اختيار حزب نداء تونس لشخصية الحبيب الصيد، وزير الداخلية السابق لرئاسة الحكومة يكشف عن توجه حقيقي للحكومة المقبلة يتمثل في إعطاء الأولوية المطلقة للموضوع الأمني قبل كل الاستحقاقات الأخرى، أمر قد يراه المراقبون مقبولا بما أن تونس واجهت تحديات خطيرة خلال السنوات الماضية ومازالت تواجه التحديات الإرهابية الخطيرة الداخلية و الإقليمية.
الواقع أن تونس عرفت أوج نموها الاقتصادي في وقت كانت تعتبر فيه مثالا في الاستقرار الأمني في المنطقة العربية، و حتى في العالم. و لاشك أن الحكم الجديد في تونس، الذي خبر جيدا دواليب الدولة طوال العقود الماضية يعرف أن عودة الاستثمار والازدهار الاقتصادي يمر عبر بوابة الاستقرار الأمني.

مطبخ السّاسة
اختيار رجل دولة، خريج وزارة الداخلية، فيه عدة رسائل واضحة لصناع القرار في تونس و العالم. فالمعروف تاريخيا أن وزارة الداخلية هي القوة الحقيقية في تونس ومن تولى مناصب عليا مرّ حتما عبر أروقة هذه الوزارة التي كانت لعقود طويلة هي المسيّر الحقيقي للبلاد. ومنها خرج بن علي الذي حكم تونس لفترة تزيد عن 23 سنة بقبضة أمنية حديدية و نجح في استئصال الجماعات الإرهابية. وحتى بعد الثورة لم تجد الترويكا أفضل من علي العريض الذي شغل منصب وزير الداخلية ليتولى فيما بعد رئاسة الحكومة. وهذا المنطق أو التفكير يعبّر عن إيمان بأن رجل الدولة القوي لا يمكنه أن يحكم تونس إلا بعد أن يخضع لاختبارات القيادة في وزارة الداخلية التي تعتبر من أخطر الوزارات و مصنع القادة في تونس. الحبيب الصيد الذي شغل مدير مكتب وزارة الداخلية قبل الثورة ثم وزيرا للداخلية في عهد حكومة الباجي قائد السبسي ، ثم مستشارا أمنيا لحمادي الجبالي، يعرف جيدا خبايا الوزارة و هو الأقدر في نظر من اختاروه لمنصب رئاسة الحكومة لتولي هذا المنصب و قيادة وزارة الداخلية من بعيد.

نقاط الضعف
لاشك أن وزارة الداخلية مثلت في عهد الترويكا نقطة ضعف كبيرة، بعد أن تم إحالة الكثير من كبار القادة و الضباط إلى التقاعد المبكر، بعد ان تم اتهامهم بأنهم كانوا موالين لنظام بن علي. ثم كثر الحديث في الشارع السياسي عن اختراقات داخل هذه الوزارة وسيطرة شخصيات نافذة تابعة للترويكا على الوزارة الأهم في تونس. وهذا الاختراقات هي التي سهلت تنفيذ عمليات اغتيال سياسية هي الأولى في تاريخ تونس المعاصر و هي التي سهلت فشل الوزارة في القبض على مرتكبي هذه الاغتيالات. ويرى معارضو حكومة الترويكا السابقة أن الوزارة قد تم إضعاف قدراتها من أجل فسح المجال أمام الجماعات المتطرفة لتفرض نفوذها في المساجد و في الشوارع حتى تمكنت هذه الجماعات من احتلال شارع الثورة و القيام بغزوة "المنقالة" في ساحة 14 جانفي المقابلة لوزارة الداخلية. صور كثيرة و أحداث وقعت أكدت أنّ حكومات الترويكا قد أنهكت فعليا وزارة الداخلية ولم تمكنها من الأدوات القانونية و التجهيزات اللازمة لمكافحة الإرهاب، و أكبر دليل على ذلك قانون مكافحة الإرهاب الذي لم يقع تمريره في عهد المجلس التأسيسي السابق. ولم تستعد الوزارة بعضا من أنفاسها إلا في عهد حكومة مهدي جمعة. و اختيار شخصية ذات خبرة أمنية و إدارية في إدارة أهم الوزارات في تونس يعني رغبة المسؤولين الجدد في تونس في طي صفحة الماضي، ورغبة واضحة في تطهير وزارة الداخلية، و إعادتها إلى سالف عهدها. لن يكون الحبيب الصيد الذي وقع عليه الاختيار لتولي رئاسة الحكومة الجديدة هو وزير الداخلية المباشر، لكنه سيختار شخصية لا تقل كفاءة عنه ، و لا تقل ولاء لخدمة المرحلة الجديدة، بمعنى أن رئيس الحكومة الجديد سيكون مساهما في إدارة وزارة الداخلية، مساهمة فعالة، إذ لا تخفى عليه ملفاتها و الشخصيات النافذة فيها. ضمن هذا المسعى سيكون رئيس الحكومة الجديد موضع دعم قوي من كافة التشكيلات السياسية و خاصة ذات التأثير القوي في الشارع، وهي التي تضررت كثيرا من الاغتيالات السياسية و سيجد رئيس الحكومة الجديد كل الدعم من الأجهزة الأمنية التي تعرفه جيّدا. استعادة الأمن سيكون من أهم الملفات المطروحة على الحكومة الجديدة. واختيار وزير الداخلية السابق لرئاستها سيعني أن الحكومة القادمة ستكون مهامها أمنية بدرجة أولى، قبل الحديث عن فتح ملفات أخرى.

ملفات حارقة
رئيس الحكومة الجديد سيكون، ربما سيكون الشخصية الأهم خلال السنوات الخمس القادمة، لأن المهام الموكولة إليه كبيرة و استثنائية فهو لديه فرصة لتسجيل اسمه في تاريخ تونس المعاصر كأحد بناة الجمهورية الثانية، لكن هذا يقوم على جملة شروط أهمها أن يتوصّل إلى الآليات التي تحقق المعادلة الصعبة التي عجزت عنها كل الحكومات التونسية السابقة منذ الاستقلال وهي تحقيق النمو الاقتصادي و تحقيق التنمية الشاملة بما تعنيه من توزيع عادل للثروة. لقد حاولت كل الحكومات التونسية منذ الاستقلال إلى حكومة مهدي جمعة، أن تحقق هذه المعادلة الصعبة، لكنها فشلت و هو ما أدى إلى اضطرابات سياسية و اجتماعية ، في عقود ما بعد الاستقلال، و انتهت هذه الاضطرابات بالثورة التي أطاحت بنظام بن علي. الفريق الحكومي الجديد لن يخرج عن هذه المعادلة، فهو إما أن يحقق النمو و التنمية و يشعر الناس بعدالة اجتماعية و اقتصادية أو أنه سيواجه موجة اضطرابات، كغيره من الحكومات السابقة. لكن الأمر يختلف هنا لأن السلطة التنفيذية الجديدة برأسيها الحكومة و الرئاسة هي سلطة منتخبة و الناس أعطوها أصواتهم بعد أن قدمت لهم وعودا، وبرنامجا اجتماعيا و اقتصاديا، يمكن ان يحقق شيئا من تطلعاتهم.

التشغيل
الفريق الحكومي الجديد عليه أن، يوجه تركيزه على خلق فرص تشغيل حقيقية تمتص الفائض الكبير من البطالة. وفي هذا الشأن هناك الكثير من الحلول، و الكثير من الخيارات، شرط أن تكون الحكومة جريئة في اتخاذ القرارات، وتبادر إلى المغامرة بدل البقاء في إطار البيروقراطية التي عطلت الكثير من فرص التشغيل في الحكومات السابقة. الجميع يعرف أن القطاع العام أصبح اليوم غير قادر على استيعاب أعداد كبيرة في الوظيفة العمومية، ولذلك سيكون الرهان في المستقبل على القطاع الخاص و على المبادرة في بعث المشاريع الخاصة. وقد كانت هناك تجارب ناجحة استطاع من خلالها آلاف الشباب من إنجاز مؤسساتهم الصغرى و المتوسطة. الحكومة الجديدة عليها ان تفعل بعث المشاريع الخاصة، و أن تجد الآليات التمويلية اللازمة حتى يتمكن الشباب من خريجي الجامعات ومراكز التكوين المهني. دون هذا التوجه ستكون محاولات امتصاص البطالة فاشلة. هناك فرص تشغيل أخرى كثيرة يمكن أن ينتفع منها العاطلون عن العمل ويمكن أن ينتفع منها الاقتصاد الوطني بصفة عامة. القطاع الفلاحي الذي ظل مهمشا خلال عقود طويلة يجب أن يردّ إليه الاعتبار في سياسة الحكومة الجديدة، كقطاع استراتيجي لا كقطاع ثانوي، لأن ما توفره الفلاحة من موارد بالعملة الصعبة أر مهم جدا في ميزانية الدولة. الأراضي الفلاحية في تونس ثروة مهدورة خاصة في المناطق الداخلية المهمشة. و الشباب هناك عاطلل ومعطّل، وليس للحكومة سوى أن تقود مشروعا تنمويا حقيقيّا يمكن من استغلال الثروات المهدورة و يجعل من القطاع الفلاحي قطاعا ذا قيمة مضافة. أما المسألة الأخرى التي لا تقلّ أهمية فتتعلّق بأن تونس تمتلك ثروة بشرية هائلة و كفاءات، ولكن تصدير هذه الكفاءات مازال لم يحقق النتائج المرجوة. صحيح ان الدول الأخرى لها ثروات طبيعية لكن تونس لديها ثروات العقول التي لا تقل أهمية. وعندما يتحدث المسؤولون الجدد عن تنشيط الديبلوماسية الاقتصادية فعليهم أن يضعوا في اعتباراتهم مسألة تصدير الكفاءات التونسية إلى أسواق هي في حاجة إلى الخبرات البشرية.

الاستثمار
ستجد الحكومة الجديدة نفسها في وضع مريح نسبيا إذ من المتوقع أن تراجع وكالات التصنيف الدولية، موقف تونس السلبي و ذلك بعد استكمال مرحلة مؤسسات الدولة الدائمة و تحسن النشاط الاقتصادي و البداية في تطبيق الاصلاحات الاقتصادية. في شهر جانفي ستعلن وكالات التصنيف ن الوضع الجديد لتونس، الأمر الذي سيعطيها إمكانية النفاذ إلى اسواق المال الدولية بأريحية. وتنطلق الحكومة برصيد سياسي هام يتمثل في انتقال السلطة بشكل سلمي وحضاري وهي كلها نقاط إيجابية بالنسبة للخارج، وهي كلها رسائل طمأنة لأصحاب رؤوس الأموال في تونس. كما أن الكلمة التي ألقاها الرئيس الجديد الباجي قائد السبسي في خطاب التنصيب، تمثل مواقف واضحة لعلاقات تونس بالخارج في المستقبل وهذا يعني، رصيدا سياسيا مهمّا يمكن أن ترتكز عليه الحكومة القادمة لإقناع الشركاء الاقتصاديين و المستثمرين المحليين و الجانب بالعودة و الاستثمار في تونس بعد الاستقرار السياسي الذي تحقق. هناك مطالب عديدة بمراجعة مجلة الاستثمار وهناك مطالب عديدة بحماية المستثمرين التونسيين من المنافسة غير الشريفة التي يواجهونها من قبل بعض الشركات الأجنبية التي تتحيّل على القانون التونسي.

العدالة الاجتماعية
الحكومة الجديدة أمامها تحدّ كبير يتمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية التي لم تستطع الحكومات السابقة أن تحققها. العدالة الاجتماعية تكون بتوسيع مجالات التنمية و خاصة في الجهات المحرومة و يكون بتحقيق العدالة الجبائية التي مازالت حلما بعيد المنال حيث يتحمل الأجراء الجزء الكبر من الضرائب التي تعود إلى خزينة الدولة في حين تعترف كل الأطراف بأن التهرب الضريبي يجعل تونس تخسر آلاف المليارات سنويا بل إن البعض يقدرها بثلاثة أضعاف الدين الخارجي التونسي الذي تسدده الحكومة. الإصلاح الجبائي واحد من المطالب العاجلة التي ستثبت أن الحكومة الجديدة هي مختلفة عن سابقاتها أو أنها ستكون سائرة على النهج القديم الذي خلق كل الأزمات التي عاشتها تونس سابقا وقد تعيشها مستقبلا.