بعد سبع سنوات من إندلاع الأزمة فيها، ما تزال ليبيا تعيش في ظل فوضى ودون حكومة مركزية، في ظلّ إنتشار السلاح و المليشيات التي استغلت الفراغ الذي أعقب انهيار مؤسسات الدولة لتنتشر وتمد أذرعها للسيطرة على مفاصل البلاد بحثا عن النفوذ الذي من شأنه شرعنة تحركاتها وأنشطتها الإجرامية. 

وتواجه مؤسسات الدولة، أشكالاً من المعوقات التي تمارسها المليشيات والفصائل المسلّحة والمجموعات الإسلامية المتطرّفة. وتعتبر المؤسسة القضائية، إحدى المؤسسات التي تسعى المليشيات المسلحة للسيطرة عليها وتطويعها لخدمة أجنداتها. 

فمؤخرا، أثارت الأحكام الصادرة عن القضاء الليبي بإعدام 45 شخصا لإدانتهم بقتل متظاهرين في الحادثة المعروفة بـ"السريع في أبوسليم" في العاصمة طرابلس عام 2011، تساؤلات حول إستقلالية القضاء. وقالت الحركة الوطنية الشعبية الليبية، في بيان لها، إن صدور حكم جائر ومسيس عن فئة محسوبة على القضاء الليبي ضد بعض أسرى الحرب تؤكد في واقعة جديدة ارتهان بعض أعضاء القضاء الليبي لسلطة الأمر الوقع وهي سلطة الميلشيات وسيرتها الدموية المرتبطة بالعنف والإرهاب. 

ورفضت الحركة ما وصفته بـ"سياسة تصفية الحسابات السياسية عبر التلاعب بالقوانين والتشريعات واستغلال بعض منصات القضاء لمصالح الميلشيات الخاضعة لإملاءات بعض الدول المتورطة في الدم الليبي، والذي يكشف المستوى الخطير الذي وصل إليه مغتصبو السلطة في ليبيا من فجور في الخصومة واستهتار بالقوانين وبالسلم الأهلي المجتمعي الذي يمثل اخر الحصون التي يمكن الاحتماء بها لإنقاذ البلاد". 

وناشدت الحركة مؤسسة القضاء الليبي للتبرؤ من زمرة ما وصفتهم بقضاة النار والعمل بشجاعة من اجل هدم هذه الاحكام الفاسدة والتبرؤ منها، داعية المؤسسات الحقوقية المحلية والدولية ومنظمات حقوق الانسان الى مساندة أبناء الشعب الليبي المختطفين لدى الميلشيات والقضاء الخاضع لسلطة تلك الميلشيات وضرورة الدعوة والعمل لإيقاف وإلغاء تلك الاحكام الباطلة في حق اسرى الحرب الذين تكفل كل القوانين حقوقهم وسلامة ارواحهم. 

وتعليقا على الأحكام، قال أحمد حمزة مقرّر اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا، لـ"العربية. نت"، إن هذه الأحكام، "تفتقر لأدنى مقومات العدالة وشروط النزاهة"، خاصّة أن القضية شائكة وتحتاج إلى خبراء دوليين في تحديد الطرف المسؤول بشكل مباشر عن هذه المجزرة، التي وقعت أثناء مواجهة مسلحة متبادلة بين قوات النظام السابق و القوات المعارضة، وبالتالي "لا يمكن تحميل المسؤولية لطرف واحد. 

وبدوره، اعتبر المحامي الليبي محمد العكروتي في تصريح لـ"العربية. نت" أن الوضع في ليبيا "لا يسمح بإصدار أو تنفيذ أحكام بالإعدام، في ظل غياب القانون وسطوة المليشيات على السلطة القضائية في طرابلس، إضافة إلى عدم وجود أي إثباتات أو أدلة ضد المتهمين"، متسائلا عن عدم محاسبة وملاحقة المجرمين الذين ارتكبوا مجازر جماعية منذ ثورة 2011 حتّى الآن". 

ومن جهته، قال محامي سيف الإسلام القذافي، خالد الغويل، بأن هذه الأحكام صدرت "في ظل غياب تام لسلطة القانون، وبحضور سلطة سيطرة المليشيات على العاصمة طرابلس". وأكد الغويل، في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، على أن أحكام الإعدام الصادرة هي أحكام "جائرة" ولم تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة للمتهمين، متسائلا عن الأدلة والإثباتات ووسائل الدفاع والحقوق التي تحصل عليها المتهمون في المحاكمة. 

وتساءل الغويل عن أسباب عدم محاكمة المسؤولين عن "مجزرة غرغور" و"مجزرة القراهبولي"، ومن أحرق مطار طرابلس العالمي، ومن سرق ونهب ثروات الشعب الليبي، مطالبا بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالتدخل "لتمارس دورها الحقيقي للضغط على هذه العصابات التي ترتهن القضاء الليبي"، محملا حكومة الوفاق الوطني مسؤولية سلامة المحكوم عليهم بالإعدام. 

وتذكر هذه الأحكام، بحسب الكثيرين، بأحكام الإعدام التي أعلنتها محكمة في طرابلس، في العام 2015، في حق قيادات بارزة من نظام الزعيم الراحل معمر القذافي، والتي أثارت حينها ردود فعل مختلفة وُوجهت بانتقادات حادة من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية حيث أن المحاكمة جرت في ظروف غير طبيعية حيت تتحكم المليشيات بشكل مطلق في مدينة طرابلس ويكفي لتأكيد ذلك أن رئيس محكمة الاستئناف كان مختطفا في الأسبوع ما قبل النطق بالحكم. 

ويشير المتابعون للشأن الليبي إلى أن المليشيات دأبت على التأثير على القضاء لإقرار أحكام تخدم مصالحها وتعرقل بناء الدولة. ففي نوفمبر 2014، قبلت المحكمة العليا الليبية، بالطعن في دستورية البرلمان الليبي المنبثق من انتخابات 25 حزيران/يونيو وقضت بحل البرلمان الذي اعترفت به الاسرة الدولية. وأكد سياسيون وقانونيون، حينها أن القرار القاضي بحل البرلمان باطل، مشيرين إلى أنه صدر تحت تهديد الميلشيات التي تسيطر على طرابلس والدائرة الدستورية العليا بها. 

وفي يونيو الماضي، أصدر المجلس الأعلى للقضاء الليبي قرارا يقضي برفع الحصانة عن وكيل النيابة والناشط الحقوقي حمزة الأخضر. وفي أعقاب ذلك، شهدت طرابلس وطبرق وبنغازي واجدابيا والزاوية، عددا من الوقفات الاحتجاجية، نظمها مجموعة من أعضاء الهيئات القضائية ومحامين، للتعبير عن رفضهم لهذا القرار، مؤكدين تضامنهم مع زميلهم الأخضر ومطالبين المجلس الأعلى للقضاء بعدم تكميم الأفواه التي تطالب بتطبيق القانون وإحقاق الحق ورفع الظلم ومكافحة الفساد. 

وأدان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في بيان صحفي، الإجراءات القمعية التي يتعرض لها "حمزة الأخضر"، وكيل النيابة في طرابلس، من قبل المجلس الأعلى للقضاء الليبي، وذلك على خلفية انتقادات كان وجهها الأخضر للمؤسسات القضائية في ليبيا مطالباً إياها بمكافحة الفساد المستشري في مفاصل الدولة، مشيراً إلى أنه سيعمل على تقديم شكوى بالخصوص إلى المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني باستقلال القضاة والمحامين، السيد " دييجو جارسيا سايان. 

وأفاد الأورومتوسطي أنّ الإجراءات العقابية التي اتخذها المجلس الأعلى للقضاء بحق "الأخضر" سبقها تعرضه وعدد من القضاة ووكلاء النيابة لتهديدات بالقتل والخطف مرات عديدة منذ عام 2014، مشيراً إلى أن كل هذه الحوادث جاءت إثر انتقادات وجهها الأخضر وزملاء له ومطالباتهم بتحييد المؤسسة القضائية عن الانقسام السياسي الحاصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في ليبيا واعتراضهم على "تعيين من لم تتوافر فيهم الشروط اللازمة للعمل في الهيئات القضائية بما يخالف القانون الليبي"، وسعيهم لتأسيس جمعية قضائية حقوقية أهلية غير حكومية تهدف للدفاع عن استقلال القضاء. 

ونوّه الأورومتوسطي إلى المؤسسة القضائية في ليبيا تعيش ومنذ نهاية عام 2011 حالة من التراجع بسبب الأوضاع الأمنية التي تعيشها البلاد، وتتعرض لانتهاكات تمس استقلاليتها. وفي هذا الصدد، لفت الأورومتوسطي إلى حادثة تعدي بعض المجموعات المسلحة على أعضاء من المؤسسة القضائية وتهديدهم بالقتل والخطف، وهو الأمر الذي دفع بعض النشطاء والحقوقيين، بما فيهم وكيل النيابة المذكور، للدعوة لمحاربة حالة الفساد الذي يعيشه القضاء الليبي بما يكفل العدالة والمساواة للجميع. 

وتعرض القضاة في ليبيا إلى الإستهداف على يد المليشيات المسلحة، وكان آخرها، في يوليو الماضي، حيث تم اختطاف كل من القاضي عبد السلام السنوسي ووكيل النيابة العامة اسماعيل عبد السلام وعضوين من جهاز الشرطة القضائية الذين يعملون في محكمة ونيابة ودان الجزئيتين، على يد جماعة مسلحة. 

وقال جهاز الشرطة القضائية بوزارة العدل في حكومة الوفاق الوطني، عبر بيان، إلى أن الهدف من وراء عملية الاختطاف هو تهريب متهمين موقوفين على ذمة قضية تهريب وقود من قبل عصابة إجرامية مسلحة. وكان من المقرر محاكمة المتهمين أمام محكمة ودان، بعد أن احتجزوا في سجن مدينة هون، وعثر على سيارة السجون التي استولى عليها المسلحون على مسافة 120 كم من ودان في اتجاه سرت معطوبة الإطارات. 

وإنتهت عملية الإختطاف بإطلاق سراح المخطوفين، لكن عمليات إستهداف سابقة للقضاة كانت أكثر عنفا، ففي مايو 2013، اغتال مسلحون رئيس دائرة الجنايات بمحكمة استئناف الجبل الأخضر "درنة" المستشار "محمد نجيب ابراهيم هويدي" أثناء خروجه من مقر محكمة الأستنئاف درنة. علما ان المستشار كان يسعى جاهدا لتفعيل القضاء في المدينة وهذا مالا تريده المليشيات والعصابات المسلحة. 

وعقب ذلك، اتهمت المنظمة الليبية للقضاة حكومة بلادها التي يترأسها على زيدان حينها، بالعجز عن فرض الأمن في الشارع وبالتقصير في القيام بواجبها بتوفير الحماية اللازمة لرجال القضاء والنيابة العامة. ونبهت المنظمة في بيان إلى مخاطر ما أطلقت عليه التسيب والفوضى المنتشرة في المدن، معتبرة أن مثل هذه الحوادث ستؤثر على عمل المحاكم ورجال القضاء وعلى مصلحة الوطن. 

وقالت إن اغتيال القاضي محمد هويدي بمدينة درنة لم يكن الأول بل سبقه اغتيال المستشار مراد الرعوبي في طرابلس والمستشار جمعة الجازوي في بنغازي. وأعتبرت المنظمة أن تكرار مثل هذه الاعتداءات على رجال القضاء ومهاجمة مقار المحاكم بشكل مستمر هو عمل ممنهج ومخطط له. 

وتعاني المدن الليبية، وخاصة العاصمة طرابلس من سيطرة المليشيات المسلحة التي وصفتها دراسة للمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن الدولي، في أبريل الماضي، أنها تسيطر على مفاصل السلطة في العاصمة طرابلس منذ دخول "المجلس الرئاسي المقترح" في مارس 2016 وعلى الرغم من أن ولاء تلك المليشيات لحكومة "الوفاق"، إلا أنها تسيطر بالفعل على الحكومة وقرارتها. وتظهر الدراسة أن استعانة المجلس الرئاسي بمليشيات مختلفة الانتماءات لحمايته في العاصمة طرابلس شكلت حجر الأساس لفشل الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات. 

هذا النفوذ المتنامي للمليشيات، دفع بعثة الأمم المتحدة للدعم بليبيا، لإعراب عن "إدانتها الشديدة لأعمال العنف والتخويف وعرقلة عمل المؤسسات السيادية الليبية من قبل رجال المليشيات"، الذين يشكلون ما يعرف بـ"كارتيل طرابلس"، وبينت البعثة أن "التدخل في عمل المؤسسات السيادية وفي الثروة الوطنية الليبية أمر خطير ويجب أن يتوقف على الفور. 

كما دعت في ختام البيان حكومة الوفاق الوطني إلى "اتخاذ الخطوات اللازمة لمقاضاة المسؤولين عن هذه الأعمال الإجرامية"، مشيرة إلى أنها ستقدم تقريراً بهذا الشأن إلى المجتمع الدولي وستعمل مع جميع السلطات المختصة للتحقيق في إمكانية فرض عقوبات ضد أولئك الذين يتدخلون أو يهددون العمليات التي تضطلع بها أية مؤسسة سيادية تعمل لصالح ليبيا، بحسب وصف البيان. 

موقف البعثة الأممية وإن كان متأخرا فإنه يكشف بحسب مراقبين فشل حكومة الوفاق في فرض سيطرتها وكبح جماح مليشيات طرابلس التي تبدو ظاهريًا تابعة لوزارة داخلية حكومة الوفاق، وتنفذ أوامرها وتدافع عنها، فيما هي في الحقيقة تمارس كل ما يصب في صالحها، دون اعتبار لقانون أو عرف أو حقوق إنسان. 

وقال تقرير لمؤسسة "سمال أرمز سيرفي" السويسرية بعنوان "طرابلس عاصمة المليشيات"، إن "المليشيات في طرابلس تسيطر على الدولة الليبية وتؤثر على قراراتها السياسية". وأشار التقرير إلى "تغلغل شبكة من العصابات الإجرامية المسلحة في الإدارات الحكومية والمصارف لتمويل مشاريعها، وتساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية وتعبث بمستقبل الليبيين في إقامة دولة مدنية، مشيرة إلى أن الحكومة في طرابلس عاجزة عن فعل أي شيء أمام تغوّل المليشيات". 

وفي غياب سلطة موحدة قادرة على إرساء دعائم الدولة وحماية مؤسساتها، يبقى القضاء الليبي، بحسب الماقبين، رهين سطوة المليشيات التي ستخدم الأحكام القضائية كورقة للنيل من خصومها وشرعنة جرائمها. ويبقى خروج البلاد من الأزمة التي ألقت بها في دوامة من الفوضى والصراع الأمل الوحيد لليبيين لإرساء الأمن والإستقرار وتحقيق العدالة وسلطة القانون.