الوضع العالمي المتقلب، الذي أضحى يتسم بكثرة بؤر التوتر، أصبح يفرض على جلّ الفاعلين الدوليين ضرورة التركيز على مراجعة آليات وسبل حفظ السلام، التي ظهر أنها تتسم بالقصور، من خلال استنباط أساليب جديدة لفرض السلام. غير أنّ هذه الضرورة، وفق دراسة للباحث أندريان جونسن صادرة عن المعهد الملكي البريطاني للدراسات الدفاعية، يقابلها انقسام سياسي عالمي وتباين على مستوى الرؤى عطّلا إلى درجة كبيرة أي عملية للمراجعة والتطوير، رغم الخطوات العملية التي تحققت إلى حدّ الآن.

عند انعقاد المراجعة الجديدة لعمليات حفظ السلام الأممية، سرد الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، سلسلة من المشاكل التي تعترض مهمّات حفظ السلام المعاصرة. وأوضح الأمين العام أنّ هذه العمليات كثيرا ما يتمّ تفويضها في أماكن لا يوجد فيها سلام حتى تتمّ المحافظة عليه، أضف إلى ذلك أنّ بعض العمليات يتوجّب عليها التعامل مع صراعات يصعب فيها تحديد الأطراف المشاركة بشكل واضح أو تُشارك فيها عدة أطراف. وبعض العمليات الأخرى تشتغل في بيئات معقدة تتزايد فيها تهديدات غير تقليدية ولا متناظرة مثل العبوات الناسفة المصنوعة يدويا.

من جهة أخرى، يرى البعض أنّ عمليات حفظ السلام تترافق أحيانا مع بعض المشاكل التي تكون نابعة من وجودها بالأساس؛ حيث عبّرت بعض الوحدات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال، عن الانشغال بالآثار المنجرة عن النشاطات العسكرية الهجومية الّتي تقوم بها وحدات التدخل، على حيادية البعثة بشكل أوسع والمخاطر الّتي يتعرض لها جنود الأمم المتّحدة. وفي سياق آخر حذّر، مؤخرا، قائد القوة العسكرية للبعثة الأممية في مالي من أنّ الجنود الأمميين يقومون بالأساس بعمليات محاربة الإرهاب لكن دون أن تتوفر لهم الموارد اللازمة.

وفي جنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى تم توسيع مهمة البعثة الأممية لتشمل حماية المدنيين في الأماكن التي تتفاقم فيها المشاكل الأمنية. هذا فضلا على أن 4 من بين البعثات الأممية الأكثر تحديا، تحمل عبارة “تثبيت الاستقرار” في عناوينها، والسؤال الأهم بناء على ما سبق مفادهُ؛ هل هذا هو الدور المناسب للبعثات الأممية؟

هل نحن إزاء وجهات نظر متباينة؟

يرى الباحث أندريان جونسن أنّ التباين في وجهات النظر حول مهام بعثات حفظ السلام، قد يؤدي إلى مشكل أعمق ألا وهو تآكل التفاوض السياسي حول عمليات حفظ السلام؛ أي ما يجب وما لا يجب عليها فعله، خاصة في ما يتعلق بمسائل من قبيل موافقة الأطراف المحلية واستخدام القوة ومهام أخرى من قبيل توسيع سلطة الدولة.

وكثيرا ما يتم تصوير الانشقاق، مثلما هو الشأن مع قضايا عالمية أخرى، على أنّه مجرد هوّة بين الشمال والجنوب، لكن الواقع أكثر تعقيدا.

في الحقيقة، يقول جونسن، ربما توجد الآن أربعة معسكرات كبيرة متعلّقة بعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة هي الآتي:

• الدول الثلاث الدائمة العضوية في الأمم المتحدة (فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، هي عموما ليست بلدانا مساهمة بشكل كبير في هذه البعثات، لكنها تدفع نحو عمليات أكثر طموحا وصلابة. ويمتلك هذا المعسكر قرارا قويا بخصوص التفويضات.

• البلدان الأفريقية، التي تتضمن الكثير من البلدان المساهمة بشكل كبير بالجنود، لا تمتلك سلطة كبيرة بخصوص التفويضات والتخطيط للبعثات، لكنها تساند العمليات الصلبة مثلا، دول أفريقيا الجنوبية تكوّن وحدة التدخل في جمهورية أفريقيا الوسطى.

• بلدان أخرى مساهمة بالجنود في عمليات السلام لديها سلطة أقل في ما يخص التفويضات والتخطيط للبعثات رغم أنّ العديد منها يعدّ من أكبر البلدان المساهمة بالجنود، وقد قدّمت هذه الدول تشكيات في هذا الصدد طال أمدها. وفي حين يوجد تنوع في هذا المعسكر تتعلق المخاوف لدى الدول الأكثر محافظة مثل الهند وباكستان والبرازيل بالتخلي عن المبادئ الأساسية لعمليات حفظ السلام ومبدأ احترام السيادة الوطنية. كما يخشى البعض من توسع الأمم المتحدة، حيث عبّر سفير الهند لدى الأمم المتحدة في تصريحات سابقة قائلا: “المجلس يتبنى فعلا مقاربة غير قابلة للاستمرار في ما يخص حفظ السلم والأمن الدوليين”.

• بلدان مساهمة بالجنود، لكنها في ذات الوقت متشكّكة ومتخوفة من التوجهات الأخيرة، شأن روسيا؛ وأفضل مثال عن المخاوف حول توجه عمليات حفظ السلام، تلك المذكّرة التي قدمتها روسيا إلى مجلس الأمن في شهر يونيو سنة 2014، حيث حذرت من انتهاك البعثات الحديثة للمبادئ الأساسية لعمليات حفظ السلام.

هذه الانقسامات السياسية الواسعة، حسب الباحث، تعني أنّ هذه المراجعة لعمليات حفظ السلام الأممية مُهمة وأنّ مسارها يمكن أن تحدّده كيفية إدارة هذه الخلافات، خاصة أنها تطرح معها أسئلة من قبيل؛ هل ذهب تسيير عمليات حفظ السلام إلى حد تجاوز فيه الإجماع الدولي؟ وهل تستطيع البلدان الثلاثة الدائمة العضوية في الأمم المتحدة الاستمرار في الدفع نحو المزيد من التفويضات الطموحة دون المزيد من مساهمات البلدان الغربية بالجنود؟

هل من جديد لحل الإشكال؟

مرّت 15 سنة منذ آخر مُراجعة شاملة لعمليات حفظ السّلام التّابعة للأمم المتّحدة الّتي وردت في تقرير الإبراهيمي الّذي نُشر في سنة 2000.

أمّا وثيقة الآفاق الجديدة لسنة 2009 الّتي دعت إلى الشراكة على المستوى السياسي وإلى عملية أكثر شمولية في خلق البعثات ومعاضدتها لم تتناول المسائل المفهومية للهدف من عمليات حفظ السّلام وحدُودها.

ومع بداية عملية المراجعة الحالية -المقرر تقديمها إلى قمة الجلسة العامة للأمم المتحدة لسنة 2015- يبدو أنّ هناك ثلاث نتائج ممكنة، وهذه النتائج ستكون متوقّفة على التوصيات النّهائية وكيفيّة تبنيها -أو عدم تبنّيها- لاحقا من قبل أكبر المساهمين بالمال والجنود في عمليات حفظ السّلام.

في ذات السياق، تبنّى مجلس الأمن الدولي، مؤخرا، قراره المتعلق بقوات الشرطة في عمليات حفظ السلام، والذي يضمن تدريبا أفضل وتعليمات واضحة للضباط على الأرض، فيما كلّفت الأمم المتحدة الرئيس السابق لتيمور الشرقية خوسيه راموس هورتا، الحائز على جائزة نوبل للسلام بإعادة النظر في مفهوم هذه البعثات.

وفي هذا السياق، اعتبرت وزيرة الخارجية الأسترالية جولي بيشوب، الّتي تتولّى بلادها الرئاسة الدورية لمجلس الأمن هذا الشهر، أنّ “هذه التدابير ستتيح التأكد من أنّ جميع ضباط الشرطة من أفريقيا أو أميركا يعملون وفق المعايير نفسها”.

وأوضح مفوض الشرطة فريد ييغا الّذي ينتمي إلى البعثة الأممية في جنوب السودان، أمام المجلس أن “عناصر الشرطة في البعثات الدولية يضطلعون بدور أساسي في حفظ السلام”.

وأورد مستشار الأمم المتحدة لشؤون الشرطة ستيفان فيلر أنّ “القرار الذي صدر بالإجماع يقرّ أيضا إجراء تدريبات لتطوير فرق التدخل الخاص ووحدات التحقيق وجعل النساء الشرطيات أكثر قدرة على التعامل مع قضايا الاعتداء الجنسي”. واعتبر فيلر أنّ القرار يشكل “تقدما رئيسيا” على طريق الاعتراف بدور عناصر الشرطة في بعثات الأمم المتحدة.

من جهته، رأى هيستر بانيراس، قائد الشرطة في القوة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور في غرب السودان، أن هذا القرار “يمنحنا مزيدا من هامش المناورة لتلبية بعض حاجاتنا وإحداث فرق على الأرض”.

لماذا لم يتحقق أي تقدم إلى حد الآن؟

قد يكون هناك تقدّم أكثر تواضعا خاصّة في ما يتعلق بالمسائل العمليّاتية، فرغم أنّ المراجعة قد لا تردم الهوة بخصوص حفظ السلام، مازالت هناك إمكانية للاتفاق حول توفير قدرات أكبر لعمليات حفظ السّلام بما في ذلك المزيد من التكنولوجيات المتطورة. وربما تكون هناك نتيجة ثالثة تتمثل في الحصول على مراجعة لا تعدو أن تكون رجع صدى لمجهودات إصلاح سابقة لعمليات حفظ السلام ولا تضيف شيئا جديدا يذكر.

ومهما كانت الحصيلة، يؤكّد الباحث، أنه لا يشك في أهمية حفظ السلام الأممي في تحقيق الاستقرار لأكثر الناس هشاشة في العالم، لكنّه يلفت إلى وجوب الاعتراف بأنها مؤسسة ذات حدود. فصحيح، وفق رأيه، أنّ العمليات الأممية تلعب دورا مهما في تعبئة الموارد الدولية في المساعدة على الانتقال من الحرب إلى السلم في أكثر الدول، لكنّ كثيرا ما تنتقد العمليات الأكثر طموحا بسبب التعهد بما لا تستطيع تحقيقه والتكفل بمهام غير مناسبة لها. كما توجد احتمالات مهمة لاستعمال البعثات الأممية لمجرد غياب حل أفضل أو لأنه “يجب فعل شيء ما”.

*نقلا عن العرب اللندنية