مأزق الإسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، أنه وجد نفسه في صدام مع فكرة الدولة الوطنية، يؤمن بشموليّة الدين بما هو "دين ودولة، وسيف وقرآن. والوطنية حدودها أرض الإسلام والقومية تحدها تعاليم الإسلام"، كما ورد في رسائل مؤسس الجماعة حسن البنا العشرين، حيث يرى أن الوطنية فكرة غير حسنة، وهي وهم خاطئ وخطر على الشعوب الشرقية، فالإخوان بما هم العنوان الأبرز في خارطة الإسلاميين يعتبرون أن الوطنية تتحدد بالعقيدة بما يعني تغييب عنصري الأرض والجغرافيا اللذيْن حددتهما المفاهيم السياسية الحديثة.

في رسائل حسن البنا، يظهر الخلاف في علاقة بمفهوم الدولة، حيث يقول إن "وجه الخلاف بيننا وبينهم (أنصار الدولة القطرية)، هو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية، والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول "لا إله إلا الله محمد رسول الله» وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه، والإخلاص له، والجهاد فى سبيل خيره، ودعاة الوطنية ليسوا كذلك فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض".

من هذا المنطلق نفهم أن مرجعيات الإخوان المسلمين تبنت خلال لحظات التأسيس، فكرة التمرّد على مفهوم الدولة بما هي حدود وقوانين ودساتير، إلى مفهوم آخر هلامي يتم فيه إقحام الدين في إطار عملية التأثير على مجتمعات لم تبلغ وقتها، وحتى وقتنا الحالي، وعيا يمكنها من استيعاب الواقع السياسي الذي تأسست فيه الدولة الوطنيّة والتي أصبحت منذ بداية القرن الماضي نوعا من الهوية الجديدة التي خلقتها ظروف التشكل التدريجي للدولة وأيضا ظروف الاستعمار التي بدورها ساهمت في ذلك الدور من التشكل في إطار عملية التقسيم التي شهدتها المنطقة العربيّة تحديدا. تلك الفكرة في زمنها قد تُفهم على أنها محاولة استرداد فكرة الخلافة التي سقطت قبل عقد من الزمن في ظروف انهيار على كل المستويات، لكنه استرداد بصيغ جديدة تراعي التحولات التي عاشتها المنطقة.

الدولة وفق الرؤية الإخوانية، هي الدولة الاسلامية التي تقود إلى الجنّة، بما يعني أن الأقطار الحالية عندهم ما هي إلا كيانات بها مسلمون كلهم مرتبطون ببعضهم وملزمون بالانضباط لرأي المرشد العام الذي يتلقى في ذلك بيْعة الولاء من كل الفروع وهي فروع تأخذ الإسلام من جميع نواحيه ساعيةً لتطبيقه في واقع الناس، وإقامة دولةٍ على مبادئه وتشريعاته. وعلى الرغم من تصديرهم لمواقف ليّنة حول الارتباط بالدولة القطرية بما هي فضاء حياتهم وتحرّكهم، إلا أن هذا الارتباط لا يكون بالضرورة منضبطا لقوانينها إذا كانت لا تتوافق مع رؤاهم، بل أكثر من ذلك، هناك محاولة بعض الفروع تعديل مواقفها في علاقة بما هو محلّي، لكن يبقى التعامل معها بنوع من التقيّة التي ترى أنه يجب قبول الواقع المفروض على الجماعة فرضا مع الإيمان بأن فرض الدولة الدينية ما هو إلا مسألة وقت.

دائما عندما يكون هناك حديث عن الإخوان المسلمين، يكون هناك حديث عن الخارج بما هو ارتباط منذ لحظة التأسيس. فالتنظيم العالمي بما هو أحد أهم التركيبات السياسية وأكثرها انضباطا تنظيميا في المنطقة العربية، كان يرتمي في أحضان القوى الأكثر تأثيرا في العالم، وخاصة بريطانيا التي تأسس التنظيم في مصر تحت رعايتها في إطار خطط مازالت تثير الجدل إلى اليوم. ففي شهادات صحفية في أغسطس 2016، عن العلاقة الجماعة ببريطانيا، قال القيادي الإخواني السابق طارق أبو السعد إن "العلاقة بين لندن والإخوان المسلمين هي علاقة وثيقة وقديمة من قدم المؤسس نفسه حسن البنا الذي كانت تلحقه دائما شبهة ارتباط بالمخابرات البريطانية رغم نفيه لذلك. وأضاف أن البنا اعترف بنفسه في كتابه "مذكرات الدعوة والداعية" بحصوله خلال لحظة التأسيس "على دعم مالي من هيئة قناة السويس المملوكة للحكومتين الفرنسية والبريطانية بلغ خمسمائة جنيه مصري كمساهمة في بناء مسجد الإخوان بمدينة الإسماعيلية".

وفي مقال موسّع بموقع "المرجع" الصادر عن مركز "سيمو –باريس" حول العلاقات البرطانية بالأصوليين، قال الكاتب المتخصص في قضايا الإرهاب حامد المسلّمي إنها تواصلت بين الطرفين أثناء الحرب العالمية الثانية   حيث كان الانجليز يموّلون جماعة الإخوان وبعض الروابط والجماعات الإسلامية الآخرى لمساندتها". وفي نفس المقال ذكر المسلمي من خلال وثائق بريطانية رفعت عنها السريّة، "في 18 مايو 1942 عقد اجتماع في السفارة البريطانية مع أمين عثمان باشا رئيس وزراء مصر ونوقشت العلاقة مع الإخوان وفيه اتفقا على أن تتولى الحكومة المصرية سرًا دعم الإخوان وأنها ستحتاج في هذا الدعم البريطاني".

لم يكن ارتباط التنظيم العالمي للإخوان بالخارج منحصرا في بواكير التأسيس، بل اقترنت كل الفترات بقوى خارجيّة، كانت في حكم المستقبل لهم، في إطار العداوة مع أنظمة الدول التي يعيشون فيها، وهو صراع تاريخي معروف سببه إصرار التنظيم على التشويش على كل حقبة لا يجدون لهم فيها مكانا في الحكم، وهذا كان منذ الصراع مع النظام الناصري في مصر في خمسينات وستينات القرن الماضي حين اختار الإخوان التنسيق مع الانجليز الذين يرون في قائد ثورة يوليو عدوا مهددا لمصالحهم في مصر والمنطقة.

تواصل ارتباط الإخوان بالخارج خلال العقود الماضية، وكانت بعض الدول حاضنة رئيسية، وحامية لهم من الأنظمة التي اختلفوا معها. فكانت تلك الدول أكثر من ملاجئ حيث تحصلوا على جنسياتها وكونوا فيها ثرواتهم، وأسسوا مراكز بحوث خاصة بهم. بل الأكثر شكلوا مكاتب أقرب إلى منصّات لقصف دولهم إعلاميا ثم في مرحلة لاحقة حتى المساعدة في نشر الفوضى مثلما حصل بداية العشرية الأخيرة في ليبيا، حيث كانت بعض الدول قواعد قصف إعلامي وحتى عسكري إلى لحظة إسقاط النظام استنادا إلى فتاوى من شيوخ الجماعة وعلى رأسهم علي الصلاّبي ويوسف القرضاوي.

أهم المواقف الصادرة عن إخوان ليبيا في بداية حرب فبراير 2011، كانت من القيادي علي الصلابي. الرجل الذي تأرجح في مواقفه من نظام القذّافي بين عداء والتأييد حسب تعاقب الفترات، انخرط في تلك الأحداث إلى أن أصبح بوقا صريحا لدولة قطر ومتحدثا رسميّا باسم مواقفها من نظام القذافي حيث أصدر في تلك الأحداث فتوى الخروج عن الحاكم، معتبرا أنه أصبح وليا غير شرعي، وتحولت ليبيا في رأيه إلى "كيان غير شرعي يجوز الخروج عليه بقوة السلاح". وهي فتاوى مستندة إلى تصريحات الدّاعية الإخواني القطري من أصول مصرية يوسف القرضاوي، حينما برر التدخّل الغربي في ليبيا وإسقاط نظامها وإدخالها في حالة من الفوضى.

ولم يتوقف إخوان ليبيا عند لحظة 2011، بل قوت شوكتهم بعد ذلك بفضل الدعم الكبير من الحليفين الرئيسيين تركيا وقطر اللتين كانتا مزارين دائمين لكل إخواني ليبي، يتلقى منهما المال والسلاح، آخرها في معركة طرابلس الأخيرة ضد الجيش الليبي التي يرون إنها حاسمة في وجودهم في ليبيا، حيث يُعتبر الإخوان قوة الإسناد الرئيسية لحكومة السراج في طرابلس ومن خلالهم يتم التنسيق مع أنقرة في استقبال السلاح ومع الدوحة في علاقة بالمال، وإلى اليوم تتهمهما أطراف كثيرة ببث الفوضى في ليبيا وتحملهما المسؤولية الكاملة عن دعم المليشيات المسلحة والمجموعات الإرهابية.