أياما قليلة ويهل علينا شهر رمضان المبارك، ودعونا نعترف بأن هذا الشهر الكريم يأتي هذا العام والمواطن الليبي في حيرة حول كيفية القيام بمستلزماته... فقد أثارت موجة الغلاء وارتفاع الأسعار والتضخم، وتغيرات سعر الصرف وغيره الجدل في الشارع الليبي، بعد أن أثبتت الأيام الماضية أن الحلول التي قدمتها حكومة "الدبيبة" لتجاوز أزمة الغلاء والسيطرة على الأسواق لم تجد نفعاً، فقد اعتبر الكثير من المراقبين أن قرارات رئيس حكومة الوحدة الوطنية، كانت بمثابة تمنيّات ووعود ليس إلا. ويُخشى أن تصبح الأحداث التي تدور في أوكرانيا شماعةً جديدةً لتبرير الارتفاع المخيف للأسعار الذي طال غالبية المواد الغذائية، وكأنّ هذه الحرب تدور رحاها في شوارع المدن الليبية! صحيح أنه لا يمكن تجنّب تأثيراتها كون ليبيا تستورد من روسيا العديد من السلع، ولكن ليس إلى هذا الحدّ يكون التأثير الذي يقضي على البقية الباقية من صبر المواطن على الوجع المعيشي! 

لقد زاد اتساع هوة الفقر في ليبيا، وتعاظمت الفجوة ما بين الدخل والإنفاق، وتراجعت قوة الدينار الشرائية، وقفز جنون الأسواق وحيتانه الذين لا يجدون من يضبطهم، على عكس التصريحات الحكومية التي تبدو غير مدركة لحقيقة الموقف وخطورته والعواقب الخطيرة المحتملة. وفي هذا السياق، وفي اجتماع وزاري لرفع العتب، ووفقا لما نشره المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة عبر صفحته الرسمية بموقع "فيسبوك "، فقد شدد رئيس حكومة الوحدة الوطنية "عبد الحميد الدبيبة" على عدم السماح بالزيادة غير المقبولة على أسعار السلع الأساسية من قبل التجار، داعيا إلى وضع ضوابط لمتابعة هذه الأسعار. جاء ذلك خلال الاجتماع الموسع الذي عقده "الدبيبة" الثلاثاء 15/03/2022 بمقر ديوان رئاسة الوزراء في طرابلس. ودعا رئيس الحكومة خلال الاجتماع إلى ضرورة توفر السلع الأساسية خلال شهر رمضان وبكميات مناسبة، مع ضرورة دعم التجار وتشجيعهم لتوفير الكميات المناسبة منها...".

الثابت لدينا، أنّ حكومة الوحدة الوطنية، أصبحت عاجزة على إيجاد حلول للمواطن الليبي، الذي وصل إلى مرحلة بات يتصدى فيها على مدار الساعة لمشكلات تأمين الغاز والخبز والقوت اليومي... ولم تستطع الحكومة الحالية ـ كما التي سبقتها ـ الاستحواذ على ثقة المواطن الليبي الذي أضحى يواجه مصيره لوحده، مدركاً أن مخرجات عمل الحكومة وعدمه سيان...! وللأسف فحكومة "الدبيبة" لم تستشعر بعد خطورة المواجهة المعيشية المحتدمة في حياة الناس، ونؤكد هنا على مصطلح الاستشعار على اعتبار أن كل الوعود التي أطلقتها حكومة "الدبيبة" كان نصيبها التلاشي والسقوط من أجندة العمل الحكومي. 

إنّ قرارات الحكومة في جلستها الأخيرة لتطويق تداعيات ارتفاع أسعار السلع الأساسية في ليبيا، لا تكفي وحدها، لذا لا مناص أمامها ـ إن كانت جادة ـ إلا الضرب بيد من حديد، فيكفي دلالاً وغنجاً لبعض الحيتان الذين يتلاعبون بقوت الشعب الليبي ومصير ليبيا، أعرف أنها ستكون صيحة في وادٍ... بمعنى أنها لن تجد من يسمعها، لكني متأكد أنّ المواطن الليبي يعرف الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الهجمة الجديدة نحو الارتقاء في سلّم الأسعار على حسابه الذي لم يتغير وضعه أو دخله، فهو في المحصلة سيدفع الفروق الناتجة عن مشكلات عديدة في الأسواق الليبية سواء شاء أم أبى، المعادلة نفسها ولا شيء يتغير فيما يخص هذا الشأن. وما يزيد الطين بلّة أن حكومة "الدبيبة" المنتهية صلاحيتها، تعلم، بل وتعترف أن التّجار هم السبب بذلك، نتيجة رفضهم طرح المادة وغيرها من المواد الغذائية في الأسواق طمعاً بالربح الفاحش، والغريب أن ارتفاع أسعار المحروقات والدقيق والزيت ورغيف الخبز... وباقي المواد الأساسية جاء قبل وصول أية مستوردات جديدة أسعارها متأثرة بالأحداث الجارية، يعني أن غالبية المواد ما زالت متوفرة وبكميات كبيرة لكن في المخازن فوق الأرض، أو مخفية تحتها، فكيف سيكون الوضع في الأشهر القادمة مع استمرار الحرب في أوكرانيا؟!
 
ومن باب المعاناة المعيشية والحياتية تعترف الجهات الحكومية بأسطورة صبر المواطن الليبي وتحمله، فمازال إلى الآن الأقدر والأكثر ابتساماً والأكثر تفاؤلاً وصبراً، بانتظار تنفيذ الوعود الحكومية المهرولة في مضمار التخفيف من الأعباء المعيشية والحد من شجع تجار الأزمات وحضورهم في حياة الناس، هذا المواطن الشريف والحر، يقف اليوم في حال "استمر غياب سلطة القانون الرادعة" في مواجهة نعتقد أنها ستكون خاسرة مع تجار الأزمات الذين يحاولون استغلال الأزمة للكسب غير المشروع وقضم لقمة عيشه... وبكل أسف ما زال المواطن الليبي بغياب الفعالية القانونية يتلمس طريق النجاة في ظل الكثير من المتناقضات التي أوصلته إلى مرحلة لا يحسد عليها، فرغم صدور الكثير من القوانين التي من شأنها سد الرمق الأخير من تطلعاته، إلا أنها تصطدم دائماً بمحاولات هادفة إلى إفراغها من مضمونها الإيجابي، ويترافق ذلك أيضاً مع حقيقة استثمار الأزمة من قبل البعض، وكلمة بعض هنا تتضمن التجار وقسماً لا يستهان به من الموظفين في الدولة، سواء كانوا في مواقع مسؤولية أو موظفين عاديين يمتلكون أحياناً زمام إدارة العلاقة مع المواطن الذي ضاعت حقوقه تحت مظلة الأزمة التي باتت حاضنة للعديد من التصرفات والقرارات اللامسؤولة بحق المجتمع الليبي. 

ولاشك أن الأزمات المتتالية في حياة المواطن الليبي، بوقائعها المتناقضة وأسبابها التي تختلف باختلاف مصدرها تطرح الكثير من إشارات الاستفهام حول خفايا هذه الملفات الحياتية التي تحتاج إلى التدقيق في تفاصيلها وحيثياتها ووضع النقاط على الحروف، كونها من الملفات الساخنة التي تلسع حياته بالكثير من المنغصات، وتشعل فتيل الاتهام بالتقصير، بل بفساد الجهات المعنية التي تختبئ دائماً وراء ستار الأزمة العامة الحاضرة على أرض الواقع. فهل الحلول قادمة مع اقتراب شهر رمضان المبارك، أم أنها غادرت أيضاً على متن الإهمال والتقصير وغياب الإدارات ذات الكفاءة والقدرة على إدارة الأزمة، بحضور الغياب التام لما يسمى منظومة المحاسبة والمساءلة. من هنا ونحن على أبواب رمضان، نرى الحل من منظور اقتصادي، يكمن باقتصاد مبنيّ على رجال اقتصاد، وليس رجال رخاء، وإبعاد رجال الرخاء لأيام الرخاء، لأنهم لا يجتمعون إطلاقاً، واجتماعهما بكل تأكيد خطأ كبير، لأن نتيجة اجتماعهما يحوّل رجال الاقتصاد إلى رجال رخاء، فالأفضل أن نوجد صورة واضحة لأنواع الرجال الذين ستناط بهم خطة النهوض الاقتصادي، فهم مفاتيح الصمود والنجاح... 

وهذا يستدعي عملاً جاداً ومسؤولاً لتضييق الفجوة بين الإنفاق وبين الدخل مع تفاقم المشكلات الاجتماعية، وهذا ما يشكل تحدياً جوهرياً أمام الحكومة القادمة في عملية الإصلاح الاجتماعي، الذي ستكون تكلفته أعلى بأضعاف مضاعفة أمام تكلفة المواجهة الاقتصادية المطلوبة في هذه المرحلة، التي تدور فيها رحى المواجهات الخاسرة بين الواقع الذي ترسمه القرارات على الأوراق وبين اليوميات المسجلة في خانة الغبن المعيشي. فقد وصل الحال إلى ما يشبه المحال من الاستهتار بقوت المواطن الليبي، فلا بد من صحوة رسمية بصلاحيات استثنائية تكون قادرة على محاصرة تجار الأزمات والمحتكرين وسادتهم، وتفكيك شبكاتهم، ليتمكن المواطن الليبي من إعادة القطار للسكة ومحاصرة المتاجرين بلقمة الناس وتفاصيل حياتهم، وهذا لن يكون إلا بالحضور القويّ الفاعل للمؤسّسات والجهات ذات العلاقة والفريق الاقتصادي من رجال الاقتصاد المشهود لهم بالوطنية والكفاءة، حيث يتحمّلون ما جرى ويجري، من خلال إعلانهم حرباً مفتوحة على الغلاء وأخواته. 

خلاصة الكلام: الشعب الليبي حريص على دولته ومكوناتها والمنجز فيها، ويخاف عليها، وانفطرت قلوبه لما حلَّ ويحلُّ بها وبه، وهو صادق فيما يشعر ويعمل، ولا يجوز أبداً أن تتعامل معه الحكومة بهذه الطرق التي لا تغني ولا تقنع العقول والبطون، فالعدل والأمن والمواطن أهم مقومات الدولة بعيداً عن أي جدل سياسي قائم على الصراعات الداخلية للدولة الوطن والأرض والإنسان. المواطن الليبي يريد ويحتاج اليوم إلى رعاية الدولة... ومن هنا، أعتقد، جازماً وحاسماً، أن الشعار الوحيد والعريض الذي بات يجمع عليه الليبيون اليوم، بقضهم وقضيضهم، هو: "الشعب يريد إسقاط حريّة الغلاء".