بمناسبة اليوم العالمي للمدن، حاورت بوابة إفريقيا الإخبارية الدكتور التونسي الصحبي بن منصور أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة، صاحب مؤلفات عديدة وأبحاث متنوعة في التاريخ التونسي وبالخصوص في تاريخ المؤسسات خلال العصر الوسيط...،في إطار ملف حول المدينة يصدر في حلقات بالأسبوع المغاربي، للتعرف على خصائص المدينة التونسية وعدة نقاط ومفاهيم أخرى أمعن الدكتور الصحبي في شرحها. وفيما يلي نص الحوار:

ماذا يعني لك لفظ المدينة؟

يرتبط اسم المدينة عندنا بالمقدس في إشارة إلى المدينة المنورة. لكن تسمية المدينة عند الأوربيين تحيل إلى معنى الحضارة. واختلف الباحثون في تعريف المدينة، لكن ما يشغلنا ويستدعي منا البحث، ونحن نكتب بلغة الضاد هي التصور العربي  والإسلامي لها. فالمدينة العربية الإسلامية لها مكونان رئيسان: الأسوار وهي رمز المنظومة الدفاعية/العسكرية، والمسجد وهو قلبها النابض ورمز منظومتها العقائدية. 

والمسجد يستقطب حوله في المدن التونسية كما في بقية المدن العربية الإسلامية الأخرى منظومات كثيرة، مثل منظومة النظافة (الحمام)، والمنظومة الاقتصادية (الأسواق)، وحوانيت المهن، لكنها المهن النفيسة من كتب وقماش وثياب وذهب وعطور وبخور... في مقابل استبعاده للمهن الخسيسة نحو الأسوار أو خارجها مثل حوانيت الحدادين وصانعي الحلفاء والدباغين...، التي تسبب التلوث وتصدر عنها روائح كريهة وأصوات مزعجة... وإذا عظم شأن مدينة ما صارت قاطرة لبقية المدن والقرى والأرياف، فهي السيدة وهم الأتباع ، فالكل يقصدها، والكل يخطب ود أهلها وإن كانت تعيش عالة على ما ينتجه سكان الجبال والقرى والبوادي في مجال التغذية.

ما هي المصادر التي تكوّن طريقنا إلى تأسيس معرفة موثوقة بتاريخ تلك المدن؟

المصادر الأثرية هي الأكثر إنباء، لكن تُكملها وجهات نظر الرحّالة المتعددة الزوايا، وتوثق لها على الصعيد الرسمي أقلام مؤرخي البلاط، أما تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية فتطالعنا في كتب الفتاوى والنوازل وفي قصائد الشعر والأدب وأيضا في كتب التراجم والطبقات والسير...، كما تمثل النقود مرآة صادقة للعقيدة الرسمية للمدينة وأحيانا لقوى المعارضة المسلحة...

وماذا عن الاحتفالات في المدينة بعالمنا العربي قديما وحديثا؟

في القديم كانت الاحتفالات تُقام في المعابد وفي المسارح الرومانية، أي في الفضاءات المغلقة، أمّا الشوارع والساحات العامة فقد ظلّت حكرا على الحكّام، لاستعراض أبّهة المُلك، أو للتمثيل الجسدي بالمجرمين والمعارضين السياسيين لنظام الحُكم القائم. وهذا ما عاشته مدننا منذ العصر الإسلامي الوسيط. 

وقد تنافس الخلفاء العباسيون والأمويون والفاطميون فيما بينهم في مجال إقامة مراسم الاحتفالات الدينية واحتفالات النصر والاستعراضات العسكرية، كما تنافسوا مع البيزنطيين. وبالرغم من أنّ نفس المجالات شملتها اليوم عادة الاحتفالات... لكن تغيرت أهدافها فأصبحت ذات بعد سياحي أو تراثي أو ترفيهي أو روحي أو تثقيفي... وهي تُراوح بين الفضاءات المغلقة من دور ثقافة وشباب ومسارح... وبين الفضاءات المفتوحة من مسالك وساحات وحدائق... والاحتفال هو فرحة المدينة ووجهها المشرق الذي يرمز إلى الاستقرار ويلخص تاريخ السعادة في المكان... في المدينة.   

ماذا عن عواصم تونس عبر العصور؟

جلّ تلك العواصم بُنيت بقيادات سياسية غير تونسية، قرطاج بنتها عليسة القادمة من لبنان، والقيروان بناها عقبة بن نافع القادم من بلاد الحجاز (من مكة)، والمهدية وصبرة المنصورية مدينتان بناهما المهدي والمنصور وهما من أصول سورية (من مدينة سلمية)، وتونس التي بناها الرومان ووسع فيها الفاتحون العرب، ثمّ حوّلها الحفصيون (من المغرب الأقصى) إلى عاصمة منذ بداية القرن السابع للهجرة. 

وأذكر أنّه منذ 14 سنة مضت تقريبا نشر الصديق الدكتور عيسى البكوش وهو مخطط عمراني ونائب رئيس جمعية مخططي المدن مقاربته المتعلقة بضرورة بناء عاصمة جديدة لتونس تواكب تحولات عصرنا والنمو الديمغرافي والتوسع العمراني ومقتضيات النقل والمواصلات ببلادنا، لا سيما أنّ العاصمة الحالية تونس ذات الثمانية قرون قد هرمت، مع المحافظة عليها كمدينة روحيه تحتضن جامع الزيتونة وكعاصمة اقتصادية للبلاد، وذلك في مقابل تحويل مركز الحكم الإداري والسياسي إلى مدينة النفيضة لاعتبارات جغرافية محضة قررتها صور الأقمار الصناعية وقواعد التخطيط العمراني الرشيد. 

وذلك لأنّ هذه المدينة (النفيضة) توجد في وسط البلاد، ثم لتوفرها على إمكانات طبيعية لإحداث ميناء عميق ومطار دولي إلى جانب تموقعها في مفترق طرقات بين الشمال والجنوب والشمال الغربي. 

إزاء التطورات التي يعرفها العالم بدأنا نسمع، بالمدن الذكية، مدن المعرفة، المدن الأيكولوجية أو الصديقة للبيئة، كيف تفسرون هذا الاهتمام بمدن المستقبل؟ 

إنّ ما يفصل بين الغرب والشرق، أو بين العالم المتقدم وعالمنا النامي هو معنوي قبل أن يكون ماديا... هو العقلية والسلوك، عقلية انتقلت من السيطرة على المتناهي في الكبر (الصناعات الثقيلة، والفضاء) إلى المتناهي في الصغر (الذرة والنانو)، وسلوك انتقل من السمو الحضاري على أرض الواقع إلى تنظيم الوجود البشري في العالم الافتراضي (الانترنات) ثم في عالم الماتريكس.

وعلى الرغم من أهمية مدن المعرفة والمدن الذكية التي هي في الواقع مدن رقمية، يجب الإقرار بأنّه لئن كانت هذه المدن المتطورة قد استفادت من شبكة إلكترونية للسيطرة المركزية على المجتمع فإنّ ذلك لا يمنع من الحديث عن سلبيات هذا الواقع الجديد وبالخصوص ما يسببه من إشعاعات مضرة بالعقل البشري وبجهازه العصبي، وما يكرسه من تباعد اجتماعي ومن برود في التواصل البشري.

أما المدن الإيكولوجية فهي مفتاح خلاص لمستقبل الإنسانية، كما أنّها ملاذ بديل يلجأ إليه ضحايا التقدم البشري، وتعديل الجينات الوراثية للحيوانات والنباتات التي يتغذى منها الإنسان، فهنالك منازل ونُزل وقرى تنتصر لاستعمال كل ما هو طبيعي والعيش من الغذاء البيولوجي، وهذا التوجه يفيد معنى عودة الإنسان إلى حضن الطبيعة، لكنه يبقى توجها فرديا وسياحيا أكثر منه توجه مؤسساتي.   

هل تعرف تونس هذا الاهتمام بالمدن الإيكولوجية؟

هي اليوم أشبه بموضة لدى البعض، رغم أنّها عمارة المستقبل التي يتعجّب لها البعض، ويُعجب بها البعض الآخر، ويمتعض منها البعض الآخر، لأنّها تخالف الهوية العربية الإسلامية أو هوية العمارة التونسية، لكن يعمل المهندسون الشبان اليوم على تكريسها في المنازل والمساجد، كما تعمل بعض البلديات التي يعي رؤساؤها فوائد كل ما هو إيكولوجي على تبني مشاريع تشييد البناءات المستدامة. وأيضا بعض الدوائر البيئية والصناعية التي تعمل مجتمعة على إرساء منظومات التصرف البيئي وتطبيق التكنولوجيات النظيفة.

Aucune description disponible.

هل تتوفر المدينة التونسية على مواصفات المدينة الحديثة؟ 

المدينة الحديثة كما قلت منذ قليل هي من بناء أصحابها، أي من بنات أفكار سكانها، وليست مجرد ديكور دخيل مستورد من الخارج... من أمم متقدمة ومبدعة إلى أمم أخرى متخلفة ومقلدة... فالمدن التونسية مازالت تفتقد إلى اليوم شبكات طرقات عصرية، وشبكات تصريف المياه طبق المعايير العالمية، وكذلك شبكة اتصالات حديثة، وهي تحتاج تخطيطا عمرانيا مثاليا، ومواطنين يسهرون على نظافة أحيائهم أكثر من منازلهم، وشوارعهم العامة أكثر من سياراتهم. فكل ما هنالك مشاريع لإرساء معالم المدينة الحديثة في واقع حضري مهترئ، وفي ظل فقر في الموارد المالية.

ما هي علاقة المواطنة والحسّ المدني بثقافة المدينة؟ 

هنالك مشاريع جميلة منجزة لكن غياب الحسّ المدني قد أذاها، كما قاد إلى تهالكها وعدم القدرة على ترميمها أو تعهدها بالإصلاح. ولا شكّ في أنّ ثقافة المدينة ترتبط باحترام ركْن السيارة في أماكن الإيواء واحترام الصف داخل المرافق الإدارية، والحرص على النظافة وجمالية المحيط وعدم إيذاء الجيران وتقديس الملك العمومي وحفظه أكثر من حفظ الممتلكات الخاصة. فالمدنية ليست لفظا مستوردا وإنما هي سلوك كسْبي ننشأ على قراءته في تعاليم ديننا الإسلامي، لكن للأسف ربّما يتمّ ذلك في غالب حالنا في انفصام بين معرفة الشيء والعمل بضدّ ما هو جميل وخيّر في تلك المعرفة.

هل تطوّر الفضاء العمومي (Espace public) في المدينة التونسية؟

الفضاء العمومي في تونس وباعتبار أنّه مجال لإبداء الرأي الحر له جذور تاريخية ترجع إلى عهد قرطاج التي مدح أرسطو نظامها الديمقراطي وفضله على نظام أثينا وإسبرطا، لكن واقعها اليوم يشهد بأنّ في تونس همزة وصل بين الهيئات الحاكمة وبين الهياكل الحزبية والمجتمع المدني، تتمثل في الأفراد الذين يحتكمون إلى فكرهم الحر في فضاءات مستقلة، هي اليوم افتراضية أكثر منها واقعية لاستخلاص الرؤى والتصورات المتعلقة بمختلف أوجه التنمية، والضغط بواسطتها على الدولة، مُستفيدين ممّا يُتيحه الفضاء العام من إمكانيات للتواصل والتعبير الحر.