ولد شكري بلعيد، المناضل اليساري التونسي، في تشرين الثاني/نوفمبر 1964، وكان محامياً ناشطاً في الدفاع عن حقوق الإنسان، ورافع في الكثير من القضايا السياسية في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، مدافعا بذلك على  الطلبة والحقوقيين والمقهورين، ودخل السجن أكثر من مرّة، إلا أنه واصل مسيرته النضالية دون أن يهتزّ أو يتراجع أمام الظلم والاستعباد والدكتاتورية.كما كان المحامي بلعيد، ضمن فريق الدفاع عن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ونشط في لجنة مكافحة التطبيع مع إسرائيل.

 واغتيل يوم الأربعاء 6 فبراير 2013 بالعاصمة التونسية. بعد أن  كان معارضاً شرساً للإسلاميين الذين فازوا بمقاعد السلطة على اثر انتخابات 23 أكتوبر من نفس السنة، ومناضلا في تيار الماركسيين العرب، وأصبح حاضرا بقوة في وسائل الإعلام، ويتصدر المشهد السياسي منذ انتفاضة الشعب التونسي التي دارت رحاها الدّامية منذ 17 ديسمبر 2010.

وعرف بلعيد، زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين، الذي تحصّل على تأشيرة في مارس 2011، بأسلوبه الناقد والجارح والمباشر. إذ لم يهادن على الإطلاق، ولم يرتعب، بل وقف في وجه حزب حركة النهضة الإسلامية، معلنا التحدّي، وكاشفا لتاريخ الإسلاميين الدّموي. وعرف عنه، أنّه يتحرك بمثابة الإلكترون، فحين نحدد موقعه على إحدى شاشات التلفزيون، نكتشف في لحظتها أ،ه انتقل إلى مكان آخر، ليشارك في ندوة ما، وحين نحاول حصاره هناك، يصلنا خبر جديد يفيدنا أنه انتقل إلى مكان آخر كي يشرف على اجتماع شعبي مع الطبقات المقهورة في إحدى الجهات من البلاد التونسية، حتّى أننا نستطيع وصفه بالمصنع النضالي، فهو طاقة لا تنضب من الأمل، صادق في مواجهته لكلّ اللصوص الذين حاولوا سرقة انتفاضة الشعب، إذ لم يعلن الولاء لحزبه، ولا للحكومات، ولا لأصحاب رؤوس الأموال، بل وقف وقفة رعناء من أجل المسحوقين، والمهمشين، والجرحى، والفقراء، والعاطلين عن العمل، والمشردين، كاشفا بذلك كلّ أشكال السمسرة، وخطر الإرهاب القادم، ورياء الإسلاميين الذين فتحوا أبواب القمع على الشعب منذ تولّيهم الحكم، وعلى رأسهم الأب الرّوحي، وراعي القتل الأعظم، راشد الغنوشي.

ومنذ ميلاد الجبهة الشعبية في أكتوبر 2012، والتي كوّنها الشهيد بمعية عشرة أحزاب أخرى، في سبيل خلق قطب تقدّمي له من الانتشارية والشعبية ما يجعله قادرا على التصدّي ومواجهة خطر الظلاميين الداهم، صار شكري بلعيد، وجها مألوفا في وسائل الإعلام، وهو ما جعله يمثل الخطر الأكبر على الإسلاميين بعد كشفه في كلّ مرّة عن حقائقهم، وازدياد شعبيته لدى الناس، ممّا جعله يتعرض لانتقادات شديدة من قبل أعدائه، خاصّة من وزير الداخلية علي العريض، الذي اتهمه بتدبير اضطرابات مناهضة للحكومة، ووصل الحدّ بهم إلى درجة تكفيره، ورسمه في صورة الشيطان الذي يتوجّب التخلّص منه وقتله بأيّ شكل من الأشكال.

وبرغم التهديدات المحيطة به، والإشاعات التي لحقته، إلا أنّه كان في مقدمة التظاهرات الاجتماعية، وأهمّها احتجاجات أبناء محافظة سليانة في ديسمبر 2012، المطالبين بالشغل والتنمية والكرامة الوطنية، والذين واجهتهم حكومة العريض، بالرصاص وخلّفت حوالي ثلاث مائة جريح منهم. حينها اتّهم شكري بلعيد، حزب حركة النهضة، ووصفه بالتنظيم الإرهابي، الذي لا همّ له سوى التنكيل بالشعب. وفي المقابل عمد هذا الحزب إلى  تشويه صورة بلعيد، بل وتمادى أكثر من ذلك، ووصل به الحدّ إلى تجييش المرتزقة، في سبيل مهاجمة أنصاره في جلّ محافظات البلاد التونسية، وخاصّة في مدينة الكاف.

قبل اغتياله بساعات، كان شكري بلعيد، يحدس ذلك، ويعرف أنّ مجهر الرصاص مشيرا إليه، لكنّه ظلّ يابسا وصلبا كي يقول الحقيقة كاملة، فوصف النهضة مجددا، بالمارد الدموي الذي يهدف إلى تفكيك الدولة، وإنشاء ميليشيات لإرهاب المواطنين، وإدخال البلاد في دوّامة العنف. ولم يكن مخطئا، فبعد ذلك بالضبط، كانت الرصاصات قد اخترقت جسده صبيحة يوم 6 فيفري 2013، وهو ما جعل من الجميع أمام منعرج سياسي وأمني حاسم في البلاد التونسية، لأنّ جريمة الاغتيال، كانت متعلّقة بإرهاب الدولة، لا إرهاب أشخاص معينين.

بعد هذه الجريمة، ظلت الجبهة الشعبية، وحزب الوطنيين الديمقراطيين، وزوجة الشهيد ورفاقه، وبعض مكوّنات المجتمع المدني، وجميع أنصاره، محافظين على دربه، ومطالبين بالكشف عن سرّ هذه الحادثة المؤلمة، ومحاسبة الجهات المسؤولة عن هذا المناخ الدموي، وذلك عبر أشكال نضالية مختلفة. ومن الفواجع التي تلت هذه الجريمة، هو اغتيال زعيم حركة الشعب، الشهيد محمد البراهمي، وهو ما زاد الطين بللا، والأزمة أزمات، حيث دخلت البلاد في أتون الرعب، وتغيرت لعبة التحالفات السياسية، إلى أن جاء ما يعرف بالحوار الوطني، الذي أفرز حكومة مهدي جمعة الجديدة، وهي حكومة لاقت استحسانا من قبل البعض، ورفضا من قبل آخرين.

وفي أوّل تشكيل وزاري جديد لهذه الحكومة، بالتوازي مع المصادقة على الدستور الجديد، وأمام مباركة الرأي العام الدولي، جاءت أحداث روّاد من محافظة أريانة، حيث تمكنت قوات الأمن، من قتل سبعة إرهابيين زعمت أن قاتل الشهيد شكري بلعيد، القضقاضي، واحد منهم. وبالتالي يتمّ غلق ملفّ الشهيد، بشكل نهائي، باعتبار أنّ القاتل قتل ورحلت معه الحقيقة، وما إذا كانت جهات سياسية هي التي دفعته إلى ارتكاب عملية الاغتيال. ولكن تبقى الحقيقة رهينة التحقيق القضائي الذي أصرّت عليه بسمة الخلفاوى، أرملة شكري بلعيد، ورفاقه وأنصاره، الذين وصفوا أحداث روّاد بالمسرحية التي تهدف إلى التورية والتضليل وطمس الحقيقة.

من تاريخ "الاغتيال السياسي" في تونس 

إنّ موجة الاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي شهدتها تونس بعد الانتفاضة،  ليست بالظاهرة الجديدة كما ينظر إليها البعض، وإنما ترجع أصولها إلى الحقبة الاستعمارية، فقد اغتالت اليد الحمراء، آلة القمع التي جنّدها الاستعمار الفرنسي، الزعيم النقابي فرحات حشاد، وذلك بتاريخ 5 كانون الأوّل من سنة  1952، في سيارته، بعد مغادرته منزله الكائن في مدينة رادس من الضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية.

ويرجّح أن تكون اليد الحمراء، هي المسؤولة أيضا عن العديد من الاغتيالات الأخرى، كاغتيال القيادي في الحركة الوطنية الهادي شاكر، في منفاه الكائن بمحافظة نابل، في سنة 1953، واغتيال المناضل عبد الرحمان مامي في سنة 1954. كما عرفت تونس في تلك الفترة اغتيالات وطنيين آخرين أبرزهم اغتيال الشيخ السياسي الحسين بوزيان، سنة 1956، بعد يوم واحد من انتخابه عضوا في المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان).

وفي سنة 1956، زمن الاستقلال ، تصاعدت وتيرة الاغتيالات السياسية وتسارع نسقها، خاصّة أثناء حقبة الصراع اليوسفي البورقيبي، بين الزعيمين صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة، إذ تمت تصفية  المئات من أنصار الشقين ولا سيما من مؤيدي "اليوسفي" في مدن الجنوب التونسي، وبالذات في مدينة جربة مسقط رأس الزعيم صالح بن يوسف، الذي اغتيل هو الآخر في سنة 1961 في ألمانيا على يد المخابرات التونسية.ومنذ ظهور الإسلاميين على الساحة السياسية، شهدت محاولات الاغتيالات السياسية تطورا نوعيا، وخاصّة في سنة 1987، حيث قادت خلايا اسلامية عملية تفجير في أربعة فنادق سياحيّة ليلة عيد ميلاد الرئيس الاسبق الحبيب بورقيبة في مدينتي سوسة و المنستير على الساحل الشرقي، و قد اتهمت الاجهزة الامنية انذاك عناصر من حركة النهضة بالوقوف وراء العملية  .

إنّ تواتر نسق الاغتيالات السياسية، في تونس، هو نتاج لصراع بين حكومة الإسلاميين والمعارضة. إذ فشلت حركة النهضة في إدارة دواليب الحكم، فالتجأت إلى التصفية والاغتيالات كي تدخل الشعب في دوّامة من الرعب والخوف، وبالتالي يصبح مطلب الأمن هو من الأوليات، ويتمّ غلق ملفات الفساد،  وينسى الناس مطالبهم الاجتماعية والاقتصادية التي ثاروا من أجلها. كما أنّ هذه ظاهرة الاغتيالات التي راح ضحيتها القياديين في المعارضة اليسارية ، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، كانت مرتبطة أيضا بالجماعات الوهابية التكفيرية التي لا تعترف بمرجعية الدولة والتي تتبنى مشروع الخلافة الإسلامية، ألا وهي حركة النهضة وأتباعها السلفية.