لم يكن رمضان هذا العام مثل سابقيه في كل العالم. ظروف كورونا أفقدته روحه وجعلت أيامه أكثر هدوءا وأقل قيمة. هذا الشهر في الأصل لا قيمة له دون تجمع الناس في المساجد للصلوات ودون أيام التسوّق والحياة النشطة والسهرات العائلية، فالفيروس غيّر كل شيء فيه وحرم الجميع من فرحته صغارا وكبارا، لكن بعض المدن تحافظ بما يمكن على تقاليدها وطقوسها فيه، سواء في الأسواق التي تبدو هذا العام أقل اكتظاظا سواء في المنازل أين تجتهد العائلات في خلق أجواء خاصّة يجتمع فيها الروحي بالترفيهي.

المعروف في عادات التونسيين أنهم يجهّزون أنفسهم لشهر رمضان بشكل مبكّر. أغلب العائلات تشتري ما تحتاجه من مواد أساسية تجنبا لفقدانها أو ارتفاع أسعارها. الكثير من الرجال يحاولون جعل الشهر مناسبة لملازمة البيت وقراءة القرآن وتجنب ضغط العمل بقية الأيام، في حين يكون رمضان بالنسبة إلى آخرين فرصة للعمل في الحلويات والخضروات بالنظر إلى كثرة الإقبال عليها.

94138171_558069914851583_1415616371743522816_n.jpg

(صورة: راديو جفارة)

ميزة رمضان في تونس وككل المدن العربية الأخرى أنه فرصة للتعاون وفعل الخير. الكثير من الجمعيات الأهلية تتجهز قبله بفترة لتجمع المساعدات واحتياجات العائلات الفقيرة. الكثيرون يعرفون قيمة الصدقة في هذا ولهذا يسارعون إما للتبرّع لتلك الجمعيات أو البحث عن الأقارب والجيران المحتاجين ومساعدتهم على المصاريف الكبيرة. 

في مدينة بنقردان القريبة من ليبيا الأمر مشابه، رغم أن هذا العام مختلف للأسباب المعروفة. يكفي أن تدخل وسط المدينة صباحا لتكتشف الطابع الرمضاني فيها. هناك رائحة ما في الشوارع تأخذك مباشرة إلى رمضان. حركة الناس والسيارات استثنائية، يحاول الكثيرون مغالبة النفس بالابتسامة وخلق السعادة. في مختلف الأنهج والساحتين الكبيرتين سيلفت انتباهك  مشهد الباعة يسوّقون بضاعتهم. حتى الأطفال الصغار يمكن أن يشاركوا أباءهم البيع وهذه ثقافة تتوارثها الأجيال في المدينة باعتبارها مركزا تجاريا تقليديا في البلاد.

في الجانب الغربي من وسط بنقردان ينتصب السوق أو ما يسمونه هنا "المارشي". فيه يوجد تجار الخضار والسمك والقصّابون القدامي، يخلقون بينهم أجواء خاصّة ويصنعون المزحة كامل اليوم. عندما يدخل الناس سيسمعون أصوات الباعة كل يتباهى بما يبيع، يقدمون لك أنضج الخضر وأجود أنواع السمك. موقع المدينة جعل بحيرتها مجلبة للأنواع الجيّدة من السمك. يشتكي الناس في السنوات الأخيرة من ارتفاع الأثمان لكن "المارشي" يكون دائما بحركية خاصة، ورغم توزّع الباعة في أماكن أخرى لكن الكثيرين لا يرون قيمة لرمضان دون جولة فيه.

Capture.PNG

في جوانب "المارشي" ينتصب باعة التوابل والزيتون المملح، والمحليات، كل يجتهد في أن يوفّر الأفضل. هذا التجارة تنشط أساسا في رمضان وتكون فرصة للعاطلين عن العمل لتوفير مورد رزق ظرفي، حيث يجتمعون على أرصفة الطريق من الجانبين ينظمون سلعتهم بطريقة تجلب المشتري، وفي ذلك يجد الناس متعة في التجوّل بينهم لتمضية الوقت خارج المنازل.

في مساء رمضان ببنقردان تخف الحركة بشكل كبير في وسط المدينة، ولا يُسمع إلا صوت القرآن في المساجد التي يملؤها المعتكفون، لتتحول الحركة إلى الأحياء أين يتجمع الرجال شبابا وكهولا قبل ساعات الإفطار تحت الأسوار والمتاجر للعب الورق أو "الخربقة" (لعبة تقليدية شبيهة بالشطرنج) حيث تتعالى الأصوات في كل زاوية بين الغضب والضحك.

unnamed (1).jpg

أما النساء فينشغلن مبكرا بالمطابخ أين يصنّفن مختلف الأطعمة كل واحدة حسب اجتهادها وتفننها. في بنقردان وعند العائلات التونسية بصفة عامة، هناك طبقان أو شيئان أساسيان في المطبخ خلال شهر رمضان، "الشربة" و"البريك" يعتبران جزءا من رمضان ولا قيمة له دونهما، بالإضافة إلى الوجبة الرئيسية وبعض الغلال للقادرين. كما أنه في السنوات الأخيرة أصبحت النسوة يجتهدن في تحضير أطباق عصرية من الحلويات تأثرا بما يُعرض على الفضائيات وفي مجلاّت الطبخ.

بعد الإفطار تتوزّع الأدوار وسط العائلات في بنقردان، النساء يجلسن في البيوت لمشاهدة التلفاز. ليست هناك في بنقردان عادة خروج النساء للسهر مثل بقية مناطق البلاد. أما الرجال فيذهبون لصلاة التراويح أين تمتلئ المساجد وتكون فرصة للالتقاء، ثم يذهبون إلى المقاهي لإنهاء السهرة إلى وقت متأخر قد يصل موعد السحور.

ربما كان هذا العام مختلفا في مدينة بنقردان ككل المدن التونسيّة والاسلامية. المساجد والمقاهي مغلقة، الأجواء مختلفة، فيروس كورونا فرض حظرا شاملا على الحركة مما أفقد رمضان طابعه المعتاد لكن في العموم حافظت المدينة في النهار على طابعها في التسوّق وفي خلق أجواء خاصّة لرمضان.