بيَن الخبير الأمريكي في الشؤون الإفريقية أندرو أنجل، في تقرير نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في شهر نوفمبر2014، أنه لم يكن مقدَرا للانتقال الديمقراطي في ليبيا ما بعد الثورة أن يفشل، إذ تتوفر على احتياطي هائل من الثروة النفطية، الأكبر في إفريقيا والتاسع في العالم، والكثير منها ما زال غير مكتشف.
وأوضح أنه مباشرة غداة الثورة، سرعان ما استعادت ليبيا نسق إنتاجها من النفط بـ1.5 مليون برميل في اليوم، واحتفظت بـ130 مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي، وبعد الثورة، حلم العديد من الليبيين، بطريقة غير واقعية، أن تتطوَر ليبيا على غرار البلدان الخليجية، نظرا لتوفرها على موارد طبيعية هائلة ونسبة سكان صغيرة.
دولة فاشلة
لكن منذ الثورة، أصبحت ليبيا دولة فاشلة، وتدخلت القوى الأجنبية عسكريا، وهو ما يظهر من خلال الضربات الجوية على طرابلس من قبل مصر والإمارات العربية المتحدة في شهر أغسطس الماضي، فضلا عن تزايد التدخل المصري مؤخرا في عمليات عسكرية ببنغازي، وأشار التقرير إلى أن التصدعات والانقسامات العرقية والقبلية والجغرافية والأيديولوجية ، بدأت تظهر ضد الخلفية الإسلامية مقابل خلفية أخرى "غير إسلامية" مناهضة لها.
وقدَرت الأمم المتحدة أنه اعتبارا من 27 أغسطس الماضي، نزح 100.000 مواطن ليبي داخليا، بالإضافة إلى 150.000 آخرين كانوا يسعون للجوء إلى الخارج، وخلال الثلاث أسابيع التي سبقت شهر أكتوبر الماضي، تسبب تصاعد القتال في إجبار نحو 290.000 شخص على النزوح من مختلف أنحاء البلاد.
وذكر الباحث الأمريكي أن هناك برلمانين متنافسين في ليبيا الآن: مجلس النواب المنتخب ديمقراطيا، ويتمركز في مدينة طبرق شرق البلاد، ويضمَ أغلبية من القوميين والفيدراليين، والمؤتمر الوطني العام، الذي وقع إعادة إحيائه، ومقرَه طرابلس، وهو كيان "انتهت ولايته منذ فترة طويلة ، يسيطر عليه الإسلاميون."
وأبرز أن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، اعترفوا بمجلس النواب على أنه السلطة الشرعية، غير أن المسؤولين الأتراك تجاهلوا الإجماع الدولي على مقاطعة الحكومة في طرابلس، والتقوا مسؤولين في مصراتة وطرابلس.
وقد عيَن كلا البرلمانين رئيسين لحكومتين مختلفتين، وقد اختارا بدورهما فريق العمل الخاص بكل منهما، فضلا عن "القوات المسلَحة" لكليهما أيضا، وفيما يبدو أن هذا الصراع هو عبارة عن صراع "إسلامي" مقابل "غير الإسلامي"، أو مجلس النواب ضد المؤتمر الوطني العام، تعد الانقسامات على الأرض أكثر تعقيدا بكثير، إذ يبدو أن البلاد ممزَقة، حيث يخشى الليبيون أن يتحول وضعهم كما في لبنان سابقا أو العراق أو الصومال حاليا.
أسباب
وبيَن الكاتب أن هذا التقرير يبحث في أسباب فشل الدولة في ليبيا، ودخولها مؤخرا في حرب أهلية، مؤكَدا أن حدوث حرب أهلية ليبية طويلة الأمد، تهدد استقرار شمال إفريقيا ودول الصحراء والساحل، وتمثل احتمالا مخيفا أن تصبح "صومال جنوب البحر الأبيض المتوسط"، والمقلق أكثر هو أن ليبيا أصبحت الملاذ الآمن لـ"المنظمات الإرهابية"، بما في ذلك المدينة الليبية التي أعلنت ولاءها لما يعرف بتنظيم "الدولة الإسلامية".
وأكَد أندرو أنجل أن هناك الكثير مما يجب القيام به من قبل واشنطن لتخفيف المخاطر التي يطرحها تواصل تدهور الوضع في ليبيا، واعتبر أنه لئن كانت الإحصاءات المقدمة من قبل الحكومة المركزية بخصوص إدماج الثوار غير موثوقة، إلا أنها تشير إلى حدَ كبير إلى وجود اتجاه نحو الإدماج، وبيَن أن المجلس الوطني الانتقالي السابق خطَط على وجه الخصوص، لإدماج الثوار في سلكي الجيش والشرطة والقوى العاملة بصفة عامة، وقد صرح رئيس الأركان السابق يوسف المنقوش في 15 فبراير 2012، بأنه تم وضع 5000 عنصر من الثوار تحت إشراف وزارة الدفاع، وتجهيز 12.000 عنصر آخرين لإدماجهم في القوات المسلحة.
وأكَد أن ليبيا لم تحقق تقدَما على المستوى السياسي، حيث شهدت البلاد العديد من الانقسامات والصَراعات حتى على المستوى الضيق منها، ما أدَى إلى فشل الدولة.
توصيات
وبيَن معدَ التقرير أندرو أنجل في التوصيات السياسية التي قدمها، أن الخطوات التي ستتبعها الولايات المتحدة والحلفاء مستقبلا في ليبيا، يجب أن تشمل مواصلة تعزيز الحوار الذي أطلقته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، حيث وجَهت البعثة بالإضافة إلى مكتب المفوَض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة نداء لإقامة "حوار سياسي شامل".
وفيما يبقى الحوار مع "الجماعات المتطرفة" مثل "أنصار الشريعة" مستحيلا، لأن مثل هذه الجماعات ترفض الحوار والديمقراطية أصلا، يمكن للإسلاميين البراغماتيين مثل جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم في السلاح شمال غرب البلاد، أن يكون لهم توجَه آخر، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان الحوار سينجح في جلب الأطراف الليبية المعنية إلى طاولة واحدة.
وعلى الرغم من ذلك، يقول الباحث الأمريكي، من شأن الإجراءات التالية أن تمكن على الأقل من وقف إطلاق النار مؤقتا، والعمل مع مجلس النواب لدفعه من أجل الرجوع عن تصنيفه لقوات "فجر ليبيا" في 24 أغسطس الماضي على أنها "تنظيم إرهابي"، نظرا إلى أن مثل هذه الخطوة ، يمكن أن تسهل الحوار ومن المحتمل أن تجعل الإسلاميين المنتخبين في مجلس النواب يحضرون جلساته بعد أن قاطعوها منذ انطلاق عمله.
وبين أنجل أنه بصرف النظر عن عدم وجود مناخ ملائم بين جميع الأطراف، والدور السيئ الجلي لتنظيم "أنصار الشريعة" والمتطرَفين، يأتي التحدي الأساسي للحوار من قبل الكتائب التي تتمتع بالقوَة الحقيقية، والتي أثَرت على حكم المحكمة العليا الليبية.
علاوة على ذلك، تجاهلت جميع الأطراف المسلَحة، سابقا وحاليا الشرعية والديمقراطية والمسارات التشريعية والقانون الدولي، ولا سيما بعثة الأمم المتحدة الخاصة للدعم في ليبيا، وسيكون أمرا محل تساؤل ما إذا كانوا سيحترمون فجأة هذه المبادئ.
وأشار إلى أنه في ظل غياب أية اتَفاق سياسي أو وقف لإطلاق النار، ينبغي على واشنطن وحلفائها الأوروبيين، بالإضافة إلى الأمم المتحدة وعن طريق سبل أخرى، أن تعمل على ألا تمتد حالة عدم الاستقرار الحاصل في ليبيا إلى الدول المجاورة.
استنتاجات
وبيَن، أندرو أنجل، في تقريره أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أوضح أن تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا سنة 2011، كان متوائما والمصالح القومية الأمريكية، بما أنه كان "مقتنعا بأن الفشل في التصرف في ليبيا من شأنه أن يتسبب في الكثير من الخسائر للولايات المتحدة"، وأضاف أن "الإجراءات التي اتخذها "الناتو" منعت القيام بمجزرة وتشريد النازحين".
لكن الرئيس أوباما اعترف أيضا أنه "يتابع عن كثب التحول الديمقراطي في ليبيا، ما يمثَل أحد أكبر الأخطاء في سياسته الخارجية."
والآن، وفق أنجل، دخلت ليبيا مرحلة الحرب الأهلية، ما انجر عنه عواقب إنسانية وبيئية، مشابهة، إن لم تكن أكبر، لتلك التي حدثت خلال تبرير التدخل في سنة 2011.
وأكد التقرير أن الوضع في ليبيا يتطلَب مرة أخرى العمل، ولكن، يجب ألا يقع العبء في المقام الأول على الولايات المتحدة، مشيرا إلى أنه من الأفضل الاعتراف بوجود تعدَدية، ليس فقط في ما يتعلق بتقاسم التكاليف في وقت تشحَ فيه الموارد والدعم الشعبي، ولكن لأن التحديات التي يشكلها الوضع في ليبيا على المنطقة بأسرها، شاقَة جدا بالنسبة إلى أي أمة تريد حل الأزمة الليبية بمفردها.
وأشار الخبير في الشؤون الإفريقية إلى أنه سيكون من المشجع وضع استراتيجية سياسية موحدة بخصوص ليبيا، تنبثق من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة، مبرزا أنه لم يفت الأوان لإنجاح الحوار في البلاد والخروج بها من حالة الصراع التي تكتنفها.
ومع ذلك، تتطلب الخطوة التالية وضع استراتيجية سياسية وأمنية منسَقة وموحَدة، استعدادا لأسوأ السيناريوهات في ليبيا، وقال الكاتب إنه بالإضافة إلى الولايات المتحدة، برزت فرنسا كفاعل رئيسي في وضع الأساس لعمليات مكافحة الإرهاب، ولكن يحتاج هذا الجهد إلى أن يكون جزءا من اتفاق إقليمي أوسع نطاقا من أجل تجاوز المصالح الضيقة وزيادة الفعالية.
وبيَن أنه يمكن للولايات المتحدة والاتَحاد الأوروبي والأمم المتحدة، تنفيذ عدد من التدابير للتخفيف من التداعيات الإقليمية ، على غرار الحدَ من تدفق الأسلحة ومنع تصدير النفط بطريقة غير شرعية، فضلا عن توسيع نطاق العقوبات.
ولاحظ أنجل، أن مساعدة ليبيا، على المدى الطويل، على المحافظة على أصولها المالية وعائدات مواردها الطاقية، سيساعد على حماية البنية التحتية الطاقية لليبيا ويضمن سلامة التراث الليبي لمواطنيه.
وختم الباحث الأمريكي بالتساؤل عمَا إذا كان يجب أن تنهار الدولة تماما وتنزلق ليبيا نحو حرب أهلية شاملة، حتى تخفض واشنطن من سقف توقَعاتها على المستوى الوطني، وتركَز على النهج الذي يدعم الحكومات والقبائل المحلية الصديقة بهدف مكافحة الإرهاب على المدى القصير ، فضلا عن الشروع في إعادة بناء ليبيا على المدى الطويل من الألف إلى الياء؟، وفق تعبيره.