منذ الانقسام الحاد الذي شهدته ليبيا مع أوائل العام 2014، مع بداية أزمة التمديد للمؤتمر الليبي العام (المجلس التشريعي السابق)، ثمّ إطلاق عمليّة "الكرامة" في بنغازي شرقا، وبعدها عمليّة "فجر ليبيا" في طرابلس غربا، دخلت البلاد في نفق مظلم من الأزمات المتناسلة، ولم تنجح المبادرات الكثيرة في إنهاء حالة الاحتراب والاقتتال المستمرة منذ سنوات والتي أثّرت بشكل سلبي كبير على مختلف مناحي الحياة في البلاد.

مبادرات كثيرة، أممية وإقليميّة وأخرى من دول الجوار، ومبادرات محليّة متعثرة، اصطدمت كلها بالفشل الذريع، وحتى اتفاق الصخيرات الذي أفرز الوضع القائم الآن في ليبيا برعاية دوليّة واعتراف ودعم واسعين، لم ينجح هو الآخر في حلحلة الوضع، إن لم يكن هو أيضًا عنصرًا في تعميق الأزمة والانقسام، هذا الانقسام الذي لامس في بعض مراحله، وسط خطابات متشنجة، حتى الوحدة الترابية للبلاد. انقسام وصل أعلى مراحل الخطر، وأثّر بشكل كبير على حياة الليبيين اليوميّة في السيولة والرغيف والتعليم والدواء والأمن.

ويبدو الجميع في ليبيا، على مستوى الخطاب السياسي على الأقل، واعين بضرورة إنهاء هذا الوضع، وتجاوز هذه المرحلة الانتقالية، التي طالت لثماني سنوات كاملة، لم تنجح فيها البلاد في إعادة بناء مؤسساتها الحيوية، أو الدخول إلى مرحلة الاستقرار النهائي وصياغة آليات دستورية وسياسية لتسيير عمليّة التداول على السلطة، وهو ما سبب إرباكا لكافة المسارات في البلاد، وأثّر في جميع مناحي الحياة، وسبب نزيفا حادًا في الاقتصاد، وتشنجات اجتماعية عميقة موفّرا مناخات مناسبة لكل الحساسيات الجهوية والقبلية والمناطقيّة.


** مشكل ليبي متشعّب ومعقّد:

يمكن تعقيد الأزمة الليبية، بالتالي صعوبة حلّها، في تشعبها الكبير وتداخل خيوطها وأوراقها، فبخلاف كونها قد مسّت جميع القطاعات: اقتصاديا وأمنيًا وسياسيًا بل وحتى اجتماعيا، فإنّ تداخل عناصر الأزمة متسرّب إلى عدم وجود تصوّر موّحد أو اتفاق حتى على النقاط التأسيسية لإعادة البناء والإصلاح. خلافٌ حول هويّة الدّولة، حول العلم، حول الدستور، وحول تقاسم السلطة والثروة، وحول المؤسسات. اختلاف أسبابه أيضًا متشعّبة، بين الإيديولوجي والجهوي والمناطقي والثقافي/الإثني.

وبخلاف ذلك، تبدو مشكلة الميليشيات والسّلاح مشكلة مربكة بشكل كبير، والخيارات أمامها صعبة وقاسية، فهناك الخيار العسكري الذي اتخذه الجيش الليبي في الشرق والجنوب والذي تمكّن من القضاء على الميليشيات المسلّحة وجعل مسألة الأمن واحتكار السلاح حصرا بيد مؤسسات الدّولة (الحكومة المؤقتة) أمنيا وعسكريا، ولكنه كان خيارًا في سياق خاص جدًا قد لا تقبله مناطق أخرى مثل العاصمة طرابلس ولا تقدر على تكلفته، لعدّة اعتبارات على رأسها الدّيمغرافيا والكثافة السكّانيّة. وهناك خيار ثاني سياسي، وهو مسألة هضم هذه الميليشيات في أجهزة الدّولة وهو الخيار الذي أبان فشله في كلّ مرّة تخرج فيه هذه الميليشيات لتعلن، في مرحلة ما، عن رفضها الانصياع للقرارات السياسيّة والحكومية. 


** الثروة والسلاح والسلطة ..الثالوث المعمّد بالدّم:

منذ العام 2011، وسقوط نظام العقيد معمّر، استسلمت ليبيا لحالة من الفوضى الشاملة، سيطرت المليشيات على مفاصل الدّولة وعلى المؤسسات الرئيسية في البلاد والمعابر والشركات الحكوميّة، وانتشر السلاح وصار فض النزاعات يتم بقوّة الرصاص، ووصلت حدّة النزيف في الإقتصاد مؤشرات كبيرة وخطيرة، هذا الوضع عبّر عنه المبعوث الأممي إلى ليبيا الحالي، غسان سلامة، في تصريح صحفي حول الفساد، بحدّة بالغة أتبعه بتدوينة قال فيها: " هل أقول أن بلدا يصدر 1.3 برميل نفط يوميا لديه مئات من مدارس الصفيح وعشرات من المستشفيات المترهلة ولم ينفق مليما على صيانة منشآته بينما يخصص 60 بالمائة من ميزانيته لمرتبات موظفيه ومئات الملايين أتعاب محاماة للخلافات في مؤسساته هو على هذه الحال بمجرد الصدفة؟".

هذه التشريح، القاسي، من قبل المبعوث الأممي إلى ليبيا، يكشف بشكل واضح حجم الفساد والتردّي الاقتصادي الذي وصلته البلاد بعد سبع سنوات من "الثورة" في بلد ثري وغني وصاحب موارد طبيعيّة رهيبة.

في الجوهر، هذا هو قلب الصراع، الثروة والمال، وككل صراع سياسي في العالم لا يحتكم إلى القانون وإلى دستور منظّمٍ للحياة، يجنج هذا الصراع بشكل أساسي إلى العنف والرّصاص والحرب والدّم، وهو الدوّامة التي تدور فيها ليبيا منذ ثماني سنوات كاملة، ولا زالت تبحثُ حتى اليوم عن الشّمعة التي تضيء نهاية هذا النّفق المظلم والطّويل، عبر مبادرات متنوعة لم تنجح كلّها سوى في كسرة حدّة هذا الصراع أحيانا أو إعادة تدويره، دون أي نجاح فعلي في وضع حد لهذا النّزيف المتواصل في الأرواح والاقتصاد والسنوات التي تمر من عمر أجيالٍ لازالت تبحث عن الاستقرار والعيش الآمن في بلادها وتحقيق أحلامها الشخصية الصغيرة ..وحتى الوطنيّة الكبيرة!


** مؤتمر غدامس ..البحث عن نهاية النفق: 

منذ وصول المبعوث الأممي الحالي إلى ليبيا، كان مشروعه الرئيسي واضحًا: مؤتمر يجمع كافة أطياف الشعب الليبي تحت خيمة واحدة وجامعة، من أجل المصالحة وتجاوز أخطاء وثارات الماضي، والاتفاق على صيغة نهائيّة لإنهاء المرحلة الانتقالية عبر انتخابات رئاسية وتشريعية، تنهي حالة الانقسام السياسي وتوحّد المؤسسات تحت مظلّة شرعيّة واحدة وصلبة.

كانت تصورات هذا المؤتمر منذ البداية تأخذ أشكالا متعدّدة، متقاطعة مع مبادرات دوليّة واقليمية وحتّى محليّة أخرى، (مؤتمر أبوظبي، باريس، باليرمو ..الخ) وبدا المبعوث الأممي لينا في تعامله وقبوله لمختلف هذه المبادرات وهضمها داخل الخط العريض لمشروعه المقترح، بهدف الرئيسي المعلن حول تنظيم الانتخابات بأسرع ما يمكن والاحتكام لصناديق الاقتراع رغم جميع العراقيل. لتصل الصيغة النهائيّة لهذا التصوّر في إعلانه عن مؤتمر جامع سيعقد في منتصف شهر أبريل القادم، بمدينة غدامس على المثلث الحدود بين ليبيا وتونس والجزائر.

ووفقًا لما نقله راديو فرنسا الدّولي عن مصادر خاصة هذا الأسبوع، سيجمع المؤتمر ممثلين عن جميع الأطراف، بمن فيهم زعماء العشائر ومسؤولو النظام السابق. وفي الوقت الحالي، لم يتم الكشف عن عدد المشاركين، تمامًا مثل أسمائهم.

غسان سلامة، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، أمضى عدة أشهر في التحضير لهذا المؤتمر. الذي تعطيه الأمم المتحدة أهمية كبيرة، لأنه في حال نجاحه، سيؤدي هذا الاجتماع إلى تنظيم انتخابات قبل نهاية عام 2019. 

ورغم ما يلقاه هذا المؤتمر من انتقادات من عدّة أطراف، تقابلها موجات واسعة من الترحيب، يبدو ملتقى غدامس الجامع، مع غموض عناصره ونقاطه الرئيسية، كشمعة أخيرة في نفق ليبي طويل مظلم، لا يمكن التكهن أبدًا بنتائج فشله ولا حتى نجاحه، ولكن يبقى الأمل عند الجميع، بما فيهم المواطن الليبي البسيط، أن تكون نهاية هذه الأزمة قريبة.. قريبة جدا !