يوم 02 مايو عام 2020 توفي الفنان إيدير إثر مرض عانى منه الأعوام الأخيرة من حياته. تمر غدا الذكرى الثانية عن وفاته. وكنت بمناسبة أربعينيته كتبت هذا المقال لمجلة "انزياحات" التي كانت وزارة الثقافة الجزائرية شرعت في إصدارها في عهد الوزيرة السابقة السيدة مليكة بن دودة، غير أن هذه المجلة توقفت عن الصدور دون سابق إنذار وبقي المقال معلقا، فرأيت أن أنشره بهذه المناسبة.

التمثل المأساوي للهوية

منذ أن انشغلت بقضايا الهوية، وبعد متابعة طويلة نظريا وميدانيا لوضعنا الهوياتي المغاربي، لم أستسغ عددا من المفاهيم المتداولة في حقل النقاش والتنظير السياسي والفكري، مثل صفة الأمازيغي و/أو العربي التي تطلق على فنان مغاربي أو مفكر أو مناضل سياسي. أن ينتسب فنان إلى بلده أو إلى جهته فالأمر يبدو عاديا. فإيدير فنان "قبائلي" بوصفه ينحدر من منطقة القبايل، وهو جزائري، وفرنسي من أصول جزائرية، فكل هذه الانتماءات لها مسوغاتها؛ لكن أن يوصف جزائري بالأمازيغي وجزائري آخر بالعربي فهذا ما لم أستسغه من منطلق أن ليس في جزائر اليوم أمازيغ وعرب، بل جزائريون ذوو أصول أمازيغية وعربية؛ والفرق شاسع، على المستوى الأكنوتولوجي، بين أن تصف نفسك بالعربي أو الأمازيغي، وبين أن تتحدث عن أصولك القومية التي تنحدر منها، وهي تنطبق على أسلافك، أمازيغ وعربا، التحموا وانصهروا بيولوجيا وثقافيا، وما أنت في المحصلة سوى منتوج ذلك الانصهار الذي دام قرونا وأنجب البلد الذي تنتمي إليه تحت مسمى "الجزائر" أو جهاته بتعدد أسمائها، كما أن الجزائر اليوم ليس فيها مجال ترابي يكتسي مظهرا جيوسياسيا يحمل اسم العرب أو الأمازيغ.

 فكيف نتمثل، ثقافيا، سياسيا وجيوسياسيا، ذاتنا الجمعية الجزائرية المتولدة عن عصور سبقَت، تمازج فيها أسلافنا الأمازيغ والعرب، وأعراق أخرى فينيقية، رومانية، إغريقية، عثمانية، أندلسية، إسبانية وفرنسية ؟

في الجزائر جهات ككل البلدان تحمل أسماء معلومة لدى كل الناس (القبايل، الشاوية، السوافة، جلفاوة، شعانبة، مزابيون، توارق، شلوح، ولاد نايل، حميان.....) وليس هناك جهة تحمل اسم "العرب" أو اسم "الأمازيغ" حتى نقول عن أهلها أنهم "عرب" أو "أمازيغ"، لا في الجزائر ولا في أي بلد مغاربي.

ومازال الجدل محتدما حول قضايا ومفاهيم ذات صلة بالنزعة القومية والهوية والذاكرة والثقافة، وهو جدل يفتقد إلى النضج من حيث أن مؤطّريه من كلا التيارين تغلب عليهما نزعة القومية الإثنية (Nationalisme Ethnique) وتكاد تغيب عن سجالاتهما ثقافة القومية المدنية (Nationalisme Civique).

إن إقصاء التاريخ لحساب الذاكرة يترجم تمثلا مأساويا للهوية. فالهوية، وفضلا عن ارتباطها بالذاكرة والثقافة، تبقى ذلك التجلي الناجم عن علاقة تتقاطع وتتفاعل فيها أصناف من الانتماءات، الفردية والجماعية، المحلية والعالمية... ؛ فهوية الفرد، في السيكولوجيا الاجتماعية، هي الاعتراف بما هو عليه (الفرد)، من قبله هو بالذات أو من قبل الآخرين. مفهوم الهوية يوجد في تقاطع بين السوسيولوجيا والسيكولوجيا، ولكنه أيضا موضوع اهتمام البيولوجيا والفلسفة والجغرافيا. ووفق ماكس فيبر، تتشكل الهوية كتصور من أربعة أسس (الوجود الفيزيقي المادي، النوع البيولوجي، الانتماء إلى ثقافة أو جماعة، والشخصية الفردية). يسمي سيفالي(Cifali.M) الهوية المغلقة تلك التي يبنيها أصحابها على أساس تمثلات واحدة تكون غالبا تلك التي يحملونها هم عن أنفسهم، ومنه فهويتهم هي ما يريدون هم أن يعرفوا من خلالها بخصائص معينة يحددونها مسبقا لأنفسهم، بينما الهوية المفتوحة هي ما تم بناؤها وفق تمثلات متعددة ومختلفة يحملها الفرد حول نفسه، ويحملها الآخرون عنه، أي هي مبنية وفق تعدديةفي التعريف.

بالمعنى الذي نستخدمه عادة، الهوية القومية أوهوية الأمة (Identité Nationale) يمكن تعريفها على نطاق واسع على أنها مجموع السمات المشتركة المؤسسة لتماسك وانسجام وتضامن الأشخاص المتكتلين في مجموعة لها مواصفات الأمة. في هذا الصدد، فإن التعابير على غرار، "طابع الأمة"، "شخصية الأمة"، "شعور الأمة"، "فردانية الأمة" أو "وعي الأمة"، يتم اليوم استخدامها بالتبادل أحيانا. من هذه البراديغما يتحدد انتماء الجزائري إلى الأمة الجزائرية، في علاقة جدلية بانتمائه إلى المدينة أو ما نسميه بالمواطنة "Citoyenneté" كانتماء تذوب فيه كل الانتماءات الأسرية والحزبية والدينية..[1].

من أجل جزائر جديدة

بمجرد أن أذاعت الميديا خبر وفاته، حتى أصبح إيدير موضوع جدل بين المتطرفين سواء أولئك الذين حاولوا احتكاره على خلفية عرقية مزوغوية أو أولئك المتضخمين عروبويا وإسلامويا. وتجاوزا لذلك البوليميك ولقاموسه العنصري، سأكتفي بتقديم قراءة مختصرة في عينة من المعطيات المتاحة حول السيرة الفنية للراحل.

في شهادته حول الراحل يقول وزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي: "يختلف إيدير عن كثير من الفنانين، فهو مثقف جدّا، ويملك قراءات سياسية عميقة، يعبّر عن أفكاره بلغة بسيطة دون تعقيد، ولا يزعجه إذا اختلفت معه، كما أنّ أخلاقه عالية، متواضع بلا استعلاء وهادئ بلا رعونة، حيث يطغى على سلوكه البعد الإنساني، فهو سريعُ البداهة، حاضر الذهن، يُحسن التعبير بالنكتة الهادفة. كما أنه من أكثر الفنانين الذين التقيتهم تفتحًا على الثقافات، كونه قارئ جيد، وناقد ذكي، وأذكر أنّهُ حدّثني عن سي محمد أومحند كما تحدث عن المتنبي وقيمة شعره وقوة لغته، وتأسّف لأنه لم يتمكن جيّدًا من التحكّم في العربية الفصيحة، وربّما هذا ما جعله يتردّد في فترات سابقة في تلبية دعوات وصلته من مصر ولبنان والخليج".

وتحت عنوان "العندليب يحلّق عاليًا"، كتب ياسمينة خضرا: "لم يغادر إدير سوى منفى للعبور إلى منفى نهائي منذ أن وجد نفسه مجبرا على مغادرة وطنه الأصلي بحثا في مكان آخر عن صدى صوته، مثل التروبادور المترحل بحثًا عن طريقه. سنفتقده كثيرا في أفراحنا الصاخبة هذه الأيام بسبب أحزاننا وخيبات أملنا ، لكن غيابه سيكون بالنسبة لنا، نحن الجزائريين ومعجبيه في كل مكان، لحظة رائعة من التأمل".


في ضوء هذين الشهادتين، نقف على المعاناة التي يعيشها المثقف الجزائري وحالة تمزقه بين بحثه عن مناف أكثر تسامحا وحرية وبين عذابات أشواقه إلى وطنه. وحالة إيدير ليست معزولة، فلائحة المثقفين والفنانين الذين عانوا من استحالة التواصل مع وطنهم و/أو الذين رضوا بالمكوث فيه رغم الحرمان هي لائحة طويلة تدعو بإلحاح إلى فتح ورشة بحثية تستقصي الأسباب وتفتح حوارا عسى يتدفق شلال من رضوان هذا الوطن على هذا الصنف من "العصاة"، وهم عصاة رفضوا الخنوع وعشقوا الحرية بشكل مفرط ربما، لكنهم في جميع الأحوال أبناء هذا الوطن، إنه لمن العار أن يفشل هذا الوطن في احتضان أبنائه بما يكفي من الرضا والتفهم.

التقيت بالراحل للمرة الوحيدة، ربيع 2016 بوجدة أثناء الاحتفاء به إثر فوزه بجائزة “الرباب الذهبي”، حيث تسلمها بمسرح محمد الخامس بمدينة وجدة[2]. لم نتحدث طويلا بسبب ضيق الوقت، وأذكر فيصدد نقاشنا حول الهوية، أن الجزائر لا تكون دون عروبة ولا دون مزوغة. وقد قلت معلقا: أتفق معك أن الجزائر بلد عربوفوني وليس عربيا، ولكن لقد جرت في عروقها دماء أسلافنا العرب مع دماء أسلافنا الأمازيغ، فلم تعد أمازيغيةً أيضا، إنها جزائرية وكفى، فحرك رأسه بالإيجاب وافترقنا بعد أن ناداه المنظمون.

عدد من التصريحات تؤكد إيمانه بالجزائر بكل أطيافها دون مغالاة وتطرف. فهو، على الصعيد النضالي، من دعاة السلام، رحل وليس بوسعنا، نحن المؤمنين بالسلم، سوى أن نعمل على تعميق ثقة شبابنا في السلمية والإيمان بغد أفضل، ولاسيما ونحن نحتفل باليوم العالمي (العيش معاً في سلام)، وهو اليوم الذي اقترحته الجزائر حيث ولدت فكرته في وهران وتبنتها منظمة الأمم المتحدة. إنه يوم 16 مايو من كل عام. بلدان عديدة وهيئات لم تكتف بالترحيب بالفكرة، بل ابتكرت منها ما يؤهل شعوبها، فأثمرت مشاريع وبرامج نجحت من خلالها في حل كثير من النزاعات.

أما نحن أصحاب الفكرة، فشلنا في تدبير حياتنا السياسية بشكل عقلاني. وقد باتت حاجتنا كبيرة وملحة إلى خطاب جديد لا مكان فيه للعنصريين ودعاة الفتنة والمتحجرين، خطاب إنساني يعبر عن تطلعات شبابنا، له قابلية الإثمار والتحقق على أرض الواقع.

إيدير: فن الإصغاء إلى التراث المحلي

لم يكْتفِ المطرب حميد شريط بمجرد الاستمتاع بموسيقاه وبما حققته له من شهرة، بل كان مصغيا ذكيا إلى تراثه المحلي، وإلى تلك الروح الثاوية خلف القصص والأساطير التي جعل منها مصدر إلهامه. لقد بذل جهدا ذهنيا وسيكولوجيا في تخصيب كلمات قليلة بأزمنة روحية عميقة، وتكثيف تلك الأزمنة بما فاض وجدانه من شعر وشوق، فضلا عن صوته الهادئ المتدفق نعومة ودفئا، والآداء الموسيقي المتميز.

غنى إيدير "أفافا إينوفا" في مجالسه الحميمة، ثم غناها في أول ألبوم له بذات العنوان عام 1976، بعد ذلك  بثلاثة أعوام غادر إلى فرنسا، ومن باريس شق دربه إلى العالمية.

الأغنية مستوحاة من أسطورة أمازيغية ملخّصها كفاح وتضحية فتاة اسمها "غريبة" نحو والدها العجوز "إينوفا" الذي عاقبته الأقدار. قصة القصيدة لها تفاصيل ذات خلفية اجتماعية، دينية وتربوية، وملخص الأغنية هو أن العجوز إينوفا اتّفق مع ابنته، لأسباب أمنية، على كلمة السر التي من خلالها يفتح لها الباب، وكلمة السر هي أن تَرُجَّ أساورها بدل أن تطرق الباب، عندها فقط يعرف أنها ابنته وليست وحش الغابة. تروي الأغنية أن الفتاة كلما زارت والدها ارتمت في حضنه وهي تنشد بصوت حزين: "أخاف وحش الغابة يا أبي".

لقد أبدع إيدير  في هذه الأغنية، كما في أغان أخرى، مستلهما من الثقافة الشعبية، ليتحفنا بمزيج من وقائع راهنة وأخرى ضاربة في القدم، مزيج من التجارب المعيشة والمتخيلات الشعبية بعمق بساطتها وسحر خرافاتها[3].

من أغاني إيدير الأكثر شهرة، أغنية السّندو "ماخضة اللبن"، وقد استوحى كلماتها من يوميات والدته. يرى سيباستيان بوسوا (Sébastien Boussois) أن أغنية السّندو من أكثر أغانيه شهرة وسحرًا غناها بشكل رائع. لكن هذا النص المجازي كان قبل كل شيء تكريمًا لوالدته، ولجميع الأمهات. خلال حفل سحري، يقول الباحث، كشف التروبادور عن سر القصيدة: "من هنا فهمت شيئًا مهمًا جدًا في حياتي، هو أنه ليس من البديهي أن يكون الشخص امرأة بشكل عام في أي مجتمع، سواء كان حديثًا متقدما أو لا، أعتقد أنه أقل من ذلك في المجتمعات ذات التقاليد القوية مثل بلدي، وأردت أن أقدم الدليل بتلك السيدة، التي هي أمي. لقد أطلقت هذه الأغنية دون وعي من أعماق طفولتي، من خلال الرؤى التي شعرت بها، وعشتها، والأحاسيس التي مررت بها، وأدركت أن هذه الأغنية ليست ملكي بمفردي بل ملك مشاع لنا جميعا"[4].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سعيد هادف، علم الجهل: كيف نفهم وضعنا السياسي في ضوء الأكنوتولوجيا، منشورات الوطن اليوم 2019.

[2]هي جائزة سنوية مغربية برعاية عالمية، تمنح لنجوم الموسيقى في العالم العربي، حيث سبق لملك الراي الشاب الخالد نيلها في يوليوز 2013 .

 [3]اجترح الصديق الشاعر والأكاديمي عاشور فني تقليدا أتحفنا فيه بمقالات روى لنا عبرها قصص عدد من القصائد الشعبية الجزائرية المغناة، ومن ضمنها أغنية "أفافا إينوفا"، وهي قصة تنطوي على تفاصيل يتقاطع فيها الرمزي بالواقعي، وهي قصة جديرة بالقراء.

[4] باحث في العلوم السياسية فيبجامعة بروكسل الحرة، ومتخصص في العالم العربي والمسائل الأورو-متوسطية (في شهادته حول الراحل صدرت بمنبر "lecourrierdelatlas.com/")


*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب