ليس سهلاً أبدًا على جماعة في حجم الإخوان المسلمين بطموحاتها "الأمميّة" و تفرّعاتها الدّوليّة و تاريحها الكبير و احلامها المشرّعة على افق شاسع يضيق بحكم دولة واحدة و لو كانت في حجم "أم الدّنيا" أن تتقبّل و بلا ردّة فعلٍ خروجها من اللعبة السياسيّة في مصر (مسقط الرّأس و الدّولة الكبيرة في العالم العربي و الإسلامي) معزولةً عن كرسي سلطةٍ دفعت من أجله طيلة قرن من الزّمان أبهض الأثمان و التضحيات و الأزمات و الملاحقات و التهجير و السّجون و المنافي ,فأيّ فصيل سياسي آخر بهذا الحجم و هذه الطموحات لن يكون قادرًا على كبت أيّ مظهر من مظاهر ردّة الفعل على خروج مأساويّ مماثل .

فَعلى عكس تجارب القوميين في الحكم ,و الذين نجحوا الى حد كبير في بناء كيانات قطريّة قويّة و السيطرة عليها و تحصينها من الدّاخل حيث لم تسقط هذه النّماذج القوميّة في معظمها إلاّ بالتدخّل الخارجي و القوّة العسكريّة الأجنبيّة بدءً من العراق مرورًا بليبيا وصولاً الآن الى سوريا ,إلاّ أنها -أعني التّجارب القوميّة- لم تنجح في بناء المشروع الوجدوي الكبير الذي بُمثّل يافطتها الكبرى و شعارها الجماهيري التعبويّ المثير و البرّاق ,فحزب "البعث" مثلاً الذي يتقاطع مع الإخوان في تجاوزه لمفهوم "الوطن/القطر" الى مفهوم أشمل يترجمه شعاره المركزي "أمة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة" ,و الذي نجح في بناء دول قطريّة قويّة و صلبة في كل من العراق و سوريا كانت عصيّة على الإختراق داخليًا و الذي لم ينجح في المقابل في تحقيق المبدئ الأوّل من شعاره الكبير "الوحدة و الحرية و الإشتراكيّة".

فجماعة الإخوان فشلت على عكس هذا و على النّقيض منه تمامًا في بناء كيانات قطريّة قويّة تكون نواةً للمشروع الوحدوي "الإسلامي" الكبير ,فإزاحتها خارج المشهد السياسي في مصر مع تصنيفها كجماعة ارهابيّة و خروجها -الأقلّ حدّة- من الحكم في تونس ,و ترنّحها في تركيا مع اتساع دائرة الغضب الشعبي ضدّها و تأزّم وضعيتها في منطقة ,هي دلالات واضحة على هذا الفشل في المستوى القُطري الذي يبدو أن الإخوان أهملوه لصالح الحلم بــ"دولة الخلافة" ,فلم يفهم الإخوان كما فهم القوميون ان الخطوة الأولى لأي مشروع وحدوي (قومي أو ديني) هي الدّولة القطريّة القويّة خاصة و انهم مسنودون بما لم يتح للقوميين قبلهم أقصد "الشّرعية الإنتخابيّة" و القاعدة الشّعبية الكبيرة و الدّعم الأمريكي و المناخ "الدّيمقراطي" الذي أفرزهم كحكام في هذه البلدان ,فالقوميون وقفوا على قواعد "الشّرعية الثّورية" و الفعل العسكري/الإنقلابي و كان مشروعهم (رغم سيماته الوطنية التحررية و التقدّمية) مُسقطًا و عموديًا و قسريًا و منظورًا اليه بعين السّخط الأمريكيّة مسنودًا بقوّة الدّولة الأمنيّة و قبضتها الحديديّة ,لهذا يذهب المراقبون الى القول بأنّه قد كان على الإخوان ان يستفيدوا من هذه العناصر و ان يأخذوا وقتهم في تركيز حكمهم بخطاب متعالي عن الصّدامية و معاداة باقي مكونات المجتمع و عدم التسرّع في فرض نموذجهم الإجتماعي و الاقتصادي و الثقافي و العمل بمنطق "الاصلاح" لا "الثّورة" و التخفّف من المعاجم الايديولوجيّة المنفّرة و الراديكاليّة و اللعب في المساحة الوطنيّة المشتركة مع كل الجسم السياسي و الاجتماعي في البلاد لا الانعزال بخطاب متعالي و متشنّج و عدائي كلّفها الحرب مع الجميع .
فالإخوان في مصر بدؤوا مشوارهم بخطاب القسم الذي ألقاه مرسي بإشارة إلى فترة السّتينات ,الشيء الذي فهمه قطاع كبير من المتابعين على أنّه نوع من تصفية حسابٍ فكري و تاريخي مع الرّئيس جمال عبد النّاصر صاحب المكانة الكبيرة في قلوب الملايين من أبناء الشّعب المصري الذين منهم من صوّت لمرسي نفسه في جولة الإعادة من الإنتخابات بعد خروج المرشّح النّاصري حمدين صبّاحي ,و رغم محاولته الترقيعيّة اللاحقة بتعيين نجل المفكّر و المنظّر القومي عصمت سيف الدّولة كمستشار له ضمن فريق رئاسي كبير ,إلاّ أنّ "المحظور" كان قد حصل و فُهمت الإشارة الأولى و غابت الثّانية ليكون شبّان "التيّار الشّعبي" بإرثه النّاصري في طليعة القائمين على "حملة تمرّد" التي أسقطت في النّهاية الرّئيس مرسي و أسقطت حكم الإخوان .
في تونس لم يختلف المشهد كذلك إلاّ بقدر إختلاف السياقات و الخصوصيات بين البلدين ,فحركة النّهضة التي نجحت في تفادي السّيناريو المصري بل وضمنت لنفسها خروجًا -و لو على مضض- بخسائر أقل من نظيرتها المصريّة حيث أنّ إختلاف التركيبة السياسيّة للبلدين و عدم تطابق الصّورة بالنّسبة للدور التاريخي و الثقل السياسي للجيش في كلا الدّولتين و حتّى الإختلاف في التّركيبة الإجتماعية و ربّما الوزن الإقليمي و الموقع الجيو-إستراتيجي أيضًا كلّها عوامل تحفظ الفارق بين التّجربتين و تضمن عدم استنساخ المسارات بصورة متطابقة ,غير أنّ المنهج الذي اعتمدته النّهضة في تعاملها مع الأوضاع داخل البلاد وطريقة إدارتها للأزمات لم تختلف جوهريًا عن اخوان مصر ,فمنذ البداية كان الخيار صداميًا مع كلّ منظمات المجتمع المدني و على رأسها الإتحاد العام التّونسي للشغل القوّة النّقابيّة و الجسم الإجتماعي الأقوى في البلاد و المتجذّر في الحياة السياسيّة التّونسيّة منذ أكثر من نصف قرن و المسنود بتاريخ نضالي كبير ضد الإستعمار زمن الإحتلال و ضد الإستبداد زمن حكم الحزب الدّستوري الواحد ,و هو الأمر الذي كلّفها مواجهة ألاف الإضرابات و الإحتجاجات في كلّ القطاعات مع خلق جو متأزّم حصرت به نفسها في الزّاوية في مواجهة كل القوى المدنية و الدّيمقراطيّة في البلاد .
و هذه ليست سوى عيّنة من صراع أكبر خاضه الإخوان على عجل و بلا تروّي من أجل "أخونة" الدّولة و فرض نمط إجتماعي و ثقافي جديد ,فالخطابات عن "الخلافة السّادسة" و إنفلات معاجم "النّصر و التّمكين" و تقسيم المجتمع إلى "علمانيين" و "إسلاميين" ,و المحاولات المتكرّرة للنيل من مرتكزات الدّولة الحديثة (أعني دولة ما بعد الإستقلال في تونس و دولة ما بعد ثورة يوليو في مصر) كلّها أشياء كانت تُؤشّر الى رغبة جماعة الإخوان في فرض تصوّرها على المجتمع و السياسة و الدّولة ,و دخول المعركة باكرًا من أجل هذا الهدف ,وحتّى قبل أن تركّز أسس حكمها و تفهم دواليب الدّولة و تنجح في السيطرة على مفاصل البلاد ,الأمر الذي كانت نتائجه عكسيّة بالنّسبة لها فكان الخروج من السّلطة و خسارة الكثير.

لذلك ليس سهلاً بأي حال أن تتقبّل جماعة بحجم الاخوان هذه الخيبة التي كانت كبيرة بحجم الحلم التاريخي و المشروع و الهدف المُراد ,فهذه الخيبة ستكون لها تأثيرتها لا الآنية فقط بل المستقبليّة أيضًا خاصةً مع تصنيف الجماعة في مصر أرض المنشأ و الميلاد كجماعة إرهابيّة الأمر الذي سيعيق كثير عمليّة اعادة بناء نفسها فضلاً على العودة الى سدّة الحكم الأمر الذي يقدّر المراقبون أنّه لو حصل فلن يكون قبل سنوات طويلة .
و داخل هذا السياق من ردّة الفعل يضع الملاحظون عمليات العنف الأخيرة التي تشهدها مصر و التي يقودها تنظيم "أنصار بيت المقدس" بفكره "الجهادي" و خلفيتة "القاعديّة" و الذي اتّسعت عملياته بشكل أكثر حدّة و دمويّة منذ عزل الرئيس مرسي عن سُدّة الحكم ,الأمر الذي يصفه المراقبون بكونه حالة من ردّة الفعل الإنتقامي على إخراج الإخوان من السّلطة ,و إن كان الجميع لازال يبحث عن الخيط المباشر و الواضح الذي يقطع الشكّ بصفة نهائيّة عن علاقة الاخوان بهذا التّنظيم ,إلاّ أنّ مؤشّرات كثيرة تدلّ على وجود ترابط بينهما ,ليس أقلّها محاولات اغتيال وزير الدّاخلية المصري و التهديدات الموجهة الى المشير عبد الفتاح السيسي و الاغتيال الأخير لمدير مكتب اللواء محمد ابراهيم و التفجيرات المتلاحقة التي تستهدف مراكز الامن و الجيش و المخابرات و العمليات الامنية المضادة ضد الجيش في سيناء .
 و لعل ما يحدث في مصر اليوم يعود بنا الى ماحدث في جزائر التّسعينيات حين عمدت الجبهة الإسلامية للانقاذ الى الدّخول في صراع مسلّح مع الدّولة و تشكيل مع عرف آنذاك بالجيش الإسلامي للانقاذ ردًا حسب زعمها على تعطيل الجيش للمسار الإنتخابي ,مما جعل البلاد تعيش عشريّة دامية أدّت الى تقهقهر الجزائر على المستويين الإقتصادي و السياسي و خلّفت كارثة إجتماعية و انسانيّة مازالت آثارها ماثلة الى اليوم ,كذلك تجربة الزعيم الإسلامي التركي نجم الدّين أربكان و حزبيه الفضيلة و الرفاه حين خاض تجربة الحكم أواخر تسعينات القرن الماضي و التي انتهت على نحو درامي بعد أوّل صدام مع المؤسسة العسكريّة العريقة في البلاد لينتهي به الحال سجينا ,و الأمر نفسه في التجربة السّودانيّة حين انفرط عقد التحالف بين الجبهة الاسلامية القوميّة يزعامة حسن الترابي و المؤسسة العسكرية بقيادة الفريق عمر البشير فهذا التحالف و ان أوصل الإسلاميين إلى السّلطة العام 1989 فإتّه لم يعمّر طويلا و انتهى معيدًا بدوره الى الواجهة مرّة أخرى جدليّة العلاقة بين الجماعات الاسلامية و مؤسسة الجيش .