ستجني أموالا أخرى إذا ما تمسكت بالزيادة في أسعار الكهرباء و الغاز و المشتقات البترولية.

فالحكومة تضع ضمن موازناتها إنهاء الدعم كليا عن مصانع الإسمنت و التقليص في نسب الدعم على الكهرباء التي تستفيد منها الوحدات الصناعية في الآجر أو في الصناعات الغذائية أو غيرها من الصناعات الكبرى. وتبرّر الحكومة كل هذه الإجراءات بتراجع الإنتاج المحلي من النفط من 70 ألف برميل يوميا في 2010 إلى 58 ألف برميل في سنة 2013 وهو ما يعني ترفيعا في توريد المشتقات النفطية، كما أن الإتاوة التي تحصل عليها تونس نتيجة مد أنبوب الغاز الطبيعي من الجزائر إلى إيطاليا قد تقلصت في السنوات الأخيرة.

و تبرّر الحكومة استمرارها في ترفيع أسعار المحروقات رغم تراجعها في العالم بانهيار العملة المحلية الدينار التونسي أمام الدولار الأمريكي وهو العملة الرئيسية للتداول في أسواق النفط. فالدولار الواحد يساوي الآن 1.8 دينار تونسي.

وترى الحكومة أنّ السعر الحقيقي للتر البنزين اعتمادا على الأسعار العالمية يبلغ 790،1 د و أنه مدعم ب.14%أي ب250 مليم حيث كان يباع للعموم ب570،1د. قبل أن يتم ترفيعه مجددا ليصبح في حدود 1،670د. ويتوقع أن يقفز السعر في حال تم رفع الدعم نهائيا عن المحروقات إلى 1،9 د. الأمر الذي يمكن أن يجعل الحكومة الجديدة تواجه مشاكل اجتماعية حادّة.

مشاكل
الحكومة تقول إن مراجعة الدعم أصبحت ضرورية من أجل إصلاح الخلل في المالية العمومية، حيث بينت دراسات أنجزتها تونس مع مؤسسات دولية، على غرار البنك الإفريقي للتنمية، أن الفئات الفقيرة لا تستفيد إلا بنسبة 9.2% من نفقات دعم المواد الغذائية، كما لا يستفيد 20% من السكان الأكثر فقرا في البلاد إلا بنسبة 15% من نفقات الدعم المخصصة للمحروقات.

لكن هذه الأرقام لا تقنع الأطراف الاجتماعية و خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل. فالحكومة ترى أن نسبة ضئيلة جدا من المجتمع هي في كل الحالات لا تتجاوز 15 في المائة من التونسيين هي التي تستحق الدعم، فيما لا يستحق 85 في المائة من التونسيين الدعم.

فيما يرى اتحاد الشغل أن أكثر من 80 في المائة من التونسيين باتوا فقراء ويستحقون أن تتحسن أوضاعهم في الوضع الجديد الذي أفرز معادلة سياسية جديدة في البلاد.

الطرف الاجتماعي يعتبر أن الميزانية الجديدة لا تلبي طموحات الطبقة الوسطى التي وقع تفقيرها خلال العقود الماضية. وعبر عن اعتراضه على ما جاءت به حكومة مهدي جمعة من إجراءات غير شعبية.الاتحاد قدّم ثماني ملاحظات على الميزانية الجديدة التي اعتبرها تفتقر لمؤشرات طمأنة التونسيين و المستثمرين.

النقطة الأولى التي أثارتها المركزية النقابية تتعلق بالتّدهور المستمر للميزان التجاري، أما الثانية فتخصّ ضعف تطوّر التّشغيل بما لا يمكّن من مكافحة البطالة خصوصا لدى المتخرجين من الجامعة، كم لاحظ خبراء الاتحاد، اختلالا في التّوازن الجهوي وصعوبات قصوى في تنفيذ المشاريع الكبرى المهيكلة للاقتصاد التّونسي. فيما تتمثل العقبة الكبرى بحسب اتحاد الشغل في قضية التهريب، حيث تطوّر الاقتصاد الموازي والتهريب وتفاقم آثاره السلبية على منظومة الانتاج والاقتصاد المنظّم، وفرض عل الحكومة معالجة النقص في الموارد بخفض الدعم، حيث تخسر تونس سنويا نحو 1.2 مليار دينار نتيجة التهريب و الاقتصاد الموازي. وهو ما يعادل تقريبا نصف قيمة الدعم الذي ترغب الحكومة الحالية في تخفيضه. ويرى خبراء الاتحاد أنّ ميزانيّة الدّولة لسنة 2015 تم ضبطها في حدود 29163 مليون دينار (م د) مسجّلة بذل كزيادة اسمية طفيفة تقدّر ب3,7% وهو سيناريو غير طموح وبالغ في الحذر بالنظر إلى الانعكاس الايجابي لنجاح الانتخابات على مناخ الأعمال حيث لا موجب لمواصلة نفس المنهج التقشفي الذي سارت عليه الميزانيات السابقة.

ويرى الطرف الاجتماعي أنّ ميزانية 2015 ارتكزت على فرضيّات تفتقر إلى الواقعية مثل: سعر صرف الدولار في حدود 1,800 دينار في حين يتوقّع أن يتواصل انزلاق الدينار علما وأنّ كلّ انخفاض في سعر صرف الدينار ب 100 مليم يترتّب عنه كلفة إضافيّة صافية (أي باعتبار المداخيل) ب 300 م د. واعتماد سعر البرميل في معدّل 97 دولار والحال أنه حاليّا دون ذلك بكثير علما وأنّ كل دولار انخفاض يترتّب عنه مداخيل إضافيّة صافية (باعتبار الأعباء) ب 49 م د. ويحذّر الخبراء من أنّ مواصلة نهج الحكومات السابقة من شأنه أن يخلق أزمات اجتماعية حادة.