يلف جسده بحزام ناسف، يدخل إلى المسجد، يهتف الله أكبر، يدعو الله أن يصبره، ثم يفجر نفسه، لقتل أكبر عدد من المصلين؛ مشهد دام شهدته الكويت، يوم الجمعة الماضي، سبقته مشاهد مماثلة في السعودية، وتزامن مع حادثة لإطلاق النار بشكل عشوائي على السياح في مدينة سوسة التونسية أوقع أكثر من ثلاثين قتيلا.

وقبل هذه العمليات بأسابيع أحبطت الشرطة المصرية، بحسب صحيفة العرب، محاولة انتحارية كان منفذها يرمي إلى تفجير سياح في معبد الكرنك بالأقصر، ليقتصر التفجير على تمزيق جسد الانتحاري نفسه وإصابة عدد بمحيط الجريمة فحسب.

عملّيتا الكويت وسوسة ألقتا الضوء، بشكل كبير، على فئة الانتحاريين في صفوف الجماعات المتشدّدة، وأثارت أسئلة كثيرة حول قدرة أيدولوجيا الموت على التأثير لدرجة أن شابا مثل التونسي سيف الدين الرزقي، في العشرينات من العمر، عاش حياته كأغلب أبناء جيله، يحب غناء الراب والرقص المعاصر وكرة القدم، متحصّل على تعليم جامعي، يقبل على حمل كلاشنكوف ويقتل أكثر من 30 شخصا بدم بارد.

مقارنة بالانتحاري التونسي، قد تكون السيرة الذاتية للانتحاري السعودي، الذي فجّر مسجد الإمام الصادق في الكويت مقنعة إلى حدّ ما، في تفسير كيف يمكن لهذا العشريني أن يحمل حزاما ناسفا بين أضلعه ويدخل بيتا من بيوت الله، في شهر رمضان المعظّم، ويقتل 27 شخصا.

لكن سيرة التونسي سيف الرزقي تبدو أكثر إثارة للجدل ومدعاة للبحث والقراءة والتحليل، في شخصية الانتحاري التي يعرّفها الدكتور أحمد هلال، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، بأنها شخصية مركّبة من عدة عقد وأمراض نفسية.

فالانتحاري، وفق هلال، شخص "سيكوباتي" معاد للمجتمع، يسعي لتحقيق مصلحته الشخصية أو مصلحة قادته، حتى وإن كان ثمن ذلك القتل والاغتيالات.

يبحث الانتحاري بسيكوبيته عن مصلحته الشخصية، وهنا يندرج ما يروّج له عن "نعيم الجنة"، ويسعى لها وإن كان ذلك بتفجير جسده والعبور على أجساد الآخرين الذين يستهدفهم، فيهتف الله أكبر وهو يقتل نفسه والعشرات معه.

وفي هذه الخانة يمكن أن تتنزل شخصية منفّذ عملية الكويت، حيث تشير التقارير التي تناقلت سيرة فهد سليمان القباع، أنه يعاني من مشاكل وعقد نفسية منذ صغره، ولوحظ عنه أنه كان غير سوي في فكره، يرفض المخالفين له ويعنّفهم بأشد الكلمات.

وينطبق على فهد البقاع وغيره من الإرهابيين، توصيف أحمد هلال للإرهابي بأنه خليط من الأمراض النفسية، تبدأ بكونه محبطا، يشعر بالفشل في مواجهة منجزات العصر الحديث فيلجأ إلى الماضي، عبر قراءة كتب تقدم تفسيرات خاطئة للدين.

ويسعى للانعزال عن المجتمع، فتلتقطه التنظيمات الدينية. وتغرس في عقله فكرة الدفاع عن الدين. ويشعره "معلّموه" و"مجنّدوه" أنه ذو أهمية، فيتقوقع الإرهابي داخل تنظيمه. ثم يبدأ في تكفير المجتمع والسعي للانتقام، مستغلين عقده المرضية وإيهامه أنه مظلوم لأنه مسلم متمسك بدينه، وأن الحكومات التي يصفونها بالكافرة ومن يعاونها تسعى لهدم الدين واضطهاده. تمهيدا لإقناع الإرهابي بأنه يدافع عن ذاته ودينه بقتاله للمجتمع والأنظمة الحاكمة، فيقتل ويفجر دون أي ندم، فبؤرة العاطفة في عقلة وفق العلماء تقتل ولا تعمل نهائيا.

وقال محمد الرخاوي أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، إن شخصية الإرهابي حتى تتكون تمر بعدة مراحل، تبدأ بالشعور بالضياع وضعف القيمة في المجتمع والشعور بالاضطهاد، ويغذي ذلك، غياب معايير الكفاءة في شغل الوظائف والبطالة، وغياب برامج تطوير الذات في عدد من البلدان العربية، وشعور الأقليات المسلمة بالاضطهاد في بعض البلدان الغربية، وعلى هذه النقاط تعمل التنظيمات التي تجند الشباب.

وأكد الرخاوي أن الإرهابي يصل إلى مرحلة الكفر بواقعه ومجتمعه فيسعى للعزلة، التي تتحول فيما بعد إلى قمقم التنظيم الذي ينتمي إليه ويرى فيه عالمه ومجتمعه، فهو يكفر بالعالم الحديث ونظم إدارة الدولة الحديثة، التي يرى أنها تضطهده وتهدر حقوقه. ومع بلوغ حالة الكفر بالمجتمع يكون على استعداد لإلقاء نفسه في أي تنظيم.

ليس كل انتحاري مريضا نفسيا
يتّفق علماء النفس على أن شخصية المريض النفسي تعتبر أفضل أرضية للمتشدّدين والجماعات الإرهابية، حيث يسهل تطويعهم وغسل أدمغتهم، لكنّهم يؤكّدون أيضا أن ليس كل الإرهابيين مرضى يعانون من اضطرابات نفسية خطيرة.

وهذا ما يرصده قدري حفني أستاذ علم الاجتماع السياسي، حيث قال إن هناك أبحاثا أجريت على منتمين للفكر التكفيري، أكدت أنهم ليسوا مرضى، والكثير منهم حصلوا على درجات علمية ويتمتعون بقدر كاف من الذكاء، ومن بيئات وأسر ثرية، مثل أيمن الظواهري وأسامة بن لادن.

الإرهابي ليس بالضرورة مريضا نفسيا بل يمكن أن يكون شخصا عاديا، لكنه تعرض لأفكار جعلته متطرفا، وفي هذه الخانة يمكن تصنيف سيف الدين الرزقي منفّذ عملية سوسة، الذي فاجأ عائلته وأصدقاءه بتورّطه في هذا الحادث الإرهابي، وسط تساؤلاتهم عن الطريقة التي تم فيها، وفي وقت قياسي، غسل دماغ هذا الشاب.

سواء في حالة السعودي فهد سليمان البقاع أو في حالة التونسي، سيف الدين الرزقي، ويضاف لهما التونسي ياسين الصالحي، المشتبه به في تنفيذ الاعتداء الإرهابي على مصنع بفرنسا، وهو أب لثلاثة أطفال تؤكد زوجته أنه لم تظهر عليه أي علامات التشدّد، يؤكّد قدري حنفي أن التعامل معهم، يجب أن يكون بمواجهات فكرية، لتصحيح انحرافهم الفكري ودفعهم للعودة للوسطية، وبالطبع هذا لا يعني وقف المواجهات الأمنية، بل يجب أن يكون التعامل وفق استراتيجية مواجهة "رصاصة برصاصة وفكرة في مواجهة فكرة".

ورغم اختلافهم في نقاط كثيرة إلا أن الانتحاريين، فهد البقاع وسيف الدين الرزقي، يتقاسمان سمات مشتركة، لعلّ من أبرزها أنهما غير معروفين لدى الأجهزة الأمنية ولم يتمّ من قبل تسجيل أي ملاحظة بشأنهما، أيضا وكما يشير جون هورجان، وهو من أبرز علماء علم النفس السياسي المتخصصين في دراسة ظواهر الإرهاب والعنف السياسي، في أحد أبحاثه، إلى أن الانضمام إلى الشبكات الإرهابية، يتأثر بالظروف المحيطة بالفرد أكثر من تأثره بملامح شخصيته، وتبدو أن الظروف المحيطة بالبقاع والرزقي سببا رئيسا في تجنيدهما، وإن كانت البيئتان مختلفتين من حيث أسلوب العيش.

وتبرّؤ عائلاتي الإرهابيين من ابنيهما لا ينفي عنهما المسؤولية، حيث يحمّل علماء الاجتماع الأهل، وإن استنكروا العمل الإرهابي، مسؤولية سقوط أبنائهم في براثن مافيا تجنيد الجهاديين، عبر غياب المراقبة وتعاملهم بسلبية مع أي تغيير، ولو بسيط، يطرأ على ابنهم.

وكانت عائلة فهد البقاع أصدرت بيانا استنكرت فيه الجرم الذي ارتكبه ابنها وتبرّأت منه، ودعت إلى معاقبة كلّ من له دور في تحريض الشباب على تبنّي هذا الفكر الشاذ.

بدوره قال حكيم الرزقي، والد منفذ عملية سوسة، إنه يشعر بالخجل بما قام به ابنه، ولا يعرف من زرع هذه الأفكار في عقله. لكنه أوضح أنه لم يكن يلتقي به كثيرا، لأنه كان يقضي معظم الوقت في مدينة القيروان حيث يدرس في الجامعة.

ويذكر أن مدينة القيروان، عاصمة الأغالبة المعروفة باعتدالها وانفتاحها وتسامحها، والتي شهدت منذ 2011 ظاهرة دخيلة عنها تمثّلت في توسع نفوذ المتشددين وسيطرتهم على منابر عدد من المساجد هناك.

مواجهة الإرهاب فكرية بالأساس
يؤكد نبيل نعيم أحد قادة تنظيم الجهاد سابقا، أن التنظيمات التكفيرية تعمل وفق مبدأ مقتنعين به يسمى "نكاية في العدو"، وهذه التنظيمات الإرهابية، تكفر المجتمعات، فكل من هو رافض لفكرهم، كافر وعدو لهم.

وأضاف نعيم "من يسع لتنفيذ العملية الانتحارية يكون قد أقنعوه بأنه يتقرب بهذا العمل إلى الله، وأنه يفجر نفسه ليس لينتحر، بل لأنها الوسيلة المتاحة أمامهم، للوصول إلى هدفهم بإيقاع أكبر عدد من القتلى ممن يصفونهم بالأعداء الكفرة والمرتدين، للانتقام من العدو، مشيرا إلى أن قيادات تلك التنظيمات غالبيتهم عملاء لجهات أجنبية، وقواعد التنظيمات جهلاء ومخدوعون ويتم استخدامهم تحت شعارات الجهاد، بفهمهم المنحرف للدين.

ويرى نعيم أن مواجهة الإرهاب يجب أن تأتي عبر خبراء بشؤون تلك التنظيمات، وعلماء دين، يهدمون الآراء الفقهية التي يؤصل عليها قادة الجماعات فتاواهم، لتضليل الشباب، فتجنيد الشباب يتم عبر تأصيل شرعي يتسم بالمنطقية وحجة الإقناع رغم أنه فهم فاسد للدين، لذلك فإن محاربته لابد أن تأتي من هدم تلك الأفكار، بأدلة شرعية تتسم أيضا بالمنطقية وقوة الإقناع.