فسر البعض التعاطي الجزائري مع الازمة الليبية في الشهور الأخيرة بالانحياز الى المعسكر الإسلامي و كان ذلك غريبا بالنظر الى تاريخ العداء بين الدولة الجزائرية و الجماعات الإسلام السياسي بشقيها الجهادي و الاخواني ، و الجميع يعلم كيف تحولت الجزائر الى مسرح دامي للعمل الجهادي المسلح في أعقاب انتخابات العام 1992 و ما خلفته عشرية الدماء في التسعينات من مأسي و عذابات طالت مختلف مكونات الشعب الجزائري في سيناريو مشابه لما يحصل اليوم في ليبيا.

في هذا السياق، يقدم الكاتب الأمريكي ، جيوف د. بورتر في مقالة نشرتها مجلة "فورين أفيرز" المتخصصة تفسيرات سياسية و جيواستراتيجية و تاريخية للموقف الجزائري الأخير و الذي رفض الانحياز الى الحكومة الشرعية و البرلمان في طبرق و فضل البقاء على الحياد، بل استقبل قيادات جهادية على أرضه لبحث حل سلمي للأزمة.

البديل الجزائري

يبدو أن فوضى الربيع العربي قد تخطت بلدًا واحدًا: الجزائر. انهارت، إلى شرقها، ليبيا في حرب أهلية، وعانت تونس من صعود للإرهاب الذي وضع الانتقال الديمقراطي والتعافي الاقتصادي فيها في موضع الخطر. وتتماسك، إلى جنوبها، مالي ولكن بالكاد، بفضل القوة الفرنسية المحافظة على الاستقرار. لكن بقيت الجزائر، طوال الوقت، حائط صدٍّ يُعتمد عليه - وإن كانت ملغزة نوعًا ما.إنّ الجزائر، بأشكال كثيرة، ديمقراطية روتينية. فقد أقامت عدّة انتخابات قيّمها مراقبون دوليون على أنها حرّة ونزيهة، كما تساندها وفرة في الأحزاب السياسية، وبها صحافة حرّة، وحركة عمالية نشطة ومشتبكة، ووزاراتها ممتلئة بالعاملين المتمكنين وبيروقراطيتها تدفع باتجاه تطبيق البرتوكولات. وكما قالت جوان بولاشيك، السفيرة الأمريكية في الجزائر، مؤخرًا "الحياة هناك طبيعية حقًا. الناس يخرجون للتسوق والمطاعم". حتى التلفزيون الفرنسي ركّز على هذا الشعور. تركًز سلسلة ستعرض قريبًا على عدد من الجزائرين الذين يعيشون حيوات غير مميّزة بشكل كبير: امرأة تمارس الغوص؛ طباخ مهووس بالطزاجة؛ دليل لرحلات الطبيعة يقود فتيات الكشافة تحت لافتة "لا مستقبل بدون طبيعة!".

لكن الجزائر مختلفة كثيرًا عن الدول الأخرى. مبدأيًا، تشعر بالغيرة من الاعتيادية التي تأخذها الكثير من الدول الأخرى كأمر مسلّم به. وجذور هذا الأمر في الصدمة الحديثة: قلبت الجزائر، خلال التسعينيات، بواسطة تمرد إسلامي. كان كل الناس في البلد متأثرين بشكل ما بالعنف البشع وغير المميز أو كانوا يعرفون شخصًا آخر في هذا الموقف. اختفت الحياة العامة وكذلك دور السينما والمقاهي وحتى إشارات المرور بما أن السيارات المتوقفة في التقاطعات أصبحت أهدافًا ممتازة للمسلحين. وبينما عادت هذه المظاهر ومظاهر أخرى إلى طبيعتها، ورحّب بها الجزائريون، لكن ليس بدون بعض التردد - لربما تنسى البلاد ما مرّت به خلال العقد المظلم.بالنسبة إلى لجزائرين فإنّ الملل هدية قيمة يجب حمايتها. وهذا يفسّر لماذا يعبّر الجزائريون العاديون على قلّة الاهتمام بالربيع العربي. إلا أن بعض المراقبين يعزون ذلك الكمون إلى القبضة الثقيلة للدولة والتي أحبطت حماسهم للتمرد. الأسباب الحقيقية تقع في مكان آخر: الجزائريون خائفون من الفوضى. إنهم يتمنون الخير لجيرانهم وقد حذروهم من أن الطريق الممتد أمامهم لن يكون سهلًا. ثم شقّت الجزائر طريقها الخاص.

 

الأحذية على الأرض؟

حتى بينما تستمتع الجزائر بالاستقرار فإنها مستمرة في الصراع مع ماضيها - والصراع يتبدّى في الحاضر الذي كثيرًا ما يكون متناقضًا. صناعة السياسة الجزائرية معتمة لدرجة أنها ملغزة. لم تحقق القيادة السياسية النقلة من جبهة التحرير الوطنية السرية في الخمسينيات إلى أن تكون منظمة مفتوحة تدير دولة حديثة بمجلسي تشريع ونظام سياسي تعددي. يعرف القليل جدًا من الجزائرين كيف تصنع القرارات السياسية. بدلًا عن ذلك، تبدو السياسات وكأنها تموجات على الماء بعد أن تضربها بحجر على السطح - باستثناء أن الحجر والرامي لا يُشاهدان.في غياب الأدلّة الحاسمة، اعتاد المحللون أن يصفوا عصبة غامضة تدير الجزائر - وكثيرًا ما يطلقون عليها لفظة "القوة" - عضويتها غير محسومة وقوتها لا رقيب عليها. لكن عندما يتم الضغط في هذه النظريات حول من هم "القوة" فعليًا وما الذي يقدرون عليه ينهار المفهوم إلى تكهنات.

كما أن الجزائر شرسة في استقلالها. ربما كتعبير عن التزامها الراسخ بالحياد - ترأس الجزائر حاليًا الحركة الدولية لعدم الانحياز - فإن البلد يتفادى تبادل الخدمات الشائع جدًا في الدبلوماسية. وهو يتفادى الدخول في اتفاقات وعلاقات تستوجب عليها التبادل وتحدّ من اختيارته في المتسقبل. ومع أن الجزائر ليست متعالية تمامًا عن الساحة الدولية، إلا أنها تمدّ يدها بتردد وكثيرًا ما تتجاوز عن مكاسب مباشرة كي تخفف من المخاطرات طويلة الأمد.إن المزيج بين الصفتين المحددتان للسياسة الجزائرية - ارتباط عميق بالاعتيادية وعملية صنع قرار سياسي مبهمة - تصبح أكثر تقلبًا كلما ازدادت المخاطر على حدودها. لقد تسببت تلك التطورات في مواقف دبلوماسية كثيرًا ما كانت متناقضة. ومع أن الجزائر تبقى ملتزمة بحماية الاستقرار الذي توصّلت إليه داخل حدودها بأي ثمن، فإن توجهها بخصوص الأزمات الخارجية يجعلها تتقيح وتصبح أكثر إشكالًا بالنسبة إلى لجزائر في المستقبل.

إن الجزائر، من ناحية، لا تحث الدول الأخرى على عدم استخدام العنف خاصّة عبر الحدود، وقد استخدمت الجيش القوي في الداخل بأريحية. أنهى الجيش الجزائري، في العام 2013، سريعًا، المواجهة مع الإرهابيين في منشأة إن أمناس للغاز وحرروا أكثر من 700 رهينة بما في ذلك 100 أجنبي. نشرت الحكومة أيضًا القوات البرية لمحو المنظمة الإرهابية جند الخليفة، والتي دخلت في تحالف مع الدولة الإسلامية (المسمّاة أيضًا داعش). أعلنت المنظمة الإرهابية عن نفسها، في سبتمبر 2014، وبحلول ديسمبر كان الجيش قد قضى عليها وقتل قيادتها الأساسية.لكن بدلًا من اتباع أسلوب مماثل مع التهديدات المتطرفة في أماكن أخرى، دعمت الجزائر ما يبدو كثيرًا على أنه ديبلوماسية المكافآت مع فرص غير مضمونة مطلقًا في النجاح. كانت هذه هي استراتيجيتها في مواجهة الأزمات الحاصلة في مالي وليبيا. قادت الجزائر، في الحالتين، المفاوضات التي استهدفت ضم أكبر عدد ممكن من المعنيين ومن والآراء المختلفة مما يهدد بنقاشات لانهائية لا تغير شيئًا على الأرض - ما بالك بمجابهة الحالات التي تسببت في الأزمة في البداية.

في مالي، على سبيل المثال، بادرت الجزائر بالدعوة لمحادثات من أجل تسوية الصراع بين الحكومة والمجموعات الانفصالية والمليشيات المؤيّدة للحكومة في يناير 2014. لقد جمع الحوار ثمانية أطرف على الأقل (بما في ذلك "متمردون" و"الحركة الوطنية لتحرير أزواد" وتنسيقية قوات وحركات المقاومة الوطنية)، أربع حكومات (بركينا فاسو وتشاد وموريتانيا والنيجر) وخمس منظمات متعددة الأطراف. ومع أن المحادثات لم تحقق غير تقدم لامتساو عبر 14 شهرًا، فإن الجزائر تبقى ملتزمة بإبقاء المحادثات طافية.بالمثل، في ليبيا، ساندت الجزائر المحادثات متعددة الأطراف التي تضمنت مسؤولين من نظام القذافي القديم والمجموعة الإسلامية المحاربة (منظمة إرهابية تم استيعابها أخيرًا داخل القاعدة) بالإضافة إلى تسع دول أخرى. لم تحد الجزائر أي مشاركة سوى من المنظمات الإرهابية التي تراها الأمم المتحدة كذلك. إن آخر دورة من المفاوضات بدأت في الجزائر العاصمة هذا الأسبوع تحت رقابة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. لقد أصبحت لهجتهم يائسة ربما في انعكاس للبطء المميت للمحادثات وتوسل ممثل الأمم المتحدة الخاص أنه "لا يجب أن يقتل المزيد من الليبيين". إلا أن الجزائرين مستمرون في دعمهم الراسخ لهذه العملية.

وتبرر الحكومة الجزائرية هذا التوجه بأن هذا النوع من العملية الشاملة فقط يمكن أن يأتي بسلام مستقر. كما أنها تشير إلى أسباب أيديولوجية لرفض استخدام جيشها خارج البلاد محافظة على التزامه بالحقوق التي يستتبعها استقلال الدول الأخرى. وينتقد المتشككون مثل هذه التفسيرات على أنها قناع لجبن ومحاولة للحفاظ على استعلاء أخلاقي. لكن يتمسك الجزائريون بهذا الخطاب بفخر ولا يرون تناقضًا في آراء حكومتهم حول استخدام العنف. من وجهة النظر العملية مع ذلك، إأن موقفهم يزداد صعوبة في الدفاع عنه كل يوم: إذا كان استخدام العنف فعال بهذا الشكل داخليًا، فلما لا يتم أخذه في الاعتبار خارجيًا، خاصّة عندما تكون أكبر تهديدات الجزائر تأتي من خارج حدودها؟

إن طرح مثل هذه الأسئلة داخليَا يبقى مستحيلًا تقريبًا. هناك مساحة محدودة للمناقشة مع صناع القرار السياسي. لا تجلس الأحزاب السياسية في الحكم مع المعارضة أبدًا لمناقشة مسارات المستقبل والمفاوضات التي تحصل فعلًا تكاد دائمًا ما تتضمن نفس الأطراف: مكتب رئيس الوزراء والعمالة المنظمة وروابط أصحاب الأعمال. حتى في ذلك الوقت، فإن القرارات النهائية تصنعها في النهاية مجموعة ضئيلة وعادة غير معروفة. بالتأكيد هناك أعضاء في المعارضة ناشطون ويتحدثون بشكل متكرر عن انتقاداتهم للحكومة - لكن مجهوداتهم لم تؤد إلى تغيير حقيقي.ستكون الشهور القادمة الاختبار الحقيقي الأول للاختيارات الاستراتيجية للجزائر حتى الآن. فإنها لم تواجه أبدًا مثل هذه التهديدات المباشرة لحدودها. إن حد صراع مالي ينذر بوضوح بأنه على وشك الانتقال إلى الجزائر. الوضع مماثل بالنسبة إلى المستنقع الخطر في ليبيا حيث يتجرأ المسلحون الإسلاميين أكثر يومًا بعد آخر. في الوقت الحالي، تبدو الجزائر مصممة على الالتصاق بتوجهها المعتاد دافعة نحو الحلول السياسية للأزمات الخارجية. بينما تحشد الأمن الداخلي من أجل حماية نفسها إن فشلت تلك الحلول في التحقق. المشكلة في هذه الاستراتيجية هو أنها تتطلب الكثير من الجزائريين العاديين الذين ليس عليهم سوى أن يأملوا في أن هذه هي الطريقة الأفضل لحماية الاعتيادية التي يحرصوا عليها كثيرًا.