الكاتبة الروائية والإعلامية  ســلوى الجــراح

انتهيت اليوم من قراءة متاهات برهان شاوي الأربع متاهة آدم ، متاهة حواء، متاهة قابيل، ومتاهة الاشباح، التي تشكل بمجموعها ما يقارب الألفي صفحة. 
يلاحق برهان شاوي الشاعر والفيلسوف والسينمائي القارئ بشخصيات كثيرة من الأوادم والحواءات وبضع شخصيات تحمل اسم قابيل، ويدخلنا في عالم تتناسخ فيه الحكايات والمعاناة عبر كل المتغيرات السياسية في العراق منذ حرب الخليج الاولى وحتى "دخول الأمريكان" .

شخصيته الرئيسية التي تمسك زمام الحدث منذ البداية وحتى النهاية، هي آدم البغدادي، الروائي الذي ابتدع شخصية الاستاذ الجامعي آدم التائه وزوجته حواء المؤمن. لكن لا متاهة حقيقية دون التفافات كثيرة في أروقة مظلمة من العنت السياسي والقتل والاغتيال والحكايات الكثيرة عن الشبق والعلاقات الجنسية التي كثيراً ما تتجاوز العرف كعلاقة الزوجة بوالد زوجها أو الشاب بأم صديقه. 

ولكي يكون التيه على أشده، فأن آدم التائه هو الآخر يكتب رواية عن المهندس آدم المطرود والمرأة المجهولة، حواء الصائغ، ونقرأ رواية آدم التائه من خلال قراءة زوجته لها. كما إن آدم البغدادي يلاحقنا بتعليقاته المستمرة على تطور شخصيات وأحداث روايته.

 
الحكايات متشابكة تشابك الاسماء ينتهي معظمها بموت ابطالها في السجون أو تحت التعذيب أوفي اغتيالات سياسية وطائفية، يصف برهان شاوي فظاعتها بتفصيل بدأه في روايته مشرحة بغداد يثير الرعب والحزن على العراق وأهله. 

 مع نهاية كل متاهة نودع العديد من الشخصيات، نتركهم لموت تعددت أسبابه لتبقى آوادم وحواءات أخرى تكمل المسيرة، ونحار في شخصيات تراوح بين الحياة والموت تعايش الأحياء وتعينهم على متاعب الحياة. لكن المتاهات الأربع رغم الموت والعذاب والاغتصاب والكثير من الحكايات الجنسية، ملأى بالحوارات الفكرية العميقة في الدين والفلسفة والأدب، حتى أن كاتب برهان شاوي المفضل ديستوفسكي ينظم مع بعض شخصياته الروائية إلى الأشباح التي تلاحق آدم التائه في تجواله في مدينة ميونخ. 

برهان شاوي يسوق عبر شخصيات عميقة التفكير والثقافة حزناً لازم الناس عبر سنين الحروب والحصار والمتغيرات التي حدثت مع دخول الأمريكان. فالموت هو الموت والتعذيب انتقل من السجون إلى معاقل خفية منتشرة في أحياء بغداد. بل وصار الموت جزأ من الحياة اليومية. انفجارات تترك الأشلاء في الشوارع العراقية. هو موت يلاحق شخصيات المتاهات في العراق وخارجه، وأشباح تطاردهم فيختلط الوهم بالواقع وتزداد المتاهة اتساعاً، وحين يختلط الأحياء بالاموات يظهر من جديد آدم الحارس، حارس مشرحة بغداد.

 
أحسست أن متاهة حـواء وصلت بالرواية إلى ذروتها في بناء الحدث والشخصيات. ففيها شخصيات قوية واعية وقصة الحب الوحيدة بين آدم المحروم والجميلة الذكية حواء الزاهد. لذلك اكتسبت العلاقة الجنسية بينهما طابعاً متميزاً غاب في علاقات الشخصيات الأخرى التي تمارس الجنس بلا مشاعر الحب بين الرجل والمرأة. لكن كليهما يلقى مصيراً مأساوياً ليتركا القارئ في حيرة وهو يدخل متاهة الأشباح التي بناها برهان شاوي على صراع الكلمة بين كاتبين، كاتبنا الرئيسي آدم البغدادي، وشخصية (آدم التائه) التي أبدعها وتحولت إلى كاتب يكتب عن مبدعه بعد أن تمرد عليه. وتتسع المتاهة أكثر فأكثر لأننا نعرف أن آدم البغدادي قتل في شقته في بغداد، كما اغتيل آدم التائه هو الآخر في لندن. 

 إذاً من يكتب عن من؟ لكن ما كتبه آدم التائه عن حياة الكاتب آدم البغدادي يدور بنا بين عذاب الناس في العراق خلال حربين وسنين الحصار حتى سقوط "القائد الضرورة". ندخل متاهات البشر والضياع في السياسة والعلاقات الجنسية المحمومة. ونجد انفسنا ننتقل هذه المرة بين حياة الكاتب آدم البغدادي الذي روى حكايات الآخرين وحياة سيدة خليجية مترفة هي حواء صحراوي.
في متاهات أربع متلاحقة أمسك برهان شاوي بمهارة ويسر خيوطاً متشابكة فككها تارة وشابكها تارة أخرى، ودار بقارئه في نقاشات فلسفية وأدبية ممتعة تصل أحياناً إلى شروح قيمة لعيون الأعمال الادبية والنظريات الفلسفية. كان شجاعاً واضحاً، يتحدث في كل شيء بلا قيود، الدين والسياسة والجنس الذي يغدق في وصف تفاصيله. فكل نسائه شبقات يبحثن عمن يرضي رغباتهن ولا تعنيهن الكثير من القييم والمحظورات، زوج عاجز يقبع على باب الغرفة التي تمارس فيها امرأته علاقتها مع الرجل الذي يرتدي"الزيتوني". نساء يغتصبن ويستمتعن بحالة الاغتصاب ومنهن من تتعلق بمغتصبها. أعترف أني كقارئة وجدت بعض هذه المواقف كثيرة التكرار.

متاهات برهان شاوي اسلوب جديد في الرواية العربية ومجهود هائل تطلب الكثير من البحث وما يثير الاستغراب والكثير من الاعجاب أنها انجزت متلاحقة في فترة زمنية قصيرة جداً. فقد صدرت متاهة آدم عام 2011 وصدرت متاهة الأشباح في منتصف العام الحالي، أي أنه كتب خلال سنتين ألفي صفحة من الحكايات والشخصيات والأشباح والتحليل للأحداث العراقية، تأخذ القارئ إلى عوالم مشحونة ترغمه على مواصلة القراءة.