قام ماركس في كتابه " الثامن عشر من برومير " بتصحيح لفكرة هيجل عن أن التاريخ يعيد نفسه بالضرورة: " أشار هيجل في مكان ما بأن كل الأحداث العظيمة والشخصيات في تاريخ العالم، لنقل، تجري مرتين. ونسي أن يضيف: المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة."فقد كان صباح السادس من فبراير- شباط العام 2013 يمثل المأساة للقوى الوطنية التقدمية في تونس و للعائلة السياسية و الترابية لشكري بلعيد،كان هو المأساة بالنسبة لتونس،لكل تونس التي خرجت كلها او جلها لتودعه الوداع الاخير الى مقبرة الزلاج مجاورا لقادة الحركة الوطنية و زعماء الاصلاح ،للشابي و الطاهر الحداد و الشيخ الطاهر بن عاشور و نجله الفاضل و المنجي سليم ،أما المهزلة فهي أن يموت او يقتل القاتل يومين قبل الذكرى الاولى للقتيل،يموت و تختفي معه الحقيقة ،من خطط ؟ من دبر ؟ من أفتى ؟ من و من و من ...الخ.فبين كمال القضقاضي القاتل و شكري بلعيد القتيل لم يكن هناك ثأر او خصومة او حتى لقاء عابر،وحدها " بنية العقل الاصولي" الظلامية الرجعية الدموية من بذرت الخصومة و الثأر،وحدهها الافكار القادمة من مجاهل البدواة الفكرية من جعلت القضقاضي يمتطي دراجته الرثة ذات صباح بارد و يفرغ رصاصته الخمس في قلب بلعيد...البعض يبرر ذلك بالفقر و البطالة و الحيف الاجتماعي...اصمتوا لا شئ يبرر الدم.

***

ربيع العام 1979 ولد كمال القضقاضي ،و كغيره من شباب هذا البلد كان يتوق الى الهجرة خارجه ،ليفوز بالفرصة بداية العام 2000 و كان وجهته الولايات المتحدة الامريكية حيث أقام الى حدود العام 2001 حيت دوت انفجارات 11 سبتمبر فتم ترحيله من طرف السلطات الامريكية بعد الاشتباه في صلاته بعناصر او جماعات متهمة بالارهاب ليعود الى تونس و يبقى تحت المراقبة الامنية الى حدود العام 2001 تاريخ سقوط نظام الرئيس الاسبق زين العابدين بن علي.

يكنى القضقاضي بـــ"الزمقتال" نسبة الى رياضة قتالية تمسى بذات الاسم اخترعها تونسي يدعى الشيخ المنصف الورغي،و هو من سجناء حركة النهضة الاسلامية سابقا،و هي نوع من المصارعة تجمع العديد من تكتيكات القتال الشرق أسيوي،تعلمها القضقاضي ليتسلح بها في "مسيرته الجهادية".كنية أخرى يحملها كمال القضقاضي و هي "أبو سياف" و يرجح انه اتخذها بعد التحاقه بالمجموعة الجهادية المتحصنة بجيل الشعانبي اثر قيامه بعملية اغتيال شكري بلعيد،و ذلك ما تكشف عنه محاضر التحقيقات في قضية ذبح الجنود التونسيين التي جدت أواخر شهر تموز/يوليو العام 2013،فقد كان كمال القضقاضي امير الخلية المكلفة بالهجوم على عربة الجيش التونسي في جبل الشعانبي و يقود المجموعة جهادي جزائري يدعى يحي،كما تتهمه الاجهزة الامنية التونسية بأنه "عنصر فاعل في الجهاز العسكري لتنظيم انصار الشريعة المحظور مكلف بالاغتيالات و التصية الجسيدة "و قد أصدرت في حقها 6 مذكرات تفتيش.

***

صباح السادس من فبراير- شباط العام 2013 توجه كمال القضقاضي رفقة شريكه في الجريمة الى ضاحية المنزه السادس غرب العاصمة تونس حيث يقيم شكري بلعيد ،و كان قد امضى فترة اسبوع قبلها يترصده و يترصد أوقات خروجه من البيت و عودته،بقي رفيقه على متن دراجة نارية على حافة الطريق الرئيسي بينما توجه "القضقاضي" الى مدخل العمارة التي يقيم فيها شكري بلعيد ينتظر خروجه و في حدود الساعة الثامنة و خمس دقائق شاهد "الشريك" القضقاضي قادما من مأوى السيارات و يتجه نحوه بالقرب من الاعشاب المطلة على الطريق الرئيسي الا انه توقف لفترة زمنية قصيرة و شاهده ينحني خلف الاعشاب للتثبت في حركة ما بالمأوى ثم توقف و فتح جمازته و توجه نحو مأوى السيارات بخطى شبه مسرعة.في الاثناء و بعد فترة قصيرة لا تتجاوز بضع ثواني استمع الى ثلاث طلقات نارية متتالية ثم طلقة رابعةعندها تولى تشغيل محرك الدراجة النارية و تقدم مسافة قصيرة للتثبت في مصدر تلك الطلقات فشاهد كمال القضقاضي قادما نحوه مسرعا ماسكا بيده مسدسا وجه فوهته الى خلف اتجاه هروبه و أطلق عيارا خامسا و صعد خلفه على مته الدراجة و لاذ بالفرار.

***

مساء الرابع من فبراير- شباط العام 2014 أعلن وزير الداخلية التونسية لطفي بن جدو خلال مؤتمر صحفي ، مقتل كمال القضقاضي، المتهم الرئيس في اغتيال الزعيم المعارض بلعيد في اشتباك مع الشرطة، والقيادي في تنظيم "أنصار الشريعة"، رفقة مسلحين آخرين كانوا مطلوبين للأمن التونسي، وذلك في اشتباك في منزل بضاحية رواد قرب العاصمة تونس.

لكن عبدالمجيد بلعيد، شقيق المعارض اليساري، رفض هذه التصريحات مطالبا بالحقيقة حول مقتل شقيقه. وقال لوكالة فرانس برس الأربعاء إن "مقتل القضقاضي لم يفرحنا إطلاقا (..) وهو لا يخدم إلاّ مصلحة لطفي بن جدو (وزير الداخلية) وحكومته".وأضاف عبدالمجيد بلعيد أن "عائلة الشهيد شكري بلعيد تقول لوزير الداخلية: نحن نرد إليك هديتك"، معتبرا أن "قتل إنسان ليس هدية.. وجثة إنسان ليست هدية".ولفت إلى أن عائلة بلعيد كانت تتمنى لو تم توقيف كمال القضقاضي حيا حتى يعترف بالجهة التي كلفته بتنفيذ عملية الاغتيال.كما رأى حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد" (يسار) الذي كان بلعيد يتولى أمانته العامة في بيان الأربعاء أن اغتيال شكري بلعيد "جريمة سياسية والقضقاضي ومن معه هم مجرد أدوات تنفيذ".وأضاف "لذلك، كشف الحقيقة كاملة يستوجب الوصول إلى الأطراف السياسية التي خططت وموّلت وأعطت الإذن بالتنفيذ، وتسترت وبرمجت طمس معالم الجريمة".من جهتها، رأت بعض الصحف التونسية مثل المغرب أن مقتل القضقاضي يشكل "بداية النجاح في مكافحة الإرهاب". لكن صحفا أخرى تحدثت عن "النصف الفارغ من الكأس (...) وعن شيء لم يكتمل".ويفترض أن يعقد محامون اليوم الخميس مؤتمرا صحافيا للتحدث عن تقدم التحقيق في اغتيال بلعيد قبل أن تنظم أمسية على ضوء الشموع في جادة الحبيب بورقيبة في وسط تونس.كما سينظم تجمع عند ضريح شكري بلعيد السبت قبل مسيرة في جادة بورقيبة في الثامن من فبرير ذكرى يوم تشييعه الذي شهدت فيه البلاد إضرابا عاما.وكان اغتيال بلعيد شكل منعطفا في تونس التي شهدت مقتل حوالى عشرين عسكريا ودركيا في صدامات مع مجموعات جهادية في 2013 خصوصا على الحدود الجزائرية.ورأت المعارضة في اغتيال بلعيد أيضا دليلا على تساهل النهضة حيال التيار الجهادي الذي يصعد تحركاته منذ ثورة 2011.

نهاية القضقاضي في ظروف وصفها البعض بــ"الغامضة" جاءت لتنهي حياة الرجل الذي "دوخ الاجهزة الامنية التونسية طيلة سنة كاملة" غير ان موته قد دفنت معه حقيقة اغتيال الزعيم التونسي ،حقيقة الجهات التي خططت و دبرت و افتت بذلك خاصة و ان لشكري بلعيد الكثير من "الاعداء الفكريين و الايديلوجيين" في معسكر الاسلاميين المتطرفيين فقد تعرض قبل موته الى هجمة شرسة استعملت فيها أسلحة التشويه و التكفير و العنف و التهديد بالسجن و العقاب الى جان حملات افتراضية على شبكات التواصل الاجتماعية نالت من سمعته و انتمائه الديني و نالت من حزبه و من تاريخه النضالي.