عندما صدح زعيم المقاومة الليبية أيام الاستعمار الإيطالي عمر المختار لحظة إعدامه أمام جميع من حضروا، بأن عمره سيكون أطول من عمر قاتليه، كان يدرك أن الكلمات يمكن أن تكون خالدة كخلود ما جاء في الكتب المقدّسة والفلسفات القديمة. وبعيدا عن صدقية الكلمة الشهيرة ورغبة الفيلم الشهر في ترك رمزية للبطل الليبي، لكن هناك حقيقة شبه ثابتة أن الضحية المظلوم عادة ما يسعفه الزمن بتخليد نفسه أمام ظالمه سواء كان ميتا أو حيا يرزق، وفي كل فترة سيكون من ظَلم أمام حساب الضمير كما حساب التاريخ والأمثلة في هذا السياق عديدة.

الهدف من هذا الكلام ليس مقارنة عمر المختار بغيره ولا الأحداث التي عاشها بأخرى حدثت وتحدث الآن، لكن ما حصل لرئيس الوزراء الليبي الأسبق البغدادي المحمودي بعد أحداث 2011، واعتقاله في تونس، ربما فيه بعض الشبه بحادثة ضحية أمام ظالم استقوى بظروف كانت تسايره في ذلك الوقت، ليكون الرجل أمام المجهول وبين أيدي مجموعات لا تعترف بقانون أو إجراءات ضامنة لحق الدفاع ومليئة بعدائية كبيرة تجاه كل ما له ارتباط بنظام العقيد معمر القذافي حتى ولو كان موظفا بسيطا أو مسؤولا تقلّد منصبا خدم فيه بلده بما يمكنه أن يخدمه، لأن تلك الفترة كانت تصفية الحساب فيها على مجرّد الشبهة، وتلك كانت الخطيئة القاتلة لما وقع في ليبيا بعد ذلك.

والحديث عن البغدادي المحمودي فرضته التطورات الأخيرة بعد أن قرر الرجل رفع قضية ضدّ تونس أمام المحاكم التونسية والدولية. وقد ذكرت مجلة “جون أفريك” الفرنسية قبل أكثر من شهر أن رئيس الحكومة الليبية الأسبق البغدادي المحمودي يستعد لتقديم شكوى بعد أن سلمته السلطات التونسية بقيادة حركة النهضة الإسلامية إلى ليبيا في 2012 حيث قضى 8 سنوات في السجن، في تصرف مازال يثير الجدل إلى اليوم بالنظر إلى خطورة القرار وقتها والذي فتح صراعات خفية وظاهرة حتى عند الأطراف التي سلمته والتي أصبحت تتقاذف الاتهامات بعد اكتشاف "الجرم" الذي ارتكبته في حق رجل لا يملك في ذلك الوقت إلا الأعين التي يتضرّع بها إلى الله أن يفتح له باب نجاة من مجموعات تنتظر تصفية الحساب معه بفارغ الصبر.

وسواء في تونس أو في ليبيا، كلما ذكرت قصة تسليم البغدادي المحمودي، إلا وذكرت معها حركة النهضة، رغم أن وثيقة التوقيع كانت بحسب بعض المصادر في فترة رئيس الحكومة الانتقالي الباجي قايد السبسي الذي سير البلاد بعد إسقاط نظام زين العابدين بن علي. لكن الحزب الإسلامي القادم وقتها من المنافي والبعيد عن الدولة ونواميسها وطرق تسييرها وجد نفسه فجأة في الحكم لتبدأ بعدها الزلات والخطايا الكثيرة سواء داخليا أو خارجيا والتي ستكون نتائجها وخيمة على البلاد في مناح كثيرة أخطرها أمنيا بصعود خطاب التطرف ووقوع جرائم إرهابية ودخول البلاد في نفق من المشاكل لا نهاية إلى اليوم.

في ذلك الوقت مازال حماس الحزب التونسي يعيده إلى شعارات قديمة تهييجية للناس اعتقادا أن زمن الحكم الإسلامي قد حل وأن الخلافة بضع خطوات عن العودة. وبمقابل ذلك كانت مجموعات "شقيقة" في ليبيا تمارس هواية الفوضى ولم تتعب كثيرا في إغراء نظيرتها في تونس بملايين الدولارات لتسليم المحمودي وهو ما تم دون أدنى حرج ولا تأنيب ضمير. الواقع أن النهضة وقتها تحمل ضده من الحقد الذي لا يقل عن الحقد الذي كان ينتظره في ليبيا، وعلى ذلك كانت عملية تسليمه أشبه بحالة انتشاء تجاه عدو وجب الانتقاء منه.

وإذا بدأ الرجل إجراءاته خارجا بالنظر إلى اختياره مغادرة البلاد في هذا الظرف والعيش بعيد عنها، فإن القضاء التونسي أيضا بدأ تحقيقاته مع مجموعة كبيرة من المسؤولين التونسيين ذوي العلاقة بقضية تسليم المحمودي بينهم قيادات نهضاوية أو مقربين من الحركة لمعرفة ملابسات الحدث في تلك الفترة الزمنية. ففي تطور لافت انطلق قلم التحقيق الأول بالمكتب 21 بالمحكمة الابتدائية بتونس أعماله، عبر توجيه استدعاءات لعدد من المسؤولين في تلك الفترة لسماعهم كشهود في قضية الحال التي أثارت جدلا واسعا وعادت إلى الساحة من جديد، بحسب ما نقلت جريدة الشارع المغاربي في عدد يوم 4 فبراير الماضي. المصدر ذاته ذكر أن الأسماء شملت وزير العدل الأسبق والموضوع حاليا رهن الإقامة الجبرية ورئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي أحد أبرز الوجوه النهضاوية التي استقالت بعد ذلك. بالإضافة إلى أن المحامي التونسي والنائب في البرلمان المعلق مبروك كرشيد ذكر أن القيادي النهضاوي المثير للجدل سيد الفرجاني بدوره جزء من قضية التسليم التي تمت عبر عملية بيع والأدلة على ذلك موجودة حسب كرشسيد.

تعود قضية البغدادي المحمودي إلى الواجهة مرة أخرى في تونس، ويعود معها الحديث عن مسؤولية حركة النهضة في كل ما حصل. وإذا أسعفت الظروف الحركة على النجاة من المساءلة خلال السنوات الماضية، فإن إزاحتها من الحكم بعد 25 يوليو الماضي و"انكسار شوكتها" وانطلاق القضاء في البحث مجددا في الملف كلها مؤشرات تشير إلى أن مسؤولين كبارا في الدولة والحزب قد يكونون على أمام حتمية المحاسبة القانونية التي يرى كثيرون أنها تأخرت كثيرا.