أن نتذكر واقع الثقافة في زمن الحرب على امتداد منطقتنا العربيّة في تاريخها الحديث يعني آليا تأخذنا الذاكرة إلى لبنان. ربما لا يكون لبنان استثناء في ازدهار الأدب والفنون أيام الحرب على المستوى العالمي، لأن الحربين الأولى والثانية في أوروبا صاحبتهما أيضا طفرة ثقافية مازالت عناوينها راسخة إلى اليوم، لكن لبنان عربيا علامة أخرى في هذا الإطار. فالبلد المتوسطي الصغير كان في لحظة من التاريخ القريب منافسا للقاهرة ودمشق وبغداد في ما ينتج من مؤلفات. الفرق فقط أن ما ينتج في لبنان كان تحت صوت الصواريخ ورائحة الموتى الأمر الذي يجعل منه حالة خاصّة.

في مقال لها منتصف العام 2015، تطرقت كاتبة أمريكية تدعى مارشا لينكس كوايلي إلى الثورة الثقافية في لبنان أيام الحرب الأهليّة. تقول الكاتبة أن تلك الفترة كانت" عصرًا من الانفتاح على أدب العالم والتجريب المنهجي، مع إنجازات مهمة للكاتبين إلياس الديري ويوسف حبشي الأشقر، وآخرين. انتعشت دور النشر ووجدت الكتب التي لم يمكن طباعتها في الدول المجاورة لسبب أو لآخر طريقها إلى لبنان" وأضافت في المقال نفسه أنه "منذ عام 1975، لم تتوقف الرواية اللبنانية عن مصارعة الحرب الأهلية التي ما زالت هوسًا أساسيًا -إن لم تكن الهوس الأساسي الوحيد- للإنتاج الروائي اللبناني، متخطية اللغات والأساليب. حيث استمر الروائيون -ذوو المكانة الدولية- في التطرق للموضوع مرارًا وتكرارًا". فهل يعني ما كتب أن الحرب رغم ما تخلفه من مآسٍ ورغم الرعب الذي تزرعه في الأنفس، هي فرصة لتثوير الذات ثقافيا؟

من يقرأ هذه المقدّمة يعتقد أن المقال سيتذكّر واقع الثقافة في لبنان خلال الثلث الأخير القرن الماضي، لكن الهدف مما كتب هو تسليط الضوء على حالة مماثلة في الحرب والاقتتال لكن هل هي مماثلة أيضا في الثقافة، وهي الحالة الليبية. وهل تستقيم المقارنة بين البلدين في مستوى الظروف والإنتاج أم أن الفرق واضح وكبير بين الحالتين.

ليس خاف على أحد ما يقع في ليبيا. البلد الكبير بثرواته وبموقعه، واقعٌ منذ ثماني سنوات تحت صراعات أشبه بالحروب الأهلية. بلد منقسم في كل مؤسساته ومهدد في وحده، ودماء الإخوة موزّعة بين القبائل. وهكذا تتشابه صورة الحرب في بلداننا العربية. فهل صورت الثقافة هذا الواقع كما وقع في لبنان السبعينات والثمانينات أيام الحرب الأهلية، أم أن المثقف الليبي أخذته الحرب نحو الاستكانة والهروب نحو أماكن يبحث فيها أساسا على الأمن.

بعد التحولات التي شهدتها ليبيا في 2011، كتبت مقالات عدّة تحلل واقع البلاد بكل التغيرات الحاصلة. من بين المقالات ما ركّز على واقع الثقافة في زمن الحرب ومقارنته بما كان قبل ذلك. الواقع أن فترة العقيد معمّر القذافي بدورها لم تكن بذلك الثراء الثقافي في مستوى إنتاجات الكتّاب والشعراء. صحيح أن هناك كتابا معروفين وهم رموز على مستوى المنطقة العربية مثل الصادق النيهوم وابراهيم الكوني ومعهما بعض الشعراء، لكن بوضع مقارنة على المحيط الليبي فإنها أسماء محدودة. أما بعد 2011، فالمسألة مختلفة. البلاد شهدت تراجعا كبيرا في الإنتاجات الثقافية. وحتى القاعدة التي تقول بأن المأساة تفتح مجالات الإبداع لم تسر في ليبيا، لأن الكل وجد نفسه في دائرة الموت، خاصة مع صعود موجة التطرف المهيمنة حتى على أفكار الأفراد، وهذا ما لم يكن موجودا في الحالة اللبنانية أيام الحرب الأهلية أو حرب الاحتلال الإسرائيلي.

في حالة لبنان تلك، كان العالم يعيش على الأفكار التحرريّة المناهضة للاستعمار والمتأثرة بالإيديولوجيات اليسارية الاشتراكية وفي قلب المعارك "استمر الكُتَّاب بالكتابة، بعضهم في لبنان والبعض الآخر في المنفى، واضعين كل المواضيع المتعلقة بالهويّة اللبنانية تحت الاختبار"، أما في ليبيا فالأمر مختلف؛ العالم توجه نحو موجة جديدة من التطرّف وصعود التيارات الدينية المعادية لأفكار التحرر. وإذا عاش لبنان طفرة ثقافيّة غير مسبوقة، وعاش مثقفوه تمردا على الخوف، فكتبوا عن الحرب والغزل والتخلّف والإيديولوجيا، فإن ليبيا عاشت ردّة وتراجعا بعد أن وجد المثقفون على قلّتهم أنفسهم مهددين أو مسجونين أو مهجرين، ولتفتح الساحة أمام أفكار المجموعات المتخلفة التي ودت في الحرب فرصة في بث الرعب بين الناّس.

في لبنان زمن الحرب المثقفون كانوا يرفعون السلاح، وفي ليبيا زمن الحرب المثقفون مرفوع في جوههم السلاح. في لبنان الحيطان تعبيرة عن التمرّد والمقاومة، في ليبيا الحيطان مزينة بالدم وبشعارات الترهيب. في لبنان الكتب والمجلات والجرائد مرفوعة على فوهات البنادق، وفي ليبيا رؤوس الأبرياء مرفوعة على أسنة الإرهاب. في لبنان نمت الأفكار التقدّميّة وخُلقت حركات تجديدية، أما في ليبيا فأرغم المجتمع على الرضوخ النسبي للرجعيّة التي خلقت التطرّف والماضويّة، وهذه مفارقات مؤلمة بالتأكيد.

من هناك كان الفرق بين الحالتين؛ حالة أولى في الثلث الأخير من القرن العشرين المقدّس فيها كان الكتاب والصورة والإبداع والنور وحب الحياة، وحالة ثانية في الثلث الأول من القرن الحالي؛ المقدّس فيها هو التخلّف ونشر القتامة   ومعاداة الحياة. المنطق يقول أن الزمن يزحف إلى الأمام لكن عندما ننظر للحالة الليبية، والحالة العربيّة عموما، نكتشف أننا أمام ردّة حقيقية، ردة على كل المستويات وعلى رأسها الثقافة.

صحيح أن الظرفيّة التاريخية مختلفة بين البلدين. في تلك الفترة كان القلم تعبيرة دائمة عند مثقفي لبنان، وكان التنافس في وجهين، الأول حول من يكون وفيا لبندقيته وبلده، ووفيّا لعقله وما ينتجه فأخرجا معا صورة نادرة عن قيمة الثقافة في الحرب. أما الحالة الليبية  فلم يعد القلم ذا قيمة، وحتى المثقف على قلّته لم يعد هو نفسه من حيث الالتزام بقضايا البلد والنّاس.

من خلال هذا القياس، يمكن أن نكتشف اختلافا كبيرا. الحرب في ليبيا تركت جراحا كبيرة بين الناس، ربّما يعذر المثقفون على استكانتهم. الواقع الجديد الذي وجدوا أنفسهم فيه، يحرّم الثقافة ويعتبرها من الترف وقلّة الذوق والالتزام. هذا الأمر ساهمت فيه الايديوليوجيات المتطّرفة المعادية للإبداع التي ترى أن العالم يجب أن يتوقف لأجلها ويعود إلى الخلف.



* لبنانًا (في الأصل لبنانَ)